يتفاضل الناس في فهم الكتاب و السُنة و سائر النصوص تبعاً لتفاضلهم في العلم و النظر و الفكرة في استنباط المعرفة…
قال خطيبُ أهل السنة، ابن قتيبة الدينوري رحمه الله تعالى و أجزل له المثوبة، في كتاب تأويل مُشكل القرأن:
“… ولو كان القرآن كله ظاهرا مكشوفا حتى يستوي في معرفته العالم والجاهل، لبطل التفاضل بين الناس، وسقطت المحنة، وماتت الخواطر.
ومع الحاجة تقع الفكرة والحيلة، ومع الكفاية يقع العجز والبلادة…
وكل باب من أبواب العلم: من الفقه والحساب والفرائض والنحو، فمنه ما يجلّ، ومنه ما يدقّ، ليرتقي المتعلم فيه رتبة بعد رتبة، حتى يبلغ منتهاه، ويدرك أقصاه ولتكون للعالم فضيلة النظر، وحسن الاستخراج، ولتقع المثوبة من الله على حسن العناية.
ولو كان كل فن من العلوم شيئا واحدا: لم يكن عالم ولا متعلم، ولا خفيّ ولا جليّ لأن فضائل الأشياء تعرف بأضدادها، فالخير يعرف بالشر، والنفع بالضرّ، والحلو بالمر، والقليل بالكثير، والصغير بالكبير، والباطن بالظاهر.
وعلى هذا المثال كلام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وكلام صحابته والتابعين، وأشعار الشعراء، وكلام الخطباء- ليس منه شيء إلا وقد يأتي فيه المعنى اللطيف الذي يتخيّر فيه العالم المتقدّم، ويقرّ بالقصور عنه النّقّاب المبرّز.”
و كتابُ الله هو من أعظم ما يتفاضل الناس في فهمه، و في هذا المعني ، قال محمد أنور شاه الكشميري في [فيض الباري على صحيح البخاري، 1: 320 دار الكتب العلمية] :
“… بل كلما كان الكلامُ أبلغَ كان في اجتمال الوجوه أزيدَ، ولا يُفهم هذا المعنى إلاّ من عُنِيَ به.
وأما الجاهل فيزعمه سهل الوصول لقوله تعالى: (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْءانَ لِلذّكْرِ)
ولا يدري أنه ليس تيسيرُه على قدر ما فهمه، بل معناه أنه يشتركُ في تحصيل معناه والاستفادة منه الأعالي والأداني، لكنه يكون بقدر نصيبهم من العلم.
وهذا من غاية إعجازه، يسمعه الجاهلُ ويأخذ منه علمًا بقدره، ويَرَاه الفحولُ ويُفعِمون منه دِلاءً بقدر أفهامهم، بخلاف كلام الناس فإِنه إن كان ملتحقًا بأصوات الحيوانات فإِنه لا يَلتفِتُ إليه البلغاء، وإن كان في مرتبة من البلاغة لا يُدرِكُ مرادَه الجهلاء.
وهذا كتابٌ بلغ في مراتب البلاغة أقصاهما ولم يزل سحاب علومِهِ مَاطِرًا على كافة الناس، عقلائهم وسفهائهم سواء بسواء، وهذا معنى التيسير لا ما فهموه”
و مثالُ التفاضل في فهم كلام العلماء، ما قاله أبو جعفر النحاس عن كتاب سيبويه، كما في خزانة الأدب:
فالعلمُ يُنال بالفكرة و استنباط المعرفة، كما قال رحمه الله تعالى.
قلتُ (هاني): و ما أحسن قول المتنبي:
ولكِنْ تأخُذُ الآذانُ مِنْهُ | على قَدَرِ القَرائحِ والعُلُومِ |
لذا يجب على المسلم المُتعلم على سبيل النجاة أن لا يعدو قدره ، و يعلم مكانه في العلم ، و يكون ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، و يرتب وجوه الفهم من حيث أولاها بالصواب، و لا ينكر على مجتهد قد بلغ وسعه فأخطأ ، وإنما النكير على من تبين له الحق و أبى إلا اتباع الهوى ، أو الجاهل الذي يخبط في الكلام دون أن يعرف أصلاً من فرع.
اللهم علمنا ما ينفعنا و انفعنا بما علمتنا و زدنا علماً.
و صل اللهم على محمد و على آله و صحبه و سلم.
هاني حلمي