قاعدة السُنة والجماعة…!

بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله،

هذه قاعدة لطيفة من قواعد ومسائل شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام ابن تيمية، رحمه الله تعالى، منشورة في كتاب “جامع المسائل – المجموعة الثامنة”،تحقيق محمد عزير شمس، نشرة: دار عالم الفوائد – مكة، الطبعة: الأولى، 1432 هـ، صفحة 143.

وفي هذه القاعدة يقرر شيخ الإسلام رحمه الله الحاجة إلى الدين وإلى منهج السُنة والجماعة من طريق عقلي، وأن الحاجة إليهم ضرورية بالإضطرار، ثم عدد وجوه كمال السُنة والجماعة وما امتازت به عن سائر المناهج والرئاسات، فهي من عند الله، كاملة العلم، كاملة الرحمة، كاملة الغنى، كاملة القدرة والسلطان.

ثم ختم القاعدة بقوله “فهذا بعض ما يُبَيِّنُ أن العاقل عليه أن يجعل كل رئاسة وإمامة، سواء كانت علمية كالفقه والكلام وغيرهما، أو دينية كالفقر والتصوف والتعبد وغيرها، أو حربية كالملك والإمرة، أو مالية كالوزارة والخراج، إلى غير ذلك، يجعلها جميعَها تابعةً للكتاب والسنة، ولا يتقدم بين يدي الله ورسوله في شيء من المراتب، فذلك خيرٌ وأحسن تأويلًا.”

جعلني الله وإياكم في زمرة أهل السُنة والجماعة الطائفة المنصورة المهدية، وهذا نص القاعدة مع بعض التعليقات عليها:

” فصل في بعض الشرح والتقرير لقاعدة السنة والجماعة وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء:59]، فإن هذه الآية تتضمن الأمر بالسنة والجماعة، فإن قوله: {وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} هو الجماعة، وقوله: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} هو السنة.

قد قرَّرتُ في غير هذا الموضع أن الدين أمر ضروري لبني آدم، لا يمكن أن يعيشوا في الدنيا إلا بدينٍ يتضمن أمرًا ونهيًا؛ لأن الإنسان لا بدَّ أن يَجتلِبَ إلى نفسه المنفعةَ ويدفعَ عنها المضرَّة، وهذا هو الأمر والنهي، وهو الدين العقلي الذي لا ينكره أحدٌ.

ثم إن كثيرًا من جلب منافعه ودفع مضارِّه لا يتمُّ به وحدَه، بل لا بدَّ من التعاون على ذلك من بني آدم، فإن أصل جلب المنفعة له: الطعام، وأصل دفع المضرة عنه: اللباس المتصل، وهو الثياب والجُنَّة، والمنفصل وهو السكن.

ولهذا امتنَّ الله في سورة النحل بنعمِه المتضمنة للمطاعم والملابس من النوعين، فقال تعالى: {وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا، لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (5) وَلَكُمْ فِيهَا} إلى قوله: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ} [النحل:5 – 10].

فذكر في أول السورة أصول النعم، كما قال: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا، إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [النحل:18]، وذكر في أثنائها من اللبن والعسل والأكنان والظلال والخيام ووقاية البأس والحرّ ما هو كمال النعم وتمامها، ولذلك قال: {كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ} [النحل:81]. ولهذا -والله أعلم- ذكر في أول السورة ما يُدفِئ فيدفع البرد، وذكر في أثنائها ما يدفع الحرَّ والبأسَ، فإن البرد يَقتُل والحرّ يؤذي، وقد يُمكِن الإنسانَ أن يعيش في البلاد الحارَّة بلا لباسٍ عيشًا ناقصًا، كما قد يَسلَم في الحرب بلا سرابيل، وأما البلاد الباردة فلا يعيش فيها الإنسان إلّا بما يُدفِئُه. وكذلك سكن البيوت وبيوت الأنعام كل ذلك من تمام النعمة.

وإذا كان ابن آدم مضطرًّا إلى الطعام واللباس، والواحدُ لا يقدر أن يصطنع جميع حاجته من الطعام واللباس، كان حاجته إلى مثله ضرورية، فيكون اجتماعُهم ضروريًّا، وإذا اجتمعوا فلا بدَّ من واحدٍ يكون هو مبدأ حركتهم فيما يأتونه ويَذَرونه من جلب المنافع ودفع المضار، فكانت الإمارة فيهم ضرورية. ولهذا أوجب النبي صلى الله عليه وسلم في السفر أن يؤمِّروا أحدهم، وهو أقلُّ جماعةٍ في أدنى اجتماع، فصارت الجماعة في حقهم رحمةً والفرقةُ عذابًا.

