في تاريخ عقائد فرق المبتدعة‎!

هذا سردٌ نفيسٌ للمقريزي رحمه الله، المتوفى في ٨٤٥ هـ ، يسرد تاريخ عقائد المبتدعة في أحد فصول كتابه النفيس: “المواعظ ‏والاعتبار بذكر الخطط والآثار” والمعروف بالخطط المقريزية، نقلته من نسخة الشاملة 188-192 / 4 ، دون مقابلة مع الأصل ‏المطبوع‎:

ذكر الحال في عقائد أهل الإسلام، منذ ابتداء الملة الإسلامية إلى أن انتشر مذهب الأشعرية‎

‎”‎اعلم أن الله تعالى لما بعث من العرب نبيه محمدا صلّى الله عليه وسلّم رسولا إلى الناس جميعا، وصف لهم ربهم سبحانه وتعالى، ‏بما وصف به نفسه الكريمة في كتابه العزيز الذي نزل به على قلبه صلّى الله عليه وسلّم الروح الأمين وبما أوحى إليه ربه ‏تعالى، فلم يسأله صلّى الله عليه وسلّم أحد من العرب بأسرهم، قرويهم وبدويهم عن معنى شيء من ذلك، كما كانوا يسألونه ‏صلّى الله عليه وسلّم عن أمر الصلاة والزكاة والصيام والحج وغير ذلك مما لله فيه سبحانه أمر ونهي، وكما سألوه صلّى الله ‏عليه وسلّم عن أحوال القيامة والجنة والنار، إذ لو سأله إنسان منهم عن شيء من الصفات الإلهية لنقل كما نقلت الأحاديث ‏الواردة عنه صلّى الله عليه وسلّم في أحكام الحلال والحرام، وفي الترغيب والترهيب، وأحوال القيامة والملاحم والفتن، ونحو ‏ذلك مما تضمنته كتب الحديث، معاجمها ومسانيدها وجوامعها‎.

ومن أمعن النظر في دواوين الحديث النبويّ، ووقف على الآثار السلفية، علم أنه لم يرد قط من طريق صحيح ولا سقيم عن أحد ‏من الصحابة رضي الله عنهم، وعلى اختلاف طبقاتهم وكثرة عددهم، أنه سأل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن معنى شيء ‏مما وصف الربّ، سبحانه به نفسه الكريمة في القرآن الكريم، وعلى لسان نبيه محمد صلّى الله عليه وسلّم، بل كلهم فهموا معنى ‏ذلك وسكتوا عن الكلام في الصفات، نعم ولا فرّق أحد منهم بين كونها صفة ذات أو صفة فعل، وإنما أثبتوا له تعالى صفات ‏أزلية من العلم والقدرة والحياة والإرادة والسمع والبصر والكلام والجلال والإكرام والجود والإنعام والعز والعظمة، وساقوا ‏الكلام سوقا واحداً‎.

وهكذا أثبتوا رضي الله عنهم ما أطلقه الله سبحانه على نفسه الكريمة من الوجه واليد ونحو ذلك، مع نفي مماثلة المخلوقين، ‏فأثبتوا رضي الله عنهم بلا تشبيه، ونزهوا من غير تعطيل، ولم يتعرّض مع ذلك أحد منهم إلى تأويل شيء من هذا، ورأوا ‏بأجمعهم إجراء الصفات كما وردت، ولم يكن عند أحد منهم ما يستدل به على وحدانية الله تعالى، وعلى إثبات نبوّة محمد صلّى الله ‏عليه وسلّم، سوى كتاب الله، ولا عرف أحد منهم شيئا من الطرق الكلامية ولا مسائل الفلسفة، فمضى عصر الصحابة رضي الله ‏عنهم على هذا إلى أن حدث في زمنهم القول بالقدر، وأنّ الأمر أنفة، أي أنّ الله تعالى لم يقدّر على خلقه شيئا مما هم عليه‎.

