البصيرة في الدين من أعظم أسباب غض البصر و صرف القلب عن الجمال الظاهري الفتان.
بل إن قوة البصيرة تحيلُ هذا الجمال في العقول إلى قبح صرف، فلو مرت المشركة بجواره عارية كما خُلقت شاهرة أسلحة مفاتنها و عواراتها ، صرف بصره و لم يلتفت قلبه ، تستوي في بصيرته هي و نجاسة الخنزير التي هي تحته ، و أن كانت من أجمل النساء ، قال تعالى ( إنما المشركون نجس) ، فمن عقل هذا المعنى وجد في قلبه ثبات الإيمان ، فيكون حبه و بعضه تبعاً لما يحب الله و يبغض، و صارت شهواته تحت سلطان عقله ، يصرفها في ما يرضي الله ، و لا حول و لا قوة إلا بالله.
و المتشبهات بالمشركات من المسلمات و أن لم يكونوا نجساً في المعنى ، إلا أنهم اشتركوا مع المشركات في الظاهر، و حصل لهم من لعنة الله ما يجعلهم مُبغضين إلى القلب ،و نسأل الله لنا و لهم الهداية.
و من عَقل هذا المعنى فإنه ينفعه جداً، خاصة للمسلم الذي يعيش بين المشركين أو المسلم المحاط بهم في بلاد الإسلام و لابد له من السير في الطرقات و دخول الأسواق لقضاء حاجاته الضرورية.
و هذا يفسر لم نرى السُني عبوساً مُنكساً رأسه في الأسواق و بعض الطرقات ، لا يفسر ذلك إلا أنه لما قام ذلك البغض لتلك الصور في قلبه ، ظهر ذلك على وجهه ، و الله أعلم بالسرائر.
و لقد ظفرت بشئ من هذا المعنى في كلام شيخ الإسلام رحمه الله، في كتاب الاستقامة، 1/318، إذ يقول :
” وكَذَلِكَ الصُّور الجميلة من الرِّجَال وَالنِّسَاء فَإِن أحدهم إِذا كَانَ خُلقه سَيِّئًا بِأَن يكون فَاجِرًا أَو كَافِرًا مُعْلنا أَو منافقا، كَانَ البغض أَو المقت لخلقه وَدينه مستعليا على مَا فِيهِ من الْجمال، كَمَا قَالَ تَعَالَى عَن الْمُنَافِقين (وَإِذا رَأَيْتهمْ تعجبك أجسامهم) [سُورَة المُنَافِقُونَ 4] وَقَالَ (وَمن النَّاس من يُعْجِبك قَوْله فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا) [سُورَة الْبَقَرَة 204] فَهَؤُلَاءِ إِنَّمَا أعجبه صورهم الظَّاهِرَة لِلْبَصَرِ وأقوالهم الظَّاهِرَة للسمع لما فِيهِ من الْأَمر المُعجب لَكِن لما كَانَت حقائق أَخْلَاقهم الَّتِي هِيَ أملك بهم مُشْتَمِلَة على مَا هُوَ أبْغض الْأَشْيَاء وأمقتها إِلَيْهِ لم يَنْفَعهُمْ حسن الصُّورَة وَالْكَلَام”
و غض البصر يكون بالعين و القلب معاً.
فأن سهم نظرة القلب أشد فتكاً من نظرة العين ، فنظرة العين الأولى وإن كفها صاحبها فإنه يجب أن لا يتبعها بنظر القلب ، فتكون النظرة الأولى بمثابة الشرارة الصغيرة و نظر القلب وقوداً يشعلها.
و نظرة القلب خادعة كاذبة ، فإنها لا تريك إلا ما تشتهي ان تراه عيناك* من حسن المنظر ، لا تريك الا ما تتوهمه من حسن الصورة و تزين لك الوهم و تزيف الحقائق ، فيشعر القلب الضعيف المريض بفوات اللذة العظيمة ، التي هي من محض اوهامه و نسيج خيالاته ، لذا فهي أشد فتكاً.
و من فقه غض البصر، الحذر من النظرة المبررة، نظرة التعجب، نظرة الدهشة، نظرة الشفقة، نظرة الغضب، … و القائمة طويلة و النفس أمارة بالسوء، و الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، و الله يحول بين المرء و قلبه.
