قال سلفُنا الصالح : من حُرم الأصول حُرم الوصول، و هو كما قالوا…
و لعل هذه الكلمة من أصدق ما قيل في العلم، و سيفهم هذه الكلمة أنسانٌ صادقٌ في جهله و صادق في علمه! لأن من صَدَقَ نفسه أنه جاهل سكت، ثم سعي في رفع وصف الجهل عنها، و أما من يكابر العلم برأيه، فإنه يُحرم تجرع مرارة الجهل، ثم يُحرم نعمة تذوق لذه العلم… و من جرب عرف!
كل يوم ، بل كل ساعة أزداد يقيناً أن من أخذ دينه من “جوجل” ضل و أنتكس ، و هو كما قال جوجل عند البحث “I am feeling lucky” ، و أن من أعظم نعم الله عز و جل الهداية لطلب العلم الشرعي، و تعلم أصول الشريعة و قواعدها الكلية، و لو قدرٌ يسيرٌ منها يتبلغ به الطالب غايته.
فأن تفاصيل الشريعة كثيرة جداً لا يدركها الطالب المجتهد و لو أنفق فيها عمره كله ، و لكن أصولها و قواعدها الكلية تُكسب المتعلم ملكة التمييز بين الأصيل و الدخيل.
و طبيعة المعرفة البشرية تقتضي أن ما لا يُعلم تفصيله أكثر مما يُعلم تفصيله، و قد يقضي الإنسان عمره ليستفصل في علم واحد من علوم الشريعة، بل قد يقضي عمره في قراءة ما تركه السلف في هذا العلم وحده ولا يبلغ المنتهى!
و لكن أصول العلوم و قواعدها الكلية تدل على التفصيل بدلالة الكل على الجزء، فالأصول ترسم خارطة البحث عن التفصيل و هي أول مدارج بلوغ الحق.
و أصول الشريعة و قواعدها الكلية و فروعها و تفاصيلها الدقيقة كلها من عند الله، إذ لابد أن ينتهي الأصل أو الفرع إلى نص محكم من الكتاب أو السُنة.
و ما كان من عند الله فإنه يتكامل و لا يتعارض ، و يدل بعضه على بعض ، فالكل قد خرج من مشكاة و احدة ، من لدن عليم خبير.
لذلك من خاض في بحث مسائل الشريعة دون تعلم أصول العلوم و قواعدها الكلية ، فإنه يفقد بوصلته و لا يوفق للصواب ، إذ أنه يفتقد للتمييز الكلي للنتائج ، و عرضها على الأصول العامة و القواعد الكلية.
و مثال ذلك: في باب البيوع و المعاملات المالية أصول و قواعد كلية إن فقدها الناظر في المسائل فإنه لا يُوفق للصواب ، مثل:
” الغنم بالغرم” ، ” الخراج بالضمان” ، ” يد الوكيل و المضارب يد أمانة” ، ” تحريم الظلم و الغرر و الجهالة” ، ” الفرق بين المعاوضات و التبرعات” ، ” يغتفر في التابع ما لا يغتفر في المتبوع”، …
أمثال هذه الأصول و القواعد الكلية تحل إشكاليات كبيرة في الفهم ، و تُرشد الناظر إلى أول طريق الحق و الإصابة ، ثم عليه الاستفصال بعد ذلك و النظر في الجزيئات و كلام أهل العلم على نور و أساس راسخ، و إلا كان كالريشة في مهب الريح ، تحركه أدنى شبهة و يغير وجهته مع أدنى معارضة.
لذلك كانت قرة عين السُني السلفي هي النصوص و ما تفرع عليها من شروح و قواعد ، فإنها عمود الخيمة و أساس البيت، فتصير قواعد فرز الأقوال عنده محكمة لا تدخلها الأهواء ، إلا إذا غلبت عليه شقوته و أتبع الهوى فإنه داء عُضال مُهلك و لو حصل صاحبه من العلوم الشئ الكثير.
و من الأمور التي لا يجب الغفلة عنها ، ربط قواعد الاعتقاد بالمسائل الفقهية العملية.
و مثال ذلك : في باب الربا، تستحضر أن الله حكيم خبير بصير و مقتضى أسمائه و صفاته تحريم الظلم و تشريع سد الذرائع إليه ليقوم الناس بالقسط، و قس على ذلك…
اللهم علمنا ما ينفعنا و انفعنا بما علمتنا و زدنا علماً.
هاني حلمي
و هذه بعض كلمات أهل العلم التي وقفتُ عليها في هذا الباب:
قال ابن جني رحمه الله ، في مقدمة شرحه على كتاب التصريف للمازني، نقلاً عن كتاب ” في تاريخ النحو” لسعيد الأفغاني رحمه الله:
“…وليس ينبغي أن يتخطى إلى النظر في هذه المسائل من لم يحكم الأصول قبلها؛ فإنه إن هجم عليها غير ناظر فيما قبلها من أصول التصريف الموطئة للفروع لم يحظ منها بكبير طائل، وصعبت عليه أيما صعوبة، وكان حكمه في ذلك حكم من أراد الصعود إلى قمة جبل سامق في غير ما سبيل، أو كجازع مفازة لا يهتدى لها بلا دليل.”