شرح حديث “أنا أَحَقُّ بالشَّكِ مِنْ أبي إِبْراهيمَ”…!

عند مسلم في الصحيح عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ” نَحْنُ أَحَقُّ بِالشَّكِّ مِنْ إِبْرَاهِيمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِذْ قَالَ : { رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي }. قَالَ : وَيَرْحَمُ اللَّهُ لُوطًا، لَقَدْ كَانَ يَأْوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ ، وَلَوْ لَبِثْتُ فِي السِّجْنِ طُولَ لَبْثِ يُوسُفَ لَأَجَبْتُ الدَّاعِيَ “.

وقد سُئل خطيب أهل السُنة ابن قتيبة الدِّينَوري [تُوفي ٢٧٦ هـ] رحمه الله عن شرح الحديث؛ فأجاب كما في كتابه [المسائل والأجوبة]:

“سَأَلْتَ عن حَديثِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبي سَلَمَةَ، عن أبي هُرَيْرَةَ عن النَّبيِّ – عَلَيْهِ السَّلامُ -: “أنا أَحَقُّ بالشَّكِ مِنْ أبي إِبْراهيمَ، وَرَحِمَ اللهُ لُوطًا لقد كان يَأْوِي إلى رُكْنٍ شَديدٍ، ولو دُعِيْتُ إلى ما دُعِيَ إِلَيْهِ يُوسُفُ لأَجَبْتُ” ؟

أَمَّا قَوْلُهُ: أَنا أَحَقُّ بالشَّكِّ من أبي إِبْراهيمَ، فإِنَّهُ لهذا نَزَل عَلَيْهِ: {وإذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} قَالَ قَوْمٌ سَمِعوا الآيَةَ: شَكَّ