تأملوا هذا الكلام النفيس للخطّابي رحمه الله، ت 388 هجرياً، من مقدمة كتابه المسمى أعلام السنن، و هو كما يُقال: أول شرح معلوم لدينا لصحيح الإمام البخاري رحمه الله تعالى، و الخطّابي رحمه الله غني عن التعريف.
شرح الكلمات ما بين مكوفين [ ] من عندي:
“… فأصبح هذا الكتاب كنزاً للدين، وركازاً للعلوم، وصار بجودة نقده وشدة سبكه حكماً بين الأمة فيما يراد أن يعلم من صحيح الحديث وسقيمه، وفيما يجب أن يعتمد ويعول عليه منه.
ثم إني فكرت بعد فيما عاد إليه أمر الزمان في وقتنا هذا من نضوب العلم، وظهور الجهل، وغلبة أهل البدع، وانحراف كثير من أنشاء [أي: أحداث طلبة العلم] الزمان إلى مذاهبهم وإعراضهم عن الكتاب والسنة، وتركهم البحث عن معانيهما، ولطائف علومهما، ورأيتهم حين هجروا هذا العلم وبخسوا حظا منه ناصبوه وأمعنوا في الطعن على أهله فكانوا كما قال الله عز وجل: {وإذ لم يهتدوا به فسيقولون هذا إفك قديم}، ووجدتهم قد تعلقوا بأحاديث من متشابه العلم قد رواها جامع الكتاب وصححها من طريق السند، والنقل، لا يكاد يعرف عوام رواة الحديث وجوهها ومعانيها، إنما يعرف تأويلَها الخواصُّ منهم، الراسخون في العلم، المتحققون به، فهم لا يزالون يعترضون بها عوام أهل الحديث، والرجلّ [ أي: ضعيف الرأي، و الله أعلم] والضعفة منهم، فإذا لم يجدوا عندهم علماً بها ومعرفة بوجوهها اتخذوهم سُلما إلى ما يريدون من ثلب جماعة أهل الحديث والوقيعة فيهم، ورموهم عند ذلك بالجهل وسوء الفهم، وزعموا أنهم مقلدون يروون ما لا يدرون، وإذا سئلوا عنه وعن معانيه ينقطعون ويسمونهم من أجل ذلك حمالة الحطب وزوامل الأسفار ونحوهما من ذميم الأسماء والألقاب فكم غُمر يغتر بهم من الأغمار، والأحداث الذين لم يخدموا هذا الشأن ولم يطلبوه حق طلبه، ولم يعضوا في علمه بناجذ، فيصير ذلك سببا لرغبتهم عن السنن وزهدهم فيها، فيخرج كثيرٌ من أمر الدين عن أيديهم وذلك بتسويل الشيطان لهم ولطيف مكيدته فيهم، وتخوفت أن يكون الأمر فيما يتأخر من الزمان أشد والعلم فيه أعز لقلة عدد من أراه اليوم يُعنَى بهذا الشأن ويهتم به اهتماما صادقا، ويبلغ فيه من العلم مبلغا صالحا.”
قلتُ (هاني):
تأملوا كلامه بعد أن أثنى على صحيح البخاري بما هو أهله، و ذكر حال بعض ناشئة أهل زمانه مع السُنة و الأحاديث، كأنه يصف شيئاً من حال بعض رويبضة زماناً ممن يحسبهم الجاهل على شيء! من حملة الدكتوراة و الألقاب العريضة!
و يرجع سبب هذا الداء في الأساس إلى الأصول الفلسفية التى دخلت على علوم أهل الإسلام، فأضعفت مهابة نصوص الوحيين في قلوبهم، ولا زال الداء ينخر في عضد الأمة، إضافة إلى الأمراض الأخرى: كالتبعية العلمية و الثقافية للغرب المُلحد، و الهزيمة النفسية، و اتباع الهوى، و طلب العلم للدنيا،… وغيرها.
و وصف الخطّابي ضعف فقه بعض حملة الحديث في ما يروون، و كيف أن ذلك يفتح الباب للطعن في السنن…، و هذا هو بيت الداء في زماننا، كثرة النقلة مع قلة الفهم و التفكر، فالواجب على من علم شيئاً من السنن و الأثار أن يتعلم فقها و كيف يرد على الشبهات المثارة حولها، و إلا فلا يتصدر للنقاش و الحجاج، فإن هذا ضرره على الدين أكثر من نفعه.
و الله المستعان،
هاني حلمي