سوف أخبركم عن الوجه الأخر للإعصار، ليس وجه خراب البيوت و الممتلكات الذي تشاهدونه في الأخبار، بل وجه خراب الأخلاق و الأديان، الوجه الذي لا يراه إلا قليلٌ من الناس، و فوق كل ذي علم عليم.
بينما أكتب هذه السطور كان يضربُ ولاية فلوريدا الأمريكية إعصاراً قوياً، قد رأى الناس أثاره المدمره، و ما أن انقشعت غيومه و فارقت ذيوله جزر الكاريبي ووجه بعينه تجاه سواحل أمريكا، لم تفتأ وسائل الإعلام الأمريكية تبدئ و تعيد في قوة الإعصار، و سرعة الرياح، و تصنيف العاصفة، و ارتفاع مستوى المياه، و الأماكن التي سيمر بها…
مُعظم قنوات الأخبار الأمريكية تتحرى إعلان البيانات الكمية للإعصار، تبعاً للمنظمات الحكومية المعنية بالقياسات، و هذه المعلومات لا تفارق الشاشات، تماماً كالبيانات الخاصة بمؤشرات البورصة، و أسعار الأسهم،…
على الأرض خسائر كبيرة في البيوت و الممتلكات و السيارات و الطرق، تنتظرُ من يوقع فاتورة إصلاحها، و التي ستتعدى على أقل تقدير رقماً من ثلاثة خانات من مليارات الدولارات…
تُرى من سيوقع فاتورة إصلاح الأضرار؟
سيخبرك رجل الشارع أن معظمها من تعويضات شركات التأمين.
و لكن من أين تأتي شركات التأمين بهذه المبالغ الطائلة التي تتجواز مئات أضعاف رؤوس أموالها؟
سيخبرك متخصص أنها من شركات إعادة التأمين.
و من أين تأتي شركات إعادة التأمين بهذه المبالغ الطائلة؟
من الكازينو الكيبر: سوق المال و بالتحديد من “سندات الكوارث” المعروفة ب “Catastrophe Bonds”… فما هي و كيف تعمل؟
مفهوم سندات الكوارث ببساطة أن شركات إعادة التأمين تُصدر سندات مؤسسية، و هي قروض بفائدة ثابتة تُدفع دورياً، لها مدة محددة، ثم تُرد القيمة الإسمية للسند للمُقرض، غير أن سندات الكوارث تختلف عن سندات الشركات العادية بأن شركة إعادة التأمين يمكن أن تستحوذ على قيمتة السند الأسمية (رأس مال السند) إذا ما حدثت كارثة طبيعية محددة مُسبقاً، بمواصفات معينة، و قوة معينة، تضرب مناطق معينة، مثل إعصار “إرما”… ، لذلك فمعدلات فوائد هذه السندات ترتفع كثيراً عن السندات الأخري، لأن معدل العائد يرتفع بارتفاع خطورة ضياع رأس المال …
فإن حدثت الكارثة بالمواصفات و معدلات الخسائر المتفق عليها، خسر صاحب رأس المال ماله، و إن لم تحدث في الفترة المتفق عليها، استرد رأس ماله…
و هذا الفيديو يوضح كيفية عمل ال Catastrophe Bonds…
و طبقاً للإحصائيات، بلغ حجم سندات الكوارث المُصدرة كما في 30 يونيو 2017 : 88.8 مليار دولار أمريكي ، معظمها يغطي كوارث الأعاصير و الكوارث الطبيعية في أمريكا…
طبقاً لمؤسسة التصنيف S&P ، من المتوقع أن يضرب إعصار “إرما” هذه السندات:
• The $250 million Kilimanjaro Re Ltd.
• The $200 million Kilimanjaro Re Ltd.
• The $70 million Residential Reinsurance 2013 Ltd.
• The $125 million Residential Reinsurance 2015 Ltd.
• The $110 million Residential Reinsurance 2016 Ltd.
• The $150 million Residential Reinsurance 2016 Ltd.
• The $170 million Residential Reinsurance 2016 Ltd.
• The $150 million Residential Reinsurance 2017 Ltd.
• The $125 million Tradewynd Re Ltd.
و هذه السندات جزء من محافظ الاستثمارات لدى البنوك و شركات التأمين و صناديق التقاعد (المعاشات) و صناديق التحوط و غيرها… ويزداد الأقبال عليه سنوياً، نظراً لللعائد الكبير…
و لا يخفى على ذي بصيرة في الدين أن هذه السندات ظلماتُ بعضها فوق بعض، فقد جمعت بين الربا و القمار و الغرر الفاحش، و هم أعمدة النظام الربوي الرأسمالي، الغارق في تجارة المال بالمال في مقابل الأجل، و الربح من التخمين و الاحتمالات و المخاطرة بالمال …
و لقد سبرتُ أغوار هذا النظام بحكم العمل و الدراسة، و لقد خلصتُ إلى أن بورصات العالم و بنوكه و مؤسساته الماليه ما هي إلا كازينو كبير تدارُ فيه عمليات القمار على مدار الساعة، يتهافتُ عليه الكل من أجل الحظ و الربح، و من تلك الألعاب سندات الكوارث Cat Bonds و المشتقات المالية Derivatives و التوريق Securitization و المبادلات Swaps و ال options و forward contracts و التحوط hedging ، التي هي في حقيقتها مضاربات Speculation إحدى طرفها فائز و الآخر خاسر ، بناء على حدث تخميني في المستقبل مثل الكوارث الطبيعية، تغير العملة، تغير معدلات الفائدة، تغير قيمة سهم، أو حتى تغير درجات الحرارة! كل ما هو غيب يمكن اللعب عليه و الإتجار فيه!
