قال العلّامة: محمد الأمين الشنقيطي، رحمه الله تعالى (ت 1973 م) ، في كتاب “العذب النمير من مجالس الشنقيطي في التفسير” ، الذي جمعه الشيخ خالد بن عثمان السبت:
“… الآن: الكفرة كالكتلة الشرقية والغربية نجحوا في خدمة الإنسان من حيث كونه حيواناً جسديّاً، وأنتجوا من القوة المادية والتنظيمية ما كان لا يدخل في حسبان أحد حتى في النوم، ولكنهم أفلسوا كل الإفلاس في الناحية الرّوحية؛ لأن أرواحهم خبيثة كأرواح البهائم والسباع، ليست مُرَبَّاةً على ضوء نورٍ سماوي، ولا تعليم إلهي، فصارت هذه القوة الطاغية كأنها في يَدِ سَفِيهٍ جَاهِل لا يدري ماذا يفعل بها؛ ولذا تجد العالم كله في قلق مِنْ أَنْ تَنْفَجِرَ هَذِهِ القوة وتُفني كثيراً من الدنيا، وتراهم يعقدون المؤتمر بعد المؤتمر، والمجلس بعد المجلس ليتخلصوا من تلك القوة التي بذلوا فيها النفس والنفيس.
وأنا أؤكد لكم تماماً أنه لو كان أحد الطرفين يعلم أنه لو بادر فَدَمَّرَ ما عنده من القوة الفَتَّاكَة لفعل الثاني كما فعل، إنهم يبادرون ليتخلصوا من شَرها وخوفها والقلق بها، ولكن الكل يخاف إن بدأ بإتلاف ما عنده أن يحتفظ الثاني بالقوة التي عنده ويهلكه بها، في الوقت الذي ليس عنده قوة تدافعها، كل هذا إنما جاءهم من أنهم أهملوا ناحية الروح، واعتنوا بناحية الجسد.
والاهتمام بناحية الجسد لا ينفع ولا يصلح إلا إذا كان مزدوجاً مع الاهتمام بالروح، فلو كانت الأيادي التي صنعت هذه القوة مُرَبَّاة تربية سماوية على ضوء نور إلهي لكانت في غاية العدالة، وكان الناس في أمن تام أنهم لا يبطشون بها إلا في أمر يرضي الله ويكون في مصلحة العَالَمِ البَشَرِي؛ ولذا فهم كأنياب الأسد وأظفاره، أنياب الأسد وأظفاره قوة حيوانية بهيمية فتاكة، ولكن النفس التي تديرها نفس بهيمية طبيعتها الافتراس والابتزاز والهدم، فلا مصلحة بها لبني الدنيا؛ لأن الذي يديرها يوجهها توجيهاً لا فائدة فيه، كذلك المسلمون عندهم تراث عظيم روحي، ضيعوا هذا التراث!
وكان الواجب على المسلمين أن يفهموا أن ما أنتجته الحضارة الغربية من خدمة جسم الإنسان أن فيه أشياء نافعة عظيمة يجب أخذها، وهو ما أنتجته من القوة من الناحية المادية والتنظيم، وأن فيها أضراراً عظيمة وسموماً قاتلة، وهي ما أحدثته من الإفلاس الخُلُقي والتمرد على نظام السماء، والكفر الصريح، والانْحِطَاط الخلقي في جميع ميادين الأخلاق والقيم الإنسانية الرّوحية، فهم مُفْلِسون في هذه الناحية، أغنياء في هذه الناحية، فكان على المسلم أن يعلم أن الحضارة الغربية أنتجت ماءً زلالاً نافعاً، وسمّاً فتاكاً قاتلاً، فيأخذ الماء الزلال، ويحذر من السمّ القاتل، فينتفع بتعلم ما أحدثته من القوة في سائر الميادين، وفي ذلك يأمر القرآن، ويحذر مما جَنَتْهُ من التمرد على نظام السماء، حتى إن بعض الكاتبين منهم لينفون خالق السماوات! وبعض طرقهم الهدامة مبناها على أنه لا خالق لهذا الكون ولا دين والعياذ بالله.
والمؤسف كل الأسف أن أغلب من يديرون الدفة -إلا من شاء الله- غالباً يعكسون الأمر فيأخذون من الحضارة سُمّها الفتاك، وهي الانحطاط الخلقي، والتمرد على نظام السماء، ورمي القرآن وراء ظهورهم، في الوقت الذي لا يستفيدون فيه قوة!
