قال شيخ الإسلام قدس الله روحه:
(باختصار من عندي وضعت مكانه نقطاً … خشية الإطالة و لتلخيص المقصود)
“وَأَمَّا قَوْلُهُ: أُرِيدُ أَنْ أَقْتُلَ نَفْسِي فِي اللَّهِ! فَهَذَا كَلَامٌ مُجْمَلٌ فَإِنَّهُ إذَا فَعَلَ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ فَأَفْضَى ذَلِكَ إلَى قَتْلِ نَفْسِهِ فَهَذَا مُحْسِنٌ فِي ذَلِكَ كَاَلَّذِي يَحْمِلُ عَلَى الصَّفِّ وَحْدَهُ حَمْلًا فِيهِ مَنْفَعَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ وَقَدْ اعْتَقَدَ أَنَّهُ يُقْتَلُ فَهَذَا حَسَنٌ … .
وَأَمَّا إذَا فَعَلَ مَا لَمْ يُؤْمَرْ بِهِ حَتَّى أَهْلَكَ نَفْسَهُ فَهَذَا ظَالِمٌ مُتَعَدٍّ بِذَلِكَ… .
… وَقَتْلُ الْإِنْسَانِ نَفْسَهُ حَرَامٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ كَمَا ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصِّحَاحِ أَنَّهُ قَالَ: {مَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِشَيْءٍ عُذِّبَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: {عَبْدِي بَادَأَنِي بِنَفْسِهِ فَحَرَّمْت عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَأَوْجَبْت لَهُ النَّارَ} …
فَيَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ مِنْ قَصْدِ الْإِنْسَانِ قَتْلَ نَفْسِهِ أَوْ تَسَبُّبِهِ فِي ذَلِكَ وَبَيْنَ مَا شَرَعَهُ اللَّهُ مِنْ بَيْعِ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ لَهُ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} وَقَالَ: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ} أَيْ يَبِيعُ نَفْسَهُ.
وَالِاعْتِبَارُ فِي ذَلِكَ بِمَا جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ لَا بِمَا يَسْتَحْسِنُهُ الْمَرْءُ أَوْ يَجِدُهُ أَوْ يَرَاهُ مِنْ الْأُمُورِ الْمُخَالِفَةِ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ؛ بَلْ قَدْ يَكُونُ أَحَدُ هَؤُلَاءِ كَمَا قَالَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ: مَنْ عَبَدَ اللَّهَ بِجَهْلِ أَفْسَدَ أَكْثَرَ مِمَّا يُصْلِحُ.
وَمِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يُعْرَفَ أَنَّ اللَّهَ لَيْسَ رِضَاهُ أَوْ مَحَبَّتُهُ فِي مُجَرَّدِ عَذَابِ النَّفْسِ وَحَمْلِهَا عَلَى الْمَشَاقِّ حَتَّى يَكُونَ الْعَمَلُ كُلَّمَا كَانَ أَشَقَّ كَانَ أَفْضَلَ كَمَا يَحْسَبُ كَثِيرٌ مِنْ الْجُهَّالِ أَنَّ الْأَجْرَ عَلَى قَدْرِ الْمَشَقَّةِ فِي كُلِّ شَيْءٍ لَا وَلَكِنَّ الْأَجْرَ عَلَى قَدْرِ مَنْفَعَةِ الْعَمَلِ وَمَصْلَحَتِهِ وَفَائِدَتِهِ، وَعَلَى قَدْرِ طَاعَةِ أَمْرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ.
فَأَيُّ الْعَمَلَيْنِ كَانَ أَحْسَنَ وَصَاحِبُهُ أَطْوَعَ وَأَتْبَعَ كَانَ أَفْضَلَ.
فَإِنَّ الْأَعْمَالَ لَا تَتَفَاضَلُ بِالْكَثْرَةِ، وَإِنَّمَا تَتَفَاضَلُ بِمَا يَحْصُلُ فِي الْقُلُوبِ حَالَ الْعَمَلِ.
وَلِهَذَا {لَمَّا نَذَرَتْ أُخْتُ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ أَنْ تَحُجَّ مَاشِيَةً حَافِيَةً قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنْ تَعْذِيبِ أُخْتِك نَفْسَهَا مُرْهَا فَلْتَرْكَبْ}وَرُوِيَ ” أَنَّهُ أَمَرَهَا بِالْهَدْيِ ” وَرُوِيَ ” بِالصَّوْمِ “.
وَكَذَا حَدِيثُ جويرية فِي تَسْبِيحِهَا بِالْحَصَى أَوْ النَّوَى وَقَدْ دَخَلَ عَلَيْهَا ضُحًى ثُمَّ دَخَلَ عَلَيْهَا عَشِيَّةً فَوَجَدَهَا عَلَى تِلْكَ الْحَالِ. وَقَوْلُهُ لَهَا: ” {لَقَدْ قُلْت بَعْدَك أَرْبَعَ كَلِمَاتٍ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ لَوْ وُزِنَتْ بِمَا قُلْت مُنْذُ الْيَوْمِ لَرَجَحَتْ}.