إن الميسر و القمار يسريان في عروق الغرب الكافر، في تجارتهم و رياضتهم و ثقافتهم حتى أعمال الخير عندهم لا تخلو من مقامرة! و هذه أخلاق المغضوب عليهم و الضالين فهم نجسٌ متلبسون برجسٍ…
قال تعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} الأيات: التوبة 28
و قال تعالى:
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } المائدة 90
أما عن أكل الربا، فقد أخبرنا الله عنهم في كتابه، فقال تعالى:
{وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ ۚ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} النساء 161.
و عاقبة الربا هي المحق و القِلة:
قال تعالى:
{ يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} البقرة 276.
قال ابن فارس في [مقاييس اللغة] : الميم والحاء والقاف كلماتٌ تدلُّ على نُقصان.
و نقل ابن منظور في [لسان العرب] :” المَحْق: النقصان وذهاب البركة، وشيء ماحِقٌ: ذاهب… قال الله تعالى: {يَمْحَقَ الله الرِّبا ويُرْبي الصدقات}، أي يستأْصل الله الربا فيُذْهب رَيعْه وبركته…
و روي عن عبد الله بن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:” الرّبا وَإن كثُر فإلى قُلّ”، معناه إِلى قِلَّة أَي أَنه وإِن كان زيادة في المال عاجلاً فإِنه يَؤُول إِلى النقص…”
و لحديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ألفاظاً أخرى عند أحمد في المسند برقم (3754) , (4026)، و رواه ابن ماجة في السنن (2279) بسند صحيح عَنْ رُكَيْنِ بْنِ الرَّبِيعِ بْنِ عُمَيْلَةَ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ :
” مَا أَحَدٌ أَكْثَرَ مِنَ الرِّبَا إِلَّا كَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهِ إِلَى قِلَّةٍ “
و هذه الكوارث و الأعاصير و الزلالزل و الفتن هي من كسب الناس و من جراء فسقهم و كفرهم، و يرفع الله كثيراً منها بعفوه و رحمته، فكم من إعصار بدأ في البحر و انتهى في البحر، و قد يصيب الله بها من يشاء من عبادة عقوبة لمن يستحفق العقاب، و ذكرى لمن كان له قلبُ حي، و ابتلاءً لصبر المؤمنين منهم … قال تعالى:
{وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ} الشورى 30.
قال شيخ المفسرين ابن جرير الطبري رحمه الله تعالى: ” يقول تعالى ذكره: وما يصيبكم أيها الناس من مصيبة في الدنيا في أنفسكم وأهليكم وأموالكم (فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) يقول: فإنما يصيبكم ذلك عقوبة من الله لكم بما اجترمتم من الآثام فيما بينكم وبين ربكم ويعفو لكم ربكم عن كثير من إجرامكم, فلا يعاقبكم بها.”
و قال تعالى:
{ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} الروم 41.
إن حب الدنيا و الرغبة في الثراء السريع و نبذ الدين وراء الظهر، هو الذي أسرع بهم إلى هذا الربا الفاحش و القمار الصريح، و الذي عاقبته ستكون على خلاف ما أرادوه، فعاقبتة الربا إلى محق و قلة، و ذهاب أصله و فرعه، مع الحسرة عليه في الدنيا، و العذاب الشديد في الأخرة، لذلك فإنني لا أشك أن النظام الربوي الرأسمالي سوف ينهار على رؤوس أصحابه يوماً ما، و الله قدير… و انظر لمزيد فائدة كيف يعمل الاقتصاد الربوي الرأسمالي…!
و في العلاقة بين أكل الربا و فساد الأخلاق، يقول الأمام الخطابي رحمه الله المتوفى في سنة 388هـ، في كتابه شأن الدعاء ، ص 233:“…فَإن أكْلَ الحَلَالِ يَصلُحُ عَلَيْهِ القَلْبُ وَتَحْسُنُ مَعَهُ الأخْلَاقُ، وَأكْلُ الحَرَام يَفْسُدُ عَلَيْهِ القَلْبُ وَتَخْبُثُ مَعَهُ الأخْلَاقُ.”
و هذا أمرٌ مشاهد لا يختلف عليه اثنان، فابحث عن الأخلاق في هذه المجتمعات، فلن تجد إلا نذراً يسيراً مما لا يصلح اجتماع البشر بدونه، من نوع: الالتزام بالمواعيد، و عدم تخطي الطوابير، أما الزنا و الواط و العري و الربا و القمار و الدعارة، فهذه لا تمت للإخلاق عندهم بصلة!! ولا يعتبر مقارفها سيء الخُلق!! إنما هي حريات شخصية…
إنني على يقين أن حال العالم لن ينصلح إلا بدين الإسلام الصحيح، و قد خسر العالم و انتشر الفساد بسبب انحطاط المسلمين عن تبليغ رسالات الله بكل سبيل، و الله من وراء القصد،،،
و صل اللهم على محمد و على آله و صحبه و سلم.
هاني حلمي