مَا أَحْسَنَ الدِّينَ وَالدُّنْيَا إِذَا اجْتَمَعَا وَأَقْبَحَ الْكُفْرَ وَالْإِفْلَاسَ بِالرَّجُلِ
فعلينا أن نعلم أنه لا يكفي نصيب الروح دون نصيب الجَسد، ولا نصيب الجسد دون نصيب الروح، فلو بقي المسلمون في المساجد يصومون النهار، ويقومون الليل، ويتلون القرآن، ويعبدون الله، ولم يزاولوا شيئاً من القوة التي يردون بها الكفاح المسلح عن أوطانهم، كانوا لم يأتوا بمدلول القرآن ولم يطيعوا الله؛ لأن التكاسل والضعف وعدم إعداد القوة مخالفة للشرع السماوي، وتمرّد على نظام السماء، وكذلك الذين أعدوا جميع القوة، وخالفوا أوامر خالق السماء، فالكل من هؤلاء وهؤلاء ليس على هدى، والهدى ما كان عليه النبي – صلى الله عليه وسلم – وأصحابه، وهو إعداد القوة الكاملة في جميع الميادين، مع المحافظة على إرضاء خالق هذا الكون، والعمل بما شرّعه من تحليل وتحريم وآداب ونحو ذلك؛ ولذا قال الله: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ} يعني: اتبعوا ما فيه من الهدى والرشاد، فإنكم لو فعلتم ذلك لَكَفَاكُمْ شَرَّ الدنيا وشر الآخرة، ولكنتم خير أمة وفقتم جميع البَشَر، وغلبتم جميع مَنْ فِي الدنيا؛ لأن من أطاع الله صار حِزْبَ الله، وحزب الله لا يُغلب، وطاعة الله والتمسك بكتابه هي جند لا يُغلب، فالله (جل وعلا) يأمر المؤمنين بالاستعداد، مع أن إيمانهم بالله قوة لا يغلبها شَيْء.”
و قال رحمه الله:
” فعلى المسلمين أن يعلموا أن ما يسميه الإفرنج اليوم بالحضارة الغربيةوالتقدّم هو حقيقته الدعاء إلى الكفر بالله، والإلحاد في آياته، والطعن في كتابه وفي رسوله صلى الله عليه وسلم فهم قادة النار، وسادة أهل جهنم الذين يتبعهم كثيرٌ من الرعاع الذين لا عقول لهم، ولم تتنور بصائرهم بنور الوحي، فهم أتباع لأولئك في طريق جهنَّم، وعن قريب يقف الجميع أمام الله وهؤلاء متبوعون سادة في الكفر، وهؤلاء أتباع مساكين مغرورون خدعهم أولئك حتى جروهم إلى الكفر بالله، والطعن في رسله وكتبه، والإلحاد في آياته، وزينوا لهم أن الدين مسخرة لا فائدة فيه، وبعضهم يقول لهم: إنه أفْيُون الشعوب. فيلحذر المسلم أن يكون من أتباع الكفرة إلى نار جهنَّم.
واعلموا أن هذا الذي يطلقون عليه اسم الحضارة والتقدُّم أنه شعار يحمل في داخله حقيقة الكفر والإلحاد بالله، والتمردُ على نظام السماء، والطعن في الدين، وفي الرسول صلى الله عليه وسلم، والازدراء بالإيمان، والاستخفاف بأوامر الله ونواهيه، فهذا الشباب المنتشر في أقطار الدنيا الذي يقلد أولئك في كل ما يقولون ويفعلون ويعتقدون، مع أنهم يتسمون باسم المسلمين، هم أتباع، وأولئك متبوعون، ويوم القيامة قد علمتم مصير المتبوعين الداعين إلى النار، ومصير الأتباع الذين يتبعونهم، فعلى المسلم في دار الدنيا قبل أن تضيع عليه الفرصة أن لا يغتر باسم الحضارة و اسم التمدن واسم التقدم، وأن ينظر في الوحي السماوي، وما هي أوامر رب العالمين الذي خلق السماوات والأرض، وما هي نواهيه، فيخضع لأوامر ربه، ويمتثل أمر الله، ويجتنب نهيه، ويقتدي بالرسول الكريم صلى الله عليه وسلم لئلا يكون تبعاً لكفرة فجرة يتبرؤون منه يوم القيامة ويندم، ويصير الجميع إلى النار.