وكان أوّل من قال بالقدر في الإسلام، معبد بن خالد الجهنيّ، وكان يجالس الحسن بن الحسين البصريّ، فتكلم في القدر ‏بالبصرة، وسلك أهل البصرة مسلكه لما رأوا عمرو بن عبيد ينتحله، وأخذ معبد هذا الرأي عن رجل من الأساورة يقال له أبو ‏يونس سنسويه، ويعرف بالإسواريّ، فلما عظمت الفتنة به عذبه الحجاج وصلبه بأمر عبد الملك بن مروان سنة ثمانين، ولما بلغ ‏عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما مقالة معبد في القدر تبرّأ من القدرية، واقتدى بمعبد في بدعته هذه جماعة، وأخذ ‏السلف رحمهم الله في ذمّ القدرية، وحذروا منهم كما هو معروف في كتب الحديث، وكان عطاء بن يسار قاضيا يرى القدر، ‏وكان يأتي هو ومعبد الجهنيّ إلى الحسن البصريّ فيقولان له: إنّ هؤلاء يسفكون الدماء ويقولون: إنما تجري أعمالنا على قدر ‏الله، فقال: كذب أعداء الله، فطعن عليه بهذا، ومثله‎.

وحدث أيضا في زمن الصحابة رضي الله عنهم مذهب الخوارج، وصرّحوا بالتكفير بالذنب والخروج على الإمام وقتاله، ‏فناظرهم عبد الله بن عباس رضي الله عنهما فلم يرجعوا إلى الحق، وقاتلهم أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، ‏وقتل منهم جماعة كما هو معروف في كتب الأخبار، ودخل في دعوة الخوارج خلق كثير، ورمى جماعة من أئمة الإسلام بأنهم ‏يذهبون إلى مذهبهم، وعدّ منهم غير واحد من رواة الحديث كما هو معروف عند أهله‎.

وحدث أيضا في زمن الصحابة رضي الله عنهم مذهب التشيع لعليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، والغلوّ فيه، فلما بلغه ذلك ‏أنكره وحرّق بالنار جماعة ممن غلا فيه وأنشد‎:

لمّا رأيت الأمر أمرا منكرا … اجّجت ناري ودعوت قنبرا‎

وقام في زمنه رضي الله عنه عبد الله بن وهب بن سبأ، المعروف بابن السوداء السبأي، وأحدث القول بوصية رسول الله صلّى ‏الله عليه وسلّم لعليّ بالإمامة من بعده، فهو وصيّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وخليفته على أمّته من بعده بالنص، وأحدث ‏القول برجعة عليّ بعد موته إلى الدنيا، وبرجعة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أيضا، وزعم أنّ عليا لم يقتل، وأنه حيّ وأن فيه ‏الجزء الإلهيّ، وأنه هو الذي يجيء في السحاب، وأن الرعد صوته والبرق سوطه، وأنه لا بدّ أن ينزل إلى الأرض فيملأها عدلا ‏كما ملئت جورا‎.

ومن ابن سبأ هذا تشعبت أصناف الغلاة من الرافضة، وصاروا يقولون بالوقف، يعنون أن الإمامة موقوفة على أناس معينين، ‏كقول الإمامية بأنها في الأئمة الاثني عشر، وقول الإسماعيلية بأنها في ولد إسماعيل بن جعفر الصادق، وعنه أيضا أخذوا القول ‏بفيئة الإمام، والقول برجعته بعد الموت إلى الدنيا، كما تعتقده الإمامية إلى اليوم في صاحب السرداب، وهو القول بتناسخ ‏الأرواح، وعنه أخذوا أيضا القول بأن الجزء الإلهيّ يحلّ في الأئمة بعد عليّ بن أبي طالب، وأنهم بذلك استحقوا الإمامة بطريق ‏الوجوب، كما استحق آدم عليه السّلام سجود الملائكة، وعلى هذا الرأي كان اعتقاد دعاة الخلفاء الفاطميين ببلاد مصر، وابن سبأ ‏هذا هو الذي أثار فتنة أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه حتى قتل: كما ذكر في ترجمة ابن سبأ من كتاب التاريخ ‏الكبير المقفى؛ وكان له عدّة أتباع في عامّة الأمصار، وأصحاب كثيرون في معظم الأقطار، فكثرت لذلك الشيعة وصاروا ضدّا ‏للخوارج، وما زال أمرهم يقوى وعددهم يكثر‎.

ثم حدث بعد عصر الصحابة رضي الله عنهم، مذهب جهم بن صفوان ببلاد المشرق، فعظمت الفتنة به. فإنه نفى أن يكون لله ‏تعالى صفة، وأورد على أهل الإسلام شكوكاً أثر في الملة الإسلامية آثارا قبيحة، تولد عنها بلاء كبير‎.

