من غوائل خُلطة الخَلق…!

قال أبو حامد الغزالي، رحمه الله تعالى، في إحياء علوم الدين ٢٨٠/٤:

” لا يجالس الإنسان فاسقاً مدة مع كونه مُنكِراً عليه في باطنه ، إلا ولو قاس نفسه إلى ما قبل مجالسته لأدرك بينهما تفرقة في النفرة عن الفساد واستثقاله ، إذ يصير الفساد بكثرة المشاهدة هيناً على الطبع فيسقط وقعه واستعظامه له ، وإنما الوازع عنه شدة وقعه في القلب ، فإذا صار مستصغرا بطول المشاهدة أوشك أن تنحل القوة الوازعة ، ويذعن الطبع للميل إليه أو لما دونه ، ومهما طالت مشاهدته للكبائر من غيره استحقر الصغائر من نفسه ، ولذلك يزدري الناظر إلى الأغنياء نعمة الله عليه فتؤثر مجالستهم في أن يستصغر ما عنده ، وتؤثر مجالسة الفقراء في استعظام ما أتيح له من النعم “.

و هذا المعنى لطيفٌ جداً، و هو من غوائل الخُلطة، أسال الله أن يصلح لنا الخُلة.

و قال ابن الجوزي رحمه الله ، وكان نسيجٌ وحده، في كتاب ” السر المصون “، نقلاً عن الآداب الشرعية لابن مفلح رحمه الله ص 241.

” مَنْ عَلِمَ أَنَّ الدُّنْيَا دَارُ سِبَاقِ وَتَحْصِيلِ الْفَضَائِلِ، وَأَنَّهُ كُلَّمَا عَلَتْ مَرْتَبَتُهُ فِي عِلْمٍ وَعَمَلٍ زَادَتْ الْمَرْتَبَةُ فِي دَارِ الْجَزَاءِ، انْتَهَبَ الزَّمَانَ، وَلَمْ يُضَيِّعْ لَحْظَةً وَلَمْ يَتْرُكْ فَضِيلَةً تُمْكِنُهُ إلَّا حَصَّلَهَا، وَمَنْ وُفِّقَ لِهَذَا فَلْيَبْتَكِرْ زَمَانَهُ بِالْعِلْمِ، وَلْيُصَابِرْ كُلَّ مِحْنَةٍ وَفَقْرٍ، إلَى أَنْ يَحْصُلَ لَهُ مَا يُرِيدُ، وَلْيَكُنْ مُخْلِصًا فِي طَلَبِ الْعِلْمِ عَامِلًا بِهِ حَافِظًا لَهُ،، فَإِمَّا أَنْ يَفُوتَهُ الْإِخْلَاصُ فَذَاكَ تَضْيِيعُ زَمَانٍ وَخُسْرَانُ الْجَزَاءِ، وَإِمَّا أَنْ يَفُوتَهُ الْعَمَلُ بِهِ فَذَاكَ يُقَوِّي الْحُجَّةَ عَلَيْهِِ وَالْعِقَابَ لَهُ، وَإِمَّا جَمَعَهُ مِنْ غَيْرِ حِفْظٍ، فَإِنَّ الْعِلْمَ مَا كَانَ فِي الصُّدُورِ لَا فِي الْقِمْطَرِ. وَمَتَى أَخْلَصَ فِي طَلَبِهِ دَلَّهُ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.

إلَى أَنْ قَالَ:

وَلْيَبْعُدْ عَنْ مُخَالَطَةِ الْخَلْقِ مَهْمَا أَمْكَنَ خُصُوصًا الْعَوَامَّ، وَلْيَصُنْ نَفْسَهُ مِنْ الْمَشْيِ فِي الْأَسْوَاقِ فَرُبَّمَا وَقَعَ الْبَصَرُ عَلَى فِتْنَةٍ، وَلْيَجْتَهِدْ فِي مَكَان لَا يَسْمَعُ فِيهِ أَصْوَاتَ النَّاسِ، وَلْيُزَاحِمْ الْقُدَمَاءَ مِنْ كِبَارِ الْعُلَمَاءِ وَالْعُبَّادِ مُنْتَهِبًا الزَّمَانَ فِي كُلِّ مَا هُوَ أَفْضَلُ مِنْ غَيْرِهِ، وَمَنْ عَلِمَ أَنَّهُ مَارٌّ إلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَإِلَى الْعَيْشِ مَعَهُ، وَعِنْدَهُ وَإِنَّ أَيَّامَ الدُّنْيَا أَيَّامُ سَفَرٍ صَبَرَ عَلَى تَفَثِ السَّفَرِ وَ وَسَخِهِ”