ودين الإسلام الذي نتكلم باسمه – الذي هو تشريع رب العالمين جلّ وعلا – لا يمكن أن يكون صخرة تعثر في طريق التقدُّم، بل هو دين كل تقدم في كل ميادين الحياة، فدين الإسلام يدعو إلى التقدم والقوة في جميع ميادين الحياة، فما يخيله الكفرة الإفرنج مِنْ أنَّهُ دين ركود وجمود ودعةٍ وإخلاد إلى الأرض، وأن المتمسك به لا يمكن أن ينهض، ولا يساير ركب الحضارة، كلها فلسفات شيطانية لا أساس لها، تروّج على ضعاف العقول.
أما دين الإسلام فهو في حقيقة ذاته دين التقدُّم في جميع الميادين الحيوية، فيدعو إلى كل تقدم في جميع الميادين الحيوية، إلا أنه يُعَلِّمُ الناس أن هذه الدنيا ليست فوضى، وأن عليها ربّاً حكماً عدلاً هو خالق كل شيء، ومدبِّر كل شيء، ومنه كل شيء، وإليه مصير كل شيء، هو الذي خلق هذه الأرض والبحار، ونصب هذه الجبال ورفع السماوات، وخلق هذا الخلق، وشق أعينهم، وصبغ بعضها بصبغ أسود، وبعضها بصبغ أبيض، وفعل بهم ما هو معروف، هذا الرب هو الذي له السلطان الأكبر، والكلمة العليا، فلا يُصدَر إلا عن أمره، فهو (جلّ وعلا) الحقيق بأن يطاع فلا يُعْصى، وأن يذكر فلا يُنْسَى، وهو (جل وعلا) أنزل كتاباً مبيناً محفوظاً من كلامه (جل وعلا)، وسنة نبوية على نبي كريم، بيَّن فيها معالم الحياة، وأقام فيها أُسس الدنيا التي إذا مشت عليها قامت بالعدالة التي لا نظير لها، والأمن والطمأنينة والرفاهية، وانتظمت علاقاتها على أكمل وجه، مع إرضاء خالق السماوات والأرض، والعمل لدار الكرامة والخلود في الجنة في الدار الأخرى.
وإذا نظرتم في القرآن فإنه لا يدعو إلى الإخلاد والضعف والعجز، لا وكلاَّ، بل إنه يدعو إلى التقدُّم والقوة في جميع ميادين الحياة، اقرءوا آية: {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ} [الأنفال: آية ٦١] فتجدوا نص هذه الآية الكريمة يأمر بإعداد القوة، وهو مساير للتطور مهما بلغ التطور، ولو مما لا يتصوره الإنسان، فالمتكاسل الذي لا يُعد القوة لرد الكفاح المسلح، وقمع أعداء الله، هو مخالف لنظام القرآن، غير ممتثل أمر الله؛ لأن الله يقول: {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ}. وإذا نظرتم في القرآن تجدونه يبين معالم السياسة، ومعالم الاجتماع، ومعالم الاقتصاد على أبدع الوجوه وأكملها في جميع مرافق الحياة.
فالسياسة الخارجية مثلاً يعرف العاقلون بالاستقراء أنها تتركز على أصلين:
أحدهما: إعداد القوة الكافية لرد الكفاح المسلَّح، وقمع الطغاة أعداء الإسلام. وفي هذا الأساس يقول الله: {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ} [الأنفال: آية ٦١].
الثاني: اجتماع الكلمة اجتماعاً صحيحاً حقّاً حول كلمة لا إله إلا الله، لا تتخلله عداوات، ولا مباغضات، ولا مداهنة بالكلام جوفاء مع العداوات الباطنة. والله يقول في هذا: {وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُم} [الأنفال: آية ٤٦] {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ الله جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ} [آل عمران: آية ١٠٣] فمن عمل بهذين الأصلين فأعد القوة الكافية، وكانت كلمة المسلمين حول تلك القوة كلمة واحدة، وصفّاً واحداً لا يتخلله خلل ولا فشل، كانت قوتهم وافية، وكلمتهم عالية؛ وعدوهم يهابهم، ولا يستطيع أن ينتهكهم.
وبيانه للسياسة الداخلية من المحافظة على الأموال، والأعراض، والأنفس، والعقول، والأديان حتى يكون المجتمع في طمأنينة، ورَفَاهَةٍ، ورخاء، قد أشرنا إليه مراراً. فدين الإسلام دين التقدُّم في جميع الميادين، لا دين إخلاد إلى الأرض وضعفٍ وركود، بل هو دين تقدُّم في الميادين…”
تعقيب: فتنة المسلمين بتقدم الكفار…! | هاني حلمي