وكان قبيل المائة من سني الهجرة، فكثر أتباعه على أقواله التي تؤول إلى التعطيل، فأكبر أهل الإسلام بدعته وتمالؤا على ‏إنكارها وتضليل أهلها، وحذروا من الجهمية وعادوهم في الله وذمّوا من جلس إليهم، وكتبوا في الردّ عليهم ما هو معروف عند ‏أهله‎.

وفي أثناء ذلك حدث مذهب الاعتزال، منذ زمن الحسن بن الحسين البصريّ رحمه الله، بعد المائتين من سني الهجرة، وصنفوا ‏فيه مسائل في العدل والتوحيد وإثبات أفعال العباد، وأن الله تعالى لا يخلق الشرّ وجهروا بأن الله لا يُرى في الآخرة، وأنكروا ‏عذاب القبر على البدن، وأعلنوا بأن القرآن مخلوق محدث، إلى غير ذلك من مسائلهم، فتبعهم خلائق في بدعهم، وأكثروا من ‏التصنيف في نصرة مذهبهم بالطرق الجدلية، فنهى أئمة الإسلام عن مذهبهم، وذمّوا علم الكلام، وهجروا من ينتحله، ولم يزل ‏أمر المعتزلة يقوى وأتباعهم تكثر ومذهبهم ينتشر في الأرض‎.

ثم حدث مذهب التجسيم المضادّ لمذهب الاعتزال، فظهر محمد بن كرّام بن عراق بن حزابة، أبو عبد الله السجستانيّ، زعيم ‏الطائفة الكرّامية بعد المائتين من سني الهجرة، وأثبت الصفات حتى انتهى فيها إلى التجسيم والتشبيه، وحج وقدم الشام ومات ‏بزغرة، في صفر سنة ست وخمسين ومائتين، فدفن بالمقدس، وكان هناك من أصحابه زيادة على عشرين ألفا على التعبد ‏والتقشف، سوى من كان منهم ببلاد المشرق، وهم لا يحصون لكثرتهم، وكان إماما لطائفتي الشافعية والحنفية، وكانت بين ‏الكرّامية بالمشرق وبين المعتزلة مناظرات ومناكرات وفتن كثيرة متعدّدة أزماتها‎.

هذا وأمر الشيعة يفشو في الناس حتى حدث مذهب القرامطة، المنسوبين إلى حمدان الأشعث المعروف بقرمط، من أجل قصر ‏قامته وقصر رجليه وتقارب خطوه، وكان ابتداء أمر قرمط هذا في سنة أربع وستين ومائتين، وكان ظهوره بسواد الكوفة ‏فاشتهر مذهبه بالعراق، وقام من القرامطة ببلاد الشام صاحب الحال والمدّثر والمطوّق، وقام بالبحرين منهم أبو سعيد الجنابيّ ‏من أهل جنابة، وعظمت دولته ودولة بنيه من بعده، حتى أوقعوا بعساكر بغداد وأخافوا خلفاء بني العباس، وفرضوا الأموال ‏التي تحمل إليهم في كل سنة على أهل بغداد وخراسان والشام ومصر واليمن، وغزوا بغداد والشام ومصر والحجاز، وانتشرت ‏دعاتهم بأقطار الأرض، فدخل جماعات من الناس في دعوتهم ومالوا إلى قولهم الذي سموه علم الباطن، وهو تأويل شرائع ‏الإسلام وصرفها عن ظواهرها إلى أمور زعموها من عند أنفسهم، وتأويل آيات القرآن ودعوا هم فيها تأويلا بعيدا انتحلوا القول ‏به بدعاً ابتدعوها بأهوائهم، فضلوا وأضلوا عالماً كثيرا‎.

هذا وقد كان المأمون عبد الله بن هارون الرشيد سابع خلفاء بني العباس ببغداد، لما شغف بالعلوم القديمة، بعث إلى بلاد الروم ‏من عرّب له كتب الفلاسفة وأتاه بها في أعوام بضع عشرة سنة ومائتين من سني الهجرة، فانتشرت مذاهب الفلاسفة في الناس، ‏واشتهرت كتبهم بعامّة الأمصار، وأقبلت المعتزلة والقرامطة والجهمية وغيرهم عليها، وأكثروا من النظر فيها والتصفح لها، ‏فانجرّ على الإسلام وأهله من علوم الفلاسفة ما لا يوصف من البلاء والمحنة في الدين، وعظم بالفلسفة ضلال أهل البدع ‏وزادتهم كفرا إلى كفرهم‎.

