بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله،
دأبت قناة “العربية” وموقعها على الشابّكة إخراج المفسدين في الأرض في صورة الأبطال المجاهدين، وقد مر عليّ من ذلك أثناء مطالعة الأخبار أشباه وأمثال لا يحضرني ذكرها، وكنتُ لا أُلقي لها بالاً، وكأنها ريح بعير في فلاة، علماً أن رواد مواقع الأخبار لا يكترثون لمثل هذا، وقد قستهم على نفسي، إذ لا غرض لي إلا رؤوس العناوين لمعرفة ما يجري حولي والسلام، وما هذا الموقع وقناته الإخبارية بأهل لأن يعرضوا شيئاً جاداً من العلم ليُنظر فيه أو يُتوقف عنده.
ولو نظرت لقوائم أكثر الأخبار قراءة في كل يوم على موقعهم، لوجدتها الأخبار ذات الطابع الجنسي أو أخبار الفُساق من المغنيين و المخنثين وهلم جر، فهؤلاء هم الجمهور، فمن يكترث هنا لشيء جاد…
ثم اليوم قد لفت انتباهي خبر بعنوان “توقع ظهور الإخوان وولاية الفقيه قبل قرن.. من هو؟” وبمطالعة الخبر وجدتهم يمجدون ذكر أحد المفسدين، ويلبسونه زوراً زي الناظر البصير، السابق لزمانه، ألا وهو الهالك “علي عبد الرازق”، صاحب كتاب “الإسلام وأصول الحكم” الصادر في مصر في ثلاثينيات القرن المُنصرم، إبان سقوط الخلافة العثمانية،…الكتاب هو المحاولات العلمانية الأولى لفصل الدين عن السياسة، وخطورته أنه قد خرج من رحم عالم أزهري وقاض شرعي!
قال علي عبد الرازق في أخر كتابه ص 103 ما نصه:
“والحق أن الدين الإسلامي بريء من تلك الخلافة التي يتعارفها المسلمون وبريء من كل ما هيَّأوا حولها من رغبة ورهبة، ومن عزة وقوة، والخلافة ليست في شيء من الخطط الدينية، كلا ولا القضاء ولا غيرهما من وظائف الحكم ومراكز الدولة ، وإنما تلك كلها خطط سياسية صرفة، لا شأن للدين بها، فهو لم يعرفها ولم ينكرها ولا أمر بها، ولا نهى عنها ، وإنما تركها لنا لنرجع فيها إلى أحكام العقل وتجارب الأمم وقواعد السياسة”
قال الشيخ محمد رشيد رضا، وهو من المعاصرين للكاتب و الكتاب، نقلاً عن مجلة المنار المجلد 26 الجزء 100 :
“ما زال أعداء الإسلام الطامعون في ثل عرشه والقضاء على ملكه وإبطال تشريعه، واستعباد الشعوب التي تدين الله به، يجاهدونه بالسيف والنار، وبالكيد والدهاء، وبالآراء والأفكار، وبإفساد العقائد والأخلاق وبالطعن في جميع مقومات هذه الأمة ومشخصاتها، وتقطيع جميع الروابط التي ترتبط بها شعوبها وأفرادها، ليسهل جعلها طعمة للطامعين، وفريسة لوحوش المستعمرين، وقد كانت هذه الحرب السياسية العلمية للإسلام والمسلمين أضر وأنكى من الحروب الصليبية باسم الدين، فالحرب الصليبية كانت تجمع كلمة المسلمين للدفاع عن حقيقتهم والمدافعة عن سلطتهم ، وهذه الحرب المعنوية فرقت كلمتهم وشقت عصاهم، ومزقت شمل شعوبهم ، وأذاقت بعضهم بأس بعض ، فصاروا عونًا لأعدائهم على أنفسهم، يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي خصومهم {فَاعْتَبِرُوا يَا أُوْلِي الأَبْصَارِ} ( الحشر : 2 ) .
قد كان آخر فوز لهذه الحرب على المسلمين محو اسم السلطنة العثمانية الإسلامية من لوح الوجود، وإلغاء الترك لمنصب الخلافة من دولتهم الصغيرة،التي أمكنهم استبقاؤها من تلك السلطنة العظيمة، وتأليفهم حكومة جمهورية غير مقيدة بالشرع الإسلامي في أصول أحكامه ولا فروعها , وتصريحهم بالفصل التام بين الدولة والدين ؛ فذعر العالم الإسلامي وزلزل بعملهم هذا زلزالاً شديدًا ، وطرب له الإفرنج ومروجو سياستهم من نصارى الشرق وملاحدة المتفرنجين المارقين من الإسلام ، ورفع هؤلاء عقائرهم في مصر ، هاتفين لعمل الترك ، وكذلك فعل أمثالهم في سائر البلاد ، إلا أن هؤلاء نشطوا لجعل الحكومة المصرية حكومة لا دينية كحكومة أنقرة فهزئ العالم الإسلامي بدعوتهم وسخر منهم , وراجت في مقابلتها الدعوة إلى عقد مؤتمر إسلامي عام ؛ لإحياء منصب الخلافة بقدر ما تستطيعه قوى الإسلام في هذا الزمان .