قلتُ (هاني):

لا بأس من أن تصاب بالإحباط من تلك الكلمات! و لا بأس من البكاء على الحال، فإن الندم و الحسرة أول منازل الطريق إلى الله… فانتهز الفرصة يا أخي!

قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى في شرح رياض الصالحين:

” … فينبغي للإنسان أن يغتنم عمره بصالح الأعمال لأنه سوف يندم إذا جاءه الموت أن أمضى ساعة من دهره لا يتقرب بها إلى الله عز وجل، كل ساعة تمر عليك وأنت لا تتقرب إلى الله بها فهي خسارة لأنها راحت عليك لم تنتفع بها.

فانتهز الفرصة بالصلاة والذكر وقراءة القرآن والتعلق بالله عز وجل اجعل قلبك دائما مع الله سبحانه وتعالى ربك في السماء وأنت في الأرض لا تغفل عن ذكر الله بلسانك وفي فعالك وبجنانك (بالقلب) فإن الدنيا زائلة لن تبقى لأحد.

انظر الأولين من سبقك من الأمم السابقة والماضية البعيدة المدى، وانظر من سبقك من أصحابك بالأمس كانوا معك يتمتعون ويأكلون كما تأكل ويشربون كما تشرب، والآن هم في أعمالهم مرتهنون، وأنت سيأتي عليك هذا طالت الدنيا أم قصرت قال تعالى: (يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه).

فانتهز الفرصة يا أخي، انتهز الفرصة، لا ينفعك يوم القيامة لا مال ولا بنون ولا أهل لا ينفعك إلا أن تأتي الله بقلب سليم.

أسأل الله أن يجعلني وإياكم ممن يأتي ربه بقلب سليم وأن يتوفانا على الإيمان والتوحيد إنه على كل شيء قدير”

و قال أبو حاتم ابن حبان في مقدمة “روضة العقلاء و نزهة الفضلاء”:

“والعاقل يقيس ما لم يَر من الدنيا بما قد رأي، ويضيف مالم يسمع منها إلى ما قد سمع، وما لم يصب منها إلى ما قد أصاب ، وما بقي من عمره بما فني، وما لم ينل منها بما قد أوتي، ولا يتكل على المال وإن كان في تمام الحال لأن المال يحلُ ويرتحلُ والعقل يقيم ولا يبرح، ولو أن العقل شجرة لكانت من أحسن الشجر، كما أن الصبر لو كان ثمرة لكان من أكرم الثمر، والذي يزداد به العاقل من نماء عقله هو التقرب من أشكاله والتباعد من أضداده .”

و خذ هذه النصيحة الأخيرة: نِعمَ صَومعةُ المسلمِ بيتُه!

عن عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ : قُلْتُ : يَارَسُولَ اللهِ ، مَا النَّجَاةُ ؟ قَالَ : “امْلِكْ عَلَيْكَ لِسَانَكَ ، وَلْيَسَعْكَ بَيْتُكَ ، وَابْكِ عَلَى خَطِيئَتِكَ”

و رُوى عن أبي الدرداء رضي الله عنه:

“نِعمَ صَومعةُ المسلمِ بيتُه يكفُّ سمعَهُ وبصرَهُ وقلبَهُ ولسانَهُ”

والصومعة: مَنارُ الراهِبِ ، والتَّرَهُّبُ: التَّعَبُّدُ ، و إنما أراد مشابهة الراهب في الإنقطاع إلى صومعته، و كأنه يقول أن اعتزال الناس في الشر عبادة، و هو كذلك.

هاني حلمي

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s