إن وضعتَ النظرة الشعوبية العمياء جانباً ، ونظرتَ نظرة منصف متجرد ، لوجدت حال مصر اليوم كحال تلك العجوز التي وصفها أبو تمام بقوله :
مِثْلَ العَجُوزِ الَّتِي وَلَّتْ بَشَاشَتُهَا وَبَانَ عَنْهَا شَبَابٌ كَانَ يُحظيها
تشعر حقاً و كأنها عجوز وَهنَ منها العظم و اشتعل رأسها شيباً و باتت بجفاء بنيها شقياً… عجوز تحيا على ذكري الشباب ، يوم كانت قوية فتية ، عجوز ذهبت من روحها العافية ، و تبدل أُنسها حذراً و جمالها قبحاً وسعتها ضيقاً وكدراً…
لماذا وصلنا لهذا الحال! و ما هو المخرج!
إن أعظم ثمرات العقول و فقه القلوب ردُ الأمور إلى أسبابها الحقيقية ، و هي الأسباب الشرعية التي علق الله عليها الفلاح و الخسران في الدنيا و الآخرة .
و هذا هو فقه الواقع على حقيقة أمره ، و كل محاولة لتفسير أسباب الفلاح و الخسران بمعزل عن تلك الأسباب فهو تضليل للأفهام و تضييع للأعمار.
السبب العام للفتن و المحن هو الإعراض عن دين الله المُنزل و استبداله بالذي هو أدني من مناهج الأمم الوثنية الملحدة.
وليس الفقر ولا البطالة ولا الاختلاف و التناحر و لا ظلم الحكام إلا أعراض للمرض و ليست هي أصل المرض ، بل أصل المرض هو الإعراض العام عن دين الله و الشرك بالله و انتشار البدع و جهل المسلمين بدين رب العالمين… هذا هو أصل البلاء العام، و الدليل على ذلك ساطع في كتاب الله لا يخفى على مسلم:
قال تعالى:
(وَلَوْأَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِم مِّن رَّبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم ۚ مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ ۖ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ) المائدة 66
(وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَـٰكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ) الأعراف 96
(وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا ۖ وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَىٰ عَلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا ۖ وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ) الأعراف 137
و على ذلك فإن أي محاولة للإصلاح بمعزل عن هذا الأصل فهي إضاعة للوقت و سعي غير مشكور.
الله عز و جل بيده خزائن السموات و الأرض، يده مليئة بالخير ينفق كيف يشاء، و لا يعجزه أن يجعل كل المسلمين أغنى و أنعم أهل الأرض، و لكن الله يريد من الناس صلاح أديانهم و توحيدهم و عبادتهم له، إذ هذا هو المقصود الأعظم لخلقلهم، ثم الخيرات و الأموال تأتي تبعاً.
و من اعترض على ذلك الأصل بتقدم رفاهة بعض دول الكفر في زماننا، فيجبُ أن يُعلم أن هؤلاء قد بذلوا أسباباً دنيوية بحته ترتب عليها أثارها من رفاهة العيش، و قد أذن الله في ذلك تعجيلاً لنصيبهم من الدنيا، إذ لا نصيب لهم في الأخرة، و المسلم يعلمُ أن نصيبهم في الدنيا – على عظمه في أعين بعض الناس – ما هو إلا متاع قليل كما وصفه الله تعالى في كتابه.
كذلك، فتح الدنيا على بعض أمم الكفر، مع إعراضهم و كفرهم، قد يكون فتنة لهم ليزدادوا كفراً، و فتنة للمسلمين، لينظر الله من سيتابع طريقتهم و يواليهم على كفرهم، فيعتنقُ بمناهجهم من علمانية و ليبرالية و إلحادية و اشتراكية و رأس ماليه و شيوعية،…، و هذا هو الضلال المبين.
أنني أعلم علم اليقين أن لا سبيل لإصلاح المعاش و المعاد إلا بالاعتصام بكتاب الله وسنة رسوله، و أنهما سبيل السعادة، فقاصد للصراط و ناكب عنه، و أن تعليم الناس الخير و صفاء الدين مع نبذ العصبية و الجاهلية و الثورية هو من أعظم الجهاد، و أي بناء على غير تلك الأسس فلن يصمد في وجه أعاصير الفتن و موجات مكر الليل و النهار، فإن العالم يموج بالكفر و الإلحاد، و الشعوب تُمسخ مسخاً و تدرسُ هويتها.
فلابد لنا من يقظة من غفلة الجهل، و لابد من الرجوع إلى الله و العمل له، كلٌ بحسب طاقته و مكانه، و لابد من توبة جماعية فكرية عامة، عسى الله أن يرفع عنا البلاء و يذيقنا طعم العز في الدنيا قبل المصير إليه … و ذلك بالتطهر من نجاسة الثورات و الاغتسال بماء السُنة ، و دون ذلك عذاب الله في الدنيا ، لعله يخفف من عذاب الأخره.
توبة الإعلام عن الكذب و الحماقة و التعالم بالباطل، و توبة النُخبة عن الفسق و الفساد في الأرض، و توبة علماء السوء عن لبس الحق بالباطل، توبتة التجار عن الجشع، توبة النظام المالي عن الربا،…، توبة كل فرد بحسب حاله.
قال تعالى:
{ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم : 41]
لعلهم يرجعون: أي لعلهم يتوبون.
قال ابن عباس رضي الله عنه : الفساد هو نقصان البركة بأعمال العباد كي يتوبوا.
و قال عزَ ذِكره:
{وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَّا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً ۖ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الأنفال : 25]
قال القرطبي رحمه الله: قال علماؤنا: فالفتنة إذا عمت هلك الكل.
و الله لا أجد مخرجاً إلا التوبة ، فالله قادر على تبديل الأحوال و نعش هذه البلاد من جديد ، و لكن خلط المفاهيم على أعين الناس قد جعل من الباطل الذي يُتاب منه حقاً يُتمسك به ، فمن أي شيء يتوب الناس!
يقولون الثورات و المظاهرات و الخروج على الحُكام = وطنيةٌ!
و الربا و فوائد البنوك و السندات = استثمارُ حلال!
و إشاعة الفاحشة في الذين أمنوا = فنٌ!
إشاعة أمر الأمن و الخوف دون تثبت= إعلام!
فكيف يُتاب من الباطل و هو في أعين الناس حقٌ!
و من تأمل تاريخ أرض مصر رأي العجائب، فإنها كانت تقوم بأهلها ، تتسع بهم و تضيق بهم ، تعلو بهم و تسفل بهم ، يموجون بها فتموج بهم،…
لَعَمْرُكَ ما ضاقَتْ بِلاَدٌ بأَهْـلِـهَـا ولكنَّ أَخلاقَ الرِّجـالِ تَـضـيقُ
و من يدري ما يكون غداً، فالدول مثل الأهلة في أفول و طلوع ، و مداولة الأيام سنة الله في عباده ، فعسى الله أن يخلق لمصر خلقاً جديداّ يجدد لها شبابها ، و الله يخلق ما يشاء و يختار.
وإني لأرجوا الله حتى كأنني أرى لجميل الظن ما الله صانع
هاني حلمي