فلما قامت دولة بني بويه ببغداد في سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة واستمرّوا إلى سنة سبع وثلاثين وأربعمائة، وأظهروا مذهب ‏التشيع، قويت بهم الشيعة وكتبوا على أبواب المساجد في سنة إحدى وخمسين وثلاثمائة لعن الله معاوية بن أبي سفيان، ولعن من ‏أغضب فاطمة، ومن منع الحسن أن يدفن عند جدّه، ومن نفى أبا ذر الغفاريّ، ومن أخرج العباس من الشورى‎.

فلما كان الليل حكه بعض الناس، فأشار الوزير المهلبيّ أن يكتب بإذن معز الدولة، لعن الله الظالمين لأهل البيت، ولا يذكر أحد ‏في اللعن غير معاوية، ففعل ذلك وكثرت ببغداد الفتن بين الشيعة والسنية، وجهر الشيعة في الأذان بحيّ على خير العمل في ‏الكرخ، وفشا مذهب الاعتزال بالعراق وخراسان وما وراء النهر، وذهب إليه جماعة من مشاهير الفقهاء، وقوى مع ذلك أمر ‏الخلفاء الفاطميين بأفريقية وبلاد المغرب، وجهروا بمذهب الإسماعيلية وبثوا دعاتهم بأرض مصر، فاستجاب لهم خلق كثير من ‏أهلها، ثم ملكوها سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة وبعثوا بعساكرهم إلى الشام فانتشرت مذاهب الرافضة في عامّة بلاد المغرب ‏ومصر والشام وديار بكر والكوفة والبصرة وبغداد، وجميع العراق، وبلاد خراسان، وما وراء النهر مع بلاد الحجاز واليمن ‏والبحرين، وكانت بينهم وبين أهل السنة من الفتن والحروب والمقاتل ما لا يمكن حصره لكثرته، واشتهرت مذاهب الفرق من ‏القدرية والجهمية والمعتزلة والكرّامية والخوارج والروافض والقرامطة والباطنية، حتى ملأت الأرض، وما منهم إلّا من نظر ‏في الفلسفة وسلك من طرقها ما وقع عليه اختياره، فلم تبق مصر من الأمصار ولا قطر من الأقطار، إلا وفيه طوائف كثيرة ‏ممن ذكرنا‎.

وكان أبو الحسن عليّ بن إسماعيل الأشعريّ قد أخذ عن أبي عليّ محمد بن عبد الوهاب الجبائيّ، ولازمه عدّة أعوام، ثم بدا له ‏فترك مذهب الاعتزال وسلك طريق أبي محمد عبد الله بن محمد بن سعيد بن كلاب، ونسج على قوانينه في الصفات والقدر، وقال ‏بالفاعل المختار، وترك القول بالتحسين والتقبيح العقليين، وما قيل في مسائل الصلاح والأصلح، وأثبت أن العقل لا يوجب ‏المعارف قبل الشرع، وأن العلوم وإن حصلت بالعقل فلا تجب به، ولا يجب البحث عنها إلّا بالسمع، وأن الله تعالى لا يجب عليه ‏شيء، وأن النبوّات من الجائزات العقلية والواجبات السمعية إلى غير ذلك من مسائله التي هي موضوع أصول الدين‎.

وحقيقة مذهب الأشعريّ: رحمه الله، أنه سلك طريقا بين النفي الذي هو مذهب الاعتزال، وبين الإثبات الذي هو مذهب أهل ‏التجسيم، وناظر على قوله هذا واحتج لمذهبه، فمال إليه جماعة وعوّلوا على رأيه، منهم القاضي أبو بكر محمد بن الطيب الباقلانيّ ‏المالكيّ، وأبو بكر محمد بن الحسن بن فورك، والشيخ أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن مهران الأسفراينيّ، والشيخ أبو إسحاق إبراهيم ‏بن عليّ بن يوسف الشيرازيّ، والشيخ أبو حامد محمد بن محمد بن أحمد الغزاليّ، وأبو الفتح محمد بن عبد الكريم بن أحمد ‏الشهرستانيّ، والإمام فخر الدين محمد بن عمر بن الحسين الرازيّ، وغيرهم ممن يطول ذكره، ونصروا مذهبه وناظروا عليه ‏وجادلوا فيه واستدلوا له في مصنفات لا تكاد تحصر‎.