وإذا كانت الجماعة والإمارة فيهم ضرورية لجلب المنفعة ودفع المضرة، والمنفعةُ لا تُجتلَب إلا بأموالٍ، والمضرة لا تندفع إلا بقوة، ومن المضرة ما يُعادي بني آدم من السباع وغيرها، وفي طباع بعضهم من البَغْي والعدوان ما يُوجِب أنه إن لم يُدفَعْ وإلَّا ضرَّ الباقين= كانوا مضطرين إلى رعاية الأموال ودفع الأعداء، وكانوا أيضًا في بقاء جنسهم مضطرين إلى النكاح، وإذا مات الميتُ منهم وكلُّهم محتاجٌ إلى ماله فلا بدَّ من سببٍ يُوجب تخصيصَ أحدهم.

ولا بدَّ لهم أيضًا من دينٍ وإلهٍ تعبُده قلوبُهم، يجتلبون منه المنفعة ويستدفعون به المضرَّة، فإن هذا من الضروريات اللازمة لهم، فإن أحدهم يحتاج إلى ما هو خارجٌ عن قدرته، فلا بدَّ له من إلهٍ يَطلُب ذلك منه. فهذه الأمور وأمثالُها لو وُكِلَ فيها كلُّ واحدٍ إلى رأيه.(1)

وكذلك هم متحركون بأرواحهم حركةً دائمة، فلا بدَّ لهم من إلهٍ صمدٍ هو إلههم الذي هو معبودهم ومنتهى حركاتهم وإراداتهم.

فثبت بذلك أنهم محتاجون إلى الاجتماع، وبعضهم محتاج إلى بعضٍ لجلب المنفعة ودفع المضرة، ومحتاجون إلى ما يطلبون منه الحوائج الخارجة عن قدرتهم، وهو ربهم، وإلى إلهٍ هو الغاية والنهاية التي لها يعبدون، ولها يصلون ويسجدون، وإليها يصمدون ويقصدون، وهو إلههم.

وذلك كله لا يقوم إلا برأسٍ يُعلِّمهم ويأمرهم، ويُقيمهم على سنة وقانون في أنواع الحاجات ومقاديرها، وأنواع المنافع ومقاديرها، فإن ذلك إن لم يُضبَط لهم وإلّا انتشر الأمرُ وفسدَتْ أحوالُهم. وهذا الأمر لما كان ضرورةً في جميع بني آدم أُلهِمُوه كما أُلهِمُوا الأكلَ والشربَ والنكاحَ.

فلا بدَّ لكل طائفةٍ من سيِّدٍ مُطاعٍ ورئيسٍ وإمامٍ، وإن تنوعت أسماؤه ومراتبُه، إمّا مَلِك وإما أمير وإما شيخ وإما مُفتٍ وإما قاضٍ وإما مقدَّم وإما رئيس قرية، إلى غير ذلك من الأسماء. وكل طائفة فلا بدَّ لها من أن توالي أولياءها وتعادي أعداءها.

فمعلومٌ بالعلم اليقين أن السيد المطاع الذي بعثه الله وأنزل إليه من الهداية والعلم والكلام ما يَصلُح به الناسُ أحقُّ بأن يُتَّبع ويُطاع ويُوالَى وليُّه ويُعادى عدوُّه، وهم رُسُل الله المبعوثون إلينا لوجوه:

أحدها: أن هدايتهم وإرشادهم وأمرهم ونهيهم هو هداية الله وإرشاده وأمره ونهيه، والله أعلم العالمين وأرحم الراحمين وأحكم الحاكمين. فالإسلام له وإسلامُ الوجهِ إليه أولى من الإسلام لغيرِه وإسلامِ الوجه إليه.

الثاني: أن هذه الهداية والرئاسة كاملة العلم، ليس فيها نقص علمي، كما يدخل النقص في سائر الرئاسات التي ….. الناس بآرائهم (2).

الثالث: أنها كاملة الرحمة، لا تدعُ منفعةً إلّا جَلَبتْها بحسب الإمكان، ولا مضرةً إلّا دفعتْها بحسب الإمكان، بخلاف الرئاسات التي لا تكمل فيها رحمة الخلق ومحبة الخير، بل يكون فيها كِبْرٌ وقسوةٌ. ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ستكون نبوة ورحمة، ثم تكون خلافة نبوة ورحمة، ثم يكون مُلْكٌ ورحمة، ثم مُلْكٌ وجبرِية، ثم مُلْكٌ عَضوض» (3).