بينا نحن معشر المسلمين على هذا إذا نحن بنبأة جديدة في شكلها ، تؤيد تلك النزعة الإفرنجية النصرانية في موضوعها ، وتلك الفعلة الإلحادية في مشروعها …
وأما الناعق بهذه البدعة اليوم فمن العلماء المتخرجين في الأزهر ومن قضاة المحاكم الشرعية {إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} ( ص : 5 ) , ومن بيت كريم في هذه البلاد عُرف أهله بالآداب العالية والأخلاق وبالدين أيضًا، خلاصة هذه البدعة : أنه ليس للإسلام خلافة ولا إمامة ولا حكومة ولا تشريع سياسي ولا قضائي , وأنه دين روحاني محض كدين النصارى بالمعنى الذي فهمته شيعة البروتستانت منهم دون من قبلهم , وأن ما ادعاه المسلمون من عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه إلى يومنا هذا من أمر الإمامة والخلافة باطل من القول وضلال من العمل ، وفساد في الأرض ، لما جعلوه للخليفة من السلطان الديني الإلهي ، وإنما أضل جماعة المسلمين في ذلك الملوك ؛ لتوطيد سلطانهم فيهم ، وأن أبا بكر كان ملكًا للعرب أراد أن يحقق وحدتهم . ويجعل السلطان لقريش وحدهم فيهم ، وليس له ولا لمؤيديه حجة من الدين ، ولم يكن جميع الخارجين عليه والمانعين أداء الزكاة له مرتدين عن الإسلام ، وأن قتالهم لم يكن دينيًّا بل سياسيًّا للدفاع عن دولة العرب ووحدتهم ، والدين نفسه لم يوجب أن تكون للعرب ولا لغيرهم من المسلمين دولة ولا وحدة , بل لكل فريق من المسلمين عربهم وعجمهم أن يقيموا لأنفسهم حكومة يرضونها ، ودين الإسلام لم يقيدهم في ذلك بقيد ما , بل هو بريء من كل ما عزوه إليه من ذلك .
هذه خلاصة البدعة الجديدة التي قام ببثها اليوم في العالم الإسلامي الشيخ علي عبد الرازق ( من علماء الجامع الأزهر وقضاة المحاكم الشرعية ) المصرية بكتاب ألفه فيها جاوزت صفحاته المائة، وهو يوزعه في الأقطار الإسلامية – على ما بلغنا – بغير ثمن ، وما كان لدعاة الأديان والمذاهب والأحزاب السياسية والاجتماعية أن يستغلوا دعايتهم ويتجروا بالمال فيها فحسب الديني منهم ثواب الله في الآخرة ، والدنيوي عظمة الدنيا وجاهها والانتظام في سلك مؤسسي الانقلابات الكبرى فيها .” انتهي كلام محمد رشيد رضا رحمه الله.
هذا هو الكتاب وهذا كان وقته ووصفه: خنجر مسموم في خاصرة الأمة الإسلامية الجريحة المكلومة بسقوط الخلافة الإسلامية و إعلان العلمانية بدلاً عنها شرعةً و منهاجاً.
و قد وصف موقع “العربية” الكتاب بزعمهم أنه “كان بمثابة القنبلة، فقد فجر فيه تابوهات مقدسة روجها المتشددون والمتزمتون دينيا، وفند أكاذيب المؤيدين لفكرة الخلافة والداعمين لها، والمؤيدين للوصول إلى السلطة عن طريق الدين”
ثم نعتوا الكتاب بأنه “من أهم الكتب التي صدرت في القرن العشرين” ، و أنه “يحمل أفكارا كانت بمثابة من ألقى بحجر في بحيرة الجهل الراكدة، فقد تناول قضية الخلافة بمنظور جديد زعزع مزاعم من رسخوها في عقول الناس للسيطرة عليهم، ومؤكدا أن القرآن والسنة لم يتطرقا لفكرة الخلافة، وإنما كانت وسيلة الراغبين في الوصول إلى السلطة تحت عباءة الدين، والطامحين في الولاية تحت مقام ديني”.
“بحيرة الجهل الراكدة”!! لا أدري ما أقول! إلا أن الجاهل لا يعلم قدر نفسه حتى يعلم قدر غيره! فإن “بحيرة الجهل الراكدة” التي كان يسبح فيها ثُلةٌ من خيرة علماء ذلك الزمان منهم الشيخ مجمد الخضر حسين، و الشيخ محمد رشيد رضا، و المطيعي وغيرهم ممن ردوا على الكتاب لم يعجبوا “العربية”…!
وعلى كل حال {تلك أمةٌ قد خلت}، وإن كانت هذه الأحداث و ما تلاها كانت تمهيداً لتنحية الحكم بما أنزل الله من بلاد المسلمين، وتنحية المحاكم الشرعية، وتمزيق الأمة بين تيارات الكفر والإلخاد، من إشتراكية إلى شيوعية، ثم إلى ديموقراطية…
لعل هكذا ترى “العربية”: إننا لننعمُ في “بحيرة العلم الصافية” من بعد سقوط الخلافة حتى يوم الناس هذا… لقد نُحيت الخلافة و خرجنا من “بحيرة الجهل الراكدة” لنسبح في فضاء الحرية والتقدم المدني، وصرنا أمة قوية فتية غير تابعة ولا ذليلة، نصنع سلاحنا فنزود عن أرضنا وأهلنا، ونزرع طعامنا فلا نستورده، ونضع مناهج تعليمنا “العربية” الإسلامية، ولا نقلد في زيّنا ولا ثقافتنا أحداً، ننعم بالرخاء و الديموقراطية و سلاسة انتقال السلطة، لا ثورات عندنا ولا خراب ولا دمار، اقتصادنا قوي وشعوبنا غنية، كيف كانت لتكون حياة المسلمين لو لم نخرج من “بحيرة الجهل الراكدة” تلك… و الجنون فنون يا “عربية”.
هاني حلمي