وَأَصْلُ ذَلِكَ أَنْ يَعْلَمَ الْعَبْدُ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَأْمُرْنَا إلَّا بِمَا فِيهِ صَلَاحُنَا وَلَمْ يَنْهَنَا إلَّا عَمَّا فِيهِ فَسَادُنَا؛ وَلِهَذَا يُثْنِي اللَّهُ عَلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ وَيَأْمُرُ بِالصَّلَاحِ وَالْإِصْلَاحِ وَيَنْهَى عَنْ الْفَسَادِ.
فَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ إنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْنَا الْخَبَائِثَ لِمَا فِيهَا مِنْ الْمَضَرَّةِ وَالْفَسَادِ وَأَمَرَنَا بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ لِمَا فِيهَا مِنْ الْمَنْفَعَةِ وَالصَّلَاحِ لَنَا.
وَقَدْ لَا تَحْصُلُ هَذِهِ الْأَعْمَالُ إلَّا بِمَشَقَّةِ: كَالْجِهَادِ وَالْحَجِّ وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ وَطَلَبِ الْعِلْمِ فَيَحْتَمِلُ تِلْكَ الْمَشَقَّةَ وَيُثَابُ عَلَيْهَا لِمَا يَعْقُبُهُ مِنْ الْمَنْفَعَةِ….
وَأَمَّا إذَا كَانَتْ فَائِدَةُ الْعَمَلِ مَنْفَعَةً لَا تُقَاوِمُ مَشَقَّتَهُ فَهَذَا فَسَادٌ وَاَللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ. وَمِثَالُ ذَلِكَ مَنَافِعُ الدُّنْيَا فَإِنَّ مَنْ تَحَمَّلَ مَشَقَّةً لِرِبْحِ كَثِيرٍ أَوْ دَفْعِ عَدُوٍّ عَظِيمٍ كَانَ هَذَا مَحْمُودًا.
وَأَمَّا مَنْ تَحَمَّلَ كُلَفًا عَظِيمَةً وَمَشَّاقًا شَدِيدَةً لِتَحْصِيلِ يَسِيرٍ مِنْ الْمَالِ أَوْ دَفْعِ يَسِيرٍ مِنْ الضَّرَرِ كَانَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ أُعْطِيَ أَلْفَ دِرْهَمٍ لِيَعْتَاضَ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ، أَوْ مَشَى مَسِيرَةَ يَوْمٍ لِيَتَغَدَّى غَدْوَةً يُمْكِنُهُ أَنْ يَتَغَدَّى خَيْرًا مِنْهَا فِي بَلَدِهِ.
فَالْأَمْرُ الْمَشْرُوعُ الْمَسْنُونُ جَمِيعُهُ مَبْنَاهُ عَلَى الْعَدْلِ وَالِاقْتِصَادِ وَالتَّوَسُّطِ الَّذِي هُوَ خَيْرُ الْأُمُورِ وَأَعْلَاهَا كَالْفِرْدَوْسِ فَإِنَّهُ أَعْلَى الْجَنَّةِ وَأَوْسَطُ الْجَنَّةِ فَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ فَمَصِيرُهُ إلَيْهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
هَذَا فِي كُلِّ عِبَادَةٍ لَا تُقْصَدُ لِذَاتِهَا مِثْلِ الْجُوعِ وَالسَّهَرِ وَالْمَشْيِ، وَأَمَّا مَا يُقْصَدُ لِنَفْسِهِ مِثْلُ مَعْرِفَةِ اللَّهِ وَمَحَبَّتِهِ وَالْإِنَابَةِ إلَيْهِ وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ فَهَذِهِ شُرِعَ فِيهَا الْكَمَالُ لَكِنْ يَقَعُ فِيهَا سَرَفٌ وَعُدْوَانٌ بِإِدْخَالِ مَا لَيْسَ مِنْهَا فِيهَا مِثْلُ أَنْ يُدْخِلَ تَرْكَ الْأَسْبَابِ الْمَأْمُورِ بِهَا فِي التَّوَكُّلِ أَوْ يُدْخِلَ اسْتِحْلَالَ الْمُحَرَّمَاتِ وَتَرْكَ الْمَشْرُوعَاتِ فِي الْمَحَبَّةِ فَهَذَا هَذَا.
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.”
مجموع فتاوى شيخ الإسلام بن تيمية رحمه الله تعالى (279/25)
قلتُ: و مع هذا التقرير فإن بعض الجهلة من بني جلدتنا ينسبون لشيخ الإسلام التطرف و الغلو المعاصر الصادر من جماعات التكفير!! ألا شاهت الوجوه.