مسألة فيما إذا كان في العبد محبة لما هو خير وحق ومحمود في نفسه…!

هذه ورقاتٌ لطيفةٌ لشيخ الإسلام تقي الدين بن تيمية، رحمه الله تعالى، فيها مسألةٌ دقيقةٌ، وقد وجدتها أثناء المُطالعة في كتاب ليس من مظان مصادر علوم شيخ الإسلام، فأحببت أن أفردها بالنشر، عسى الله أن يهدي لها مسترشداً.

لما بلغ شيخ العربية محمود محمد شاكر رحمه الله تعالى السبعين من العُمر، قام جماعة من محبيه من الأدباء و المحققين بإهداءه كتاباً، فيه بحوثٌ و نصوصٌ محققة و كلماتُ ثناء في حق الشيخ رحمه الله، وهذا غلافه:

دراسات عربية و إسلامية.jpg

و كان من ضمن هذا المجموع ورقات لطيفة لشيخ الإسلام بن تيمية رحمه الله تعالى، بعنوان “مسألة فيما إذا كان في العبد محبة لما هو خير وحق ومحمود في نفسه” ،و هي من إهداء و تحقيق الشيخ المُحقق الدكتور محمد رشاد سالم رحمه الله تعالى، الذي يظهر من وصفه للمخطوط أنها ليست ضمن ما طُبع من فتاوى و مسائل شيخ الإسلام حتى زمن إخراج هذا الكتاب، و مرفق في ذيل المقال نسخة مصورة ضوئياً من رسالة شيخ الإسلام مستلة من هذا الكتاب، و هي في ثمان ورقات من دون مقدمة التحقيق.


و هذه الورقات فيها إجابة عن إشكال استشكله شيخ الإسلام أو سأله عنه غيره، و هو كما لخصه هو في صدر الرسالة:

“مسألة فيما إذا كان في العبد محبة لما هو خير وحق ومحمود في نفسه، فهو يفعله لما فيه من المحبة له، لا لله، ولا لغيره من الشركاء، مثل أن يحب الإحسان إلى ذوي الحاجات، ويحب العفو عن أهل الجنايات، ويحب العلم والمعرفة وإدراك الحقائق، ويحب الصدق والوفاء بالعهد وأداء الأمانة وصلة الرحم…”

و مما أجاب به شيخ الإسلام عن تلك المسألة:

” … فهذا الحس وهذه الحركة الإرادية يتنعَّم به الحي وينتفع به ويلتذ في الحال، ولا يُقال: إن فعل ذلك لغير غرض ولا لجلب منفعة أو دفع مضرة، بل فيه جلب منفعة ودفع مضرة في نفسه، كما في نفس الآكل والشارب يستجلب به منفعة الشبع، ويستدفع به مضرة الجوع، فهكذا سائر هذه الأمور يدفع بها عن نفسه مضرات، ويستجلب لها بها لذات…”

و تناول في سياق المسألة الرد على المعتزلة و المتكلمين نفاة التعليل و الحكمة، الذين يقصرون التحسين و التقبيح على ما دل عليه العقل وحده، و ليس للشرع حكمة فيه و لا تعليل لتحسين الفعل أو تقبيحه لذاته – بزعمهم-، و فد قرر رحمه الله في معرض كلامه:

” أن الحُسن والقبح: الذي يُدرك بالحس وبالعقل وبالشرع، وبالبصر والنظر والخبر، بالمشهور الظاهر وبالباطن، وبالمعقول القياسي وبالأمر الشرعي، هو في الأصل من جنس واحد، فإن كلاًّ يُعْلَم بذلك، يثبت به ما لا يُعلم بالآخر ويثبت به.”

و قال في إجابة المسألة:

والمقصود هنا أن محبة هذه الأمور الحسنة ليس مذمومًا بل محمودًا، ومن فعل هذه الأمور لأجل هذه المحبة لم يكن مذمومًا ولا معاقبًا، ولا يُقال إن هذا عمله لغير الله، فيكون بمنزلة المرائي والمشرك، فذاك هو الشرك المذموم.

وأما من فعلها لمجرد المحبة الفطرية فليس بمشرك ولا هو أيضًا متقربًا بها إلى الله، حتى يستحق عليها ثواب من عمل لله وعبده، بل قد يثيبه عليها بأنواع من الثواب: إما بزيادة فيها في أمثالها، فيتنعَّم بذلك في الدنيا، ولهذا كان الكافر يُجزى على حسناته في الدنيا وإن لم يتقرب بها إلى الله، ولو كان فِعْلُ كل حَسَن إذا لم يُفعل لله مذمومًا يستحق به صاحبه العقاب لما أُطعم الكافر بحسناته في الدنيا إذا كانت تكون سيئاتٍ لا حسنات، وإذا كان قد يتنعَّم بها في الدنيا ويُطعم بها في الدنيا، فقد يكون من فوائد هذه الحسنات ونتيجتها وثوابها في الدنيا أن يهديه الله إلى أن يتقرب بها إليه، فيكون له عليها أعظم الثواب في الآخرة.

وهذا معنى قول بعض السلف: طلبنا العلم لغير الله فأبى أن يكون إلا لله. وقول الآخر لما قيل له: إنهم يطلبون الحديث بغير نية، فقال: طلبهم له نيَّة، يعني نفس طلبه حسن ينفعهم. وهذا قيل في العلم لخصوصيته، لأن العلم هو الدليل المرشد، فإذا طلبه بالمحبة وحصَّله عرَّفه الإخلاص لله والعمل له.”

ثم ختم هذه الورقات بخلاصه نفيسة، فقال رحمه الله:

” … وهذا الحب والإحساس الذي خلقه الله في النفوس هو الأصل في كل حُسن وقُبح، وكل حمدٍ وذمٍّ، فإنه لولا الإحساس الذي يُعتد به في حب حبيب وبغض بغيض لما وجدت حركة إرادية أصلاً تحرك شيئًا من الحيوان باختياره، ولما كان أمر ونهي وثواب وعقاب، فإن الثواب إنما هو بما تحبه النفوس وتتنعم به، والعقاب إنما هو بما تكره النفوس وتتعذب به، وذلك إنما يكون بَعْد الإحساس، فالإحساس والحب والبغض هو أصل ما يوجد في الدنيا والآخرة من أمور الحي، وبه حَسُنَ الأمر والنهي والوعد والوعيد. وذاك الأمر والنهي والوعد والوعيد هو تكميل للفطرة، وكل منهما عون على الآخر، فالشريعة تكميل للفطرة الطبيعية، والفطرة الطبيعية مبدأ وعون على الإيمان بالشرع والعمل به، والعبد من دان بالدين الذي يصلحه فيكون من أهل العمل الصالح في الآخرة، والشقيّ من لم يتبع الدين ويعمل العمل الذي جاءت به الشريعة، فهذا هذا، والله أعلم.”


و هذه نسخة مصورة ضوئياً من رسالة شيخ الإسلام “مسألة فيما إذا كان في العبد محبة لما هو خير وحق ومحمود في نفسه”:


و الشيءُ بالشيء يُذكر، فقد وقفت على بحث في مسألة إهداء الكتب، و هو بحث عزيز، لا أعلم أحداً بحثه من قبل، و لعل ذلك لقصور علمي، فناسب نقله هنا للفائدة، و هو مستل من كتاب “صيانة الكتاب” للشيخ ذياب الغامدي، حفظه الله، بعنوان ” الاعتداء في الإهداء”:

 

و صل اللهم و سلم على محمد و على آله و صحبه و التابعين.

هاني حلمي

 

 

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s