فانتشر مذهب أبي الحسن الأشعريّ في العراق من نحو سنة ثمانين وثلاثمائة وانتقل منه إلى الشام، فلما ملك السلطان الملك ‏الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب ديار مصر، كان هو وقاضيه صدر الدين عبد الملك بن عيسى بن درباس المارانيّ على ‏هذا المذهب، قد نشآ عليه منذ كانا في خدمة السلطان الملك العادل نور الدين محمود بن زنكي بدمشق، وحفظ صلاح الدين في ‏صباه عقيدة ألفها له قطب الدين أبو المعالي مسعود بن محمد بن مسعود النيسابوريّ، وصار يحفظها صغار أولاده، فلذلك عقدوا ‏الخناصر وشدّوا البنان على مذهب الأشعريّ، وحملوا في أيام دولتهم كافة الناس على التزامه، فتمادى الحال على ذلك جميع ‏أيام الملوك من بني أيوب، ثم في أيام مواليهم الملوك من الأتراك، واتفق مع ذلك توجه أبي عبد الله محمد بن تومرت أحد رجالات ‏المغرب إلى العراق، وأخذ عن أبي حامد الغزاليّ مذهب الأشعريّ، فلما عاد إلى بلاد المغرب وقام في المصامدة يفقههم ‏ويعلمهم، وضع لهم عقيدة لقفها عنه عامّتهم، ثم مات فخلفه بعد موته عبد المؤمن بن عليّ القيسيّ، وتلقب بأمير المؤمنين، ‏وغلب على ممالك المغرب هو وأولاده من بعد مدّة سنين، وتسموا بالموحدين، فلذلك صارت دولة الموحدين ببلاد المغرب ‏تستبيح دماء من خالف عقيدة ابن تومرت، إذ هو عندهم الإمام المعلوم، المهديّ المعصوم، فكم أراقوا بسبب ذلك من دماء ‏خلائق لا يحصيها إلّا الله خالقها سبحانه وتعالى، كما هو معروف في كتب التاريخ‎.

فكان هذا هو السبب في اشتهار مذهب الأشعريّ وانتشاره في أمصار الإسلام، بحيث نسي غيره من المذاهب، وجهل حتى لم ‏يبق اليوم مذهب يخالفه، إلّا أن يكون مذهب الحنابلة أتباع الإمام أبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل رضي الله عنه، فإنهم كانوا ‏على ما كان عليه السلف، لا يرون تأويل ما ورد من الصفات، إلى أن كان بعد السبعمائة من سني الهجرة، اشتهر بدمشق ‏وأعمالها تقيّ الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحكم بن عبد السلام بن تيمية الحرّانيّ، فتصدّى للانتصار لمذهب السلف وبالغ في ‏الردّ على مذهب الأشاعرة، وصدع بالنكير عليهم وعلى الرافضة، وعلى الصوفية‎.

فافترق الناس فيه فريقان، فريق يقتدي به ويعوّل على أقواله ويعمل برأيه، ويرى أنه شيخ الإسلام وأجلّ حفاظ أهل الملّة ‏الإسلامية، وفريق يبدّعه ويضلله ويزري عليه بإثباته الصفات، وينتقد عليه مسائل منها ما له فيه سلف، ومنها ما زعموا أنه ‏خرق فيه الإجماع، ولم يكن له فيه سلف، وكانت له ولهم خطوب كثيرة، وحسابه وحسابهم على الله الذي لا يخفى عليه شيء في ‏الأرض ولا في السماء، وله إلى وقتنا هذا عدّة أتباع بالشام وقليل بمصر‎.

هذا وبين الأشاعرة والماتريدية أتباع أبي منصور محمد بن محمد بن محمود الماتريديّ، وهم طائفة الفقهاء الحنفية مقلدو الإمام أبي ‏حنيفة النعمان بن ثابت، وصاحبيه أبي يوسف يعقوب بن إبراهيم الحضرميّ، ومحمد بن الحسن الشيبانيّ رضي الله عنهم، من ‏الخلاف في العقائد ما هو مشهور في موضعه، وهو إذ تتبع يبلغ بضع عشرة مسألة، كان بسببها في أوّل الأمر تباين وتنافر، ‏وقدح كل منهم في عقيدة الآخر، إلّا أن الأمر آل آخرا إلى الإغضاء، ولله الحمد‎.

فهذا أعزك الله بيان ما كانت عليه عقائد الأمّة من ابتداء الأمر إلى وقتنا هذا، قد فصّلت فيه ما أجمله أهل الأخبار، وأجملت ما ‏فصلوا، فدونك طالب العلم تناول ما قد بذلت فيه جهدي وأطلت بسببه سهري وكدّي في تصفح دواوين الإسلام وكتب الأخبار، ‏فقد وصل إليك صفوا ونلته عفوا بلا تكلف مشقة ولا بذل مجهول، ولكن الله يمنّ على من يشاء من عباده‎.”‎ انتهي

قديماً في بدايات التعرف إلى العلوم الشرعية، و في أبواب العقيدة ، عند الفرق و المذاهب ، كنتُ أحدثُ نفسي أن تلك الفرق قد اندثرت و ماتت فلماذا تُدرس ! هل هو من باب التاريخ أم من باب” و بضدها تتميز الأشياء” !

و بمرور الزمن و مخالطة الناس ، لم أكن لأتصور أني سأقابل من يحمل فكر و عقيدة الخوارج مع تغير المسميات و تنوع الوسائل ، و لم أكن لأتصور أن يظهر في التليفزيون الرسمي المصري من يبث في الناس فكر الجهمية و المعتزلة ، ومن يعظم الحلاج و ابن عربي و ابن سينا ، بل إني قابلت أيام الجامعة ملاحدة على دين النمرود، ولا زلت أقابل من لم يخطر لي يوماً على بال، من قرأنيين – زعموا – و الأولى أن يدعوا لا قرأنيين، وهم منكروا السُنة جملة و تفصيلاً، و قبوريين على عقيدة مشركي العرب، يتقربون بالاموات إلى رب الأرض و السماوات، ورأيتُ من يقول صراحة بعقيدة الحلول و الاتحاد و يزعم لنفسه الولاية، و صدق في زعمه فهو ولي للشيطان، و قابلت شيعة يتوسلون بعلي بن أبي طالب و الحسين عند النوائب، و ما زلت أرى طواماً و عجائب ، لو تركت العنان فيها لقلمي لسودت الصفحات ذوات العدد.

فظهر لي أن تلك العقائد لم تندثر بل كل ما هنالك أنها تلونت بصبغة الزمان ، و أخذت زخرفها و ازّينت ، و أصل المقالات واحد لم يتغير، و ذلك يدخل في قول الصادق المصدوق (لا يأتي على الناس زمان إلا و الذي قبله خير منه).

فلله الحمد على نعمة الهداية.

و إن كان “لا يشكر الله من لا يشكر الناس”، فإني أخص بالشكر والعرفان أخي و شيخي الحبيب ، الشيخ/ عمرو فهمي على صدق التوجيه و حسن الإرشاد ، فمنذ ما يزيد على تسعة عشر عاماً و قد جعله الله سبباً في حبي للعلم ، و ظبط بوصلة المنهج ، و قد قرأت عليه قديماً في العقيدة: شرح الشيخ ابن عثيمين على الواسطية لشيخ الإسلام ، و تطهير الجنان من أدران الشرك و الإلحاد لآل بوطامي ، و لمعة الاعتقاد لابن قدامة المقدسي، و قرأتُ عليه رسالة السنة للإمام أحمد و كتاب الإيمان لأبي عبيد القاسم ابن سلام ، و قد دلني على كثير من مؤلفات عقيدة أهل السنة السلفية الصافية، و قد أخذ بيدي عند كثير من المزالق ، و كان دوماً نعم الناصح و المعين ، و أنه لا يجود الزمان بمثله إلا قليلاً ، و لو كنت مقيماً في مصر لكنت ملازماً له ناهلاً من علمه و أدبه.

فأسأل الله أن يطيل مدته و ينفع به المسلمين.

وصل اللهم على نبينا محمد و على آله و صحبه و سلم.

هاني حلمي

فكرة واحدة على ”في تاريخ عقائد فرق المبتدعة‎!

  1. تعقيب: خلاصة كتاب “أصول مذهب الشيعة الإمامية الاثني عشرية” | هاني حلمي

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s