فإن أعانك الله و صرفت بصرك عن ما حرم ، فاتبع ذلك بحسم نظرة القلب و قطع مادتها ، ولا تناقص نفسك ، فإن الله يعلم ما في القلوب ، و السر عنده علانية.
وقلبك هو حصنك الحصين و قلعة روحك ، فإن جاثت فيه جنود الشهوات المحرمة و نُصبت فيه أسواق الفتن ، فلا يرجى من هذ القلب خيراً ، فإنه لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً إلا ما أشرب من هواه .
و إن كان الزواج هو مما يعين على غض البصر، فإنه و لو كانت تحتك أجمل نساء الدنيا، فالنفس تواقة للمزيد، ولا يملأ عين بن أدم إلا التراب!
أما قول الشاعر:
فهذا المعنى الرائق ليس له مكانٌ إلا في الشعر! و لا يستطيع المسلم غض بصره إلا لله، خوفاً من النار و طمعاً في الجنة، و ما وراء ذلك من الفضيلة حبة خردل.
أسأل الله لي و لكم الاستقامة و الثبات عليها ، فإن القلوب سريعة التقلب ، ولا تثبت على الخير إلا بحول الله و قوته ، ومن استعان بالله أعانه ، ومن ترك شيئاً لله أبدله الله خيراً منه ، وأن كان لا يلزم أن يكون البدل من جنس ما ترك لله ، فإن حلاوة الأيمان و سكينة القلب و أُنسه بالله فيها من الخير و اللذة ما يفوق كل لذة.
هاني حلمي
* وقع لي نصاً رائقاً من “الأدب الكبير” لأبن المقفع الهالك في سنة 124 هجرياً، و الحكمة ضالة المؤمن فحيث وجدها فهو أحق بها** ، يقول :
” إنما النساء أشباه ، و ما يتزين في العيون والقلوب من فضل مجهولاتهن على معروفاتهن باطل وخدعة. بل كثير مما يرغب عنه الراغب مما عنده أفضل مما تتوق إليه نفسه منهن.
وإنما المرتغب عما في رحله منهن إلى ما في رحال الناس كالمرتغب عن طعام بيته إلى ما في بيوت الناس ، بل النساء بالنساء أشبه من الطعام بالطعام، وما في رحال الناس من الأطعمة أشد تفاضلا وتفاوتا مما في رحالهم من النساء.
ومن العجب أن الرجل الذي لا بأس في لُبه و رأيه يرى المرأة من بعيد متلففة في ثيابها، فيصور لها في قلبه الحسن والجمال حتى تعلق بها نفسه من غير رؤية ولا خبر مخبر، ثم لعله يهجم منها على أقبح القبح وأدم الدمامة، فلا يعظه ذلك ولا يقطعه عن أمثالها. ولا يزال مشغوفا بما لم يذق، حتى لو لم يبق في الأرض غير امرأة واحدة، لظن أن لها شأنا غير شأن ما ذاق. وهذا هو الحمق والشقاء والسفه.”
** فائدة: حديث ” الحكمة ضالة المؤمن” ضعيف جداً ، اما عن معناه ، فتقول اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء : ” وأما معنى الحديث فتشهد له عمومات النصوص، وهو أن الكلمة المفيدة التي لا تنافي نصوص الشريعة ربما تفوه بها من ليس لها بأهل، ثم وقعت إلى أهلها، فلا ينبغي للمؤمن أن ينصرف عنها، بل الأولى الاستفادة منها والعمل بها من غير التفات إلى قائلها.” الفتوى رقم ( 21010 ) من المجموعة الاولى.
و ابن المقفع فارسي الاصل كان مجوسياً و أسلم و قد قتله المنصور على الزندقة ، و لم اراجع مصادر ترجمته حتى أري فيه رأياً ،و انما يؤخذ الصالح من القول و ينبذ غيره ، و ثمرة العقل حسن الاختيار.
و قال ابن القيم رحمه الله ، في إغاثة اللهفان 1/48:
” … فمن غض بصره عما حرم الله عز وجل عليه عوضه الله تعالى من جنسه ماهو خير منه ,فكما أمسك نور بصره عن المحرمات أطلق الله نور بصيرته وقلبه ، فرأى به ما لم يره من أطلق بصره و لم يغضه عن محارم الله تعالى “
تعقيب: عشق القلب صورة الزنا و المومسات! | هاني حلمي