الرابع: أنها كاملة الغنى، {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا} [الأنعام:90]، فليس فيها هوى نفسٍ، بخلاف الرئاسة التي فيها هوًى، إما هَوى السلطان وإما هَوى المال.

الخامس: أنها كاملة القدرة والسلطان، فإن ناصرها ومؤيدها هو الله، كما قال تعالى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} [غافر:51]، {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي} [المجادلة:21].

فهذا بعض ما يُبَيِّنُ أن العاقل عليه أن يجعل كل رئاسة وإمامة، سواء كانت علمية كالفقه والكلام وغيرهما، أو دينية كالفقر والتصوف والتعبد وغيرها، أو حربية كالملك والإمرة، أو مالية كالوزارة والخراج، إلى غير ذلك، يجعلها جميعَها تابعةً للكتاب والسنة، ولا يتقدم بين يدي الله ورسوله في شيء من المراتب، فذلك خيرٌ وأحسن تأويلًا.

ولهذا أمر ولاة الأمر -وهم أرباب المراتب والرئاسات كائنةً ما كانت- بالردِّ إلى ذلك، وبيَّن أن ذلك خير وأحسن عاقبةً في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا}.

وهذا الذي ذكرناه تقريرٌ لبعض مضمون هذه الآية.”

انتهى


تعليقات هاني:

(1) قال محقق نشرة عالم الفوائد حفظه الله “ولعل المؤلف كتب العبارة وأراد أن يشطب عليه فلم يفعل”. قلتُ (هاني): والظاهر أن الجملة كاملة على سَنن العربية، لا سقط فيها ولا نقص.

فإن جواب “لو” محذوف، وتقديره: “… لصارت الأمور فوضى ولما استقام للناس حياة ولا اجتماع” ، وحذف جواب “لو” هو من سَنَن العرب في كلامها، أن كل ما عُلِم يُكتفي بترك جوابه، بشرط وجود القرينة التي تدل على الجواب المحذوف، ولغة العرب مبنية على الإيجاز، وهذا من أسرار براعتها في تأدية المعاني الكثيرة عن طريق الألفاظ و التراكيب القليلة، قال ابن الأثير رحمه الله في المثل السائر: “حذف (لو) و (جوابها) من ألطف ضروب الإيجاز وأحسنها”. وقال أيضاً: “وأما حذف جواب (لو)، فإنه كثير شائع”، وقال المرزوقي: “حذف الجواب أبلغ وأدل على المراد؛ بدليل أن السيد إذا قال لعبده: لئن قمتُ إليك، ثم سكتَ، تزاحم على العبد من الظنون المعترضة للتوعد ما لا يتزاحم لو نص على ضَرْب من العذاب”.

وهو في كتاب الله، ومنه قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَىٰ ۗ بَل لِّلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا} [جزء من أية الرعد : 31] وجواب “لو”: لكان هذا القرآن. فحذف جواب “لو” اختصاراً للعلم به، ومنه قوله تعالى: {لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَن وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلَا عَن ظُهُورِهِمْ وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ} [الأنبياء : 39] ، وجواب “لو”: …لما أقاموا على ما هم عليه مقيمون من الكفر بالله، ولسارعوا إلى التوبة منه والإيمان بالله، ولما استعجلوا لأنفسهم البلاء.

(2) النقاط :”…..” بياض في أصل الكتاب وتقديرها “يدخلون” أو “يخوضون فيها” وهو واضح.

(3) الحديث عند أحمد في المسند بإسناد حسن وله شواهد، برقم (18406) الجزء رقم :30، الصفحة رقم:355: مختصراً من عندي، عن حُذَيْفَةُ :قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :

” تَكُونُ النُّبُوَّةُ فِيكُمْ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَكُونَ، ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا، ثُمَّ تَكُونُ خِلَافَةٌ عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ، فَتَكُونُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَكُونَ، ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا، ثُمَّ تَكُونُ مُلْكًا عَاضًّا، فَيَكُونُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَكُونَ، ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا، ثُمَّ تَكُونُ مُلْكًا جَبْرِيَّةً، فَتَكُونُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَكُونَ، ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا، ثُمَّ تَكُونُ خِلَافَةً عَلَى مِنْهَاجِ نُبُوَّةٍ “.

وصل اللهم وسلم على محمد وأله وصحبه والتابعين،،،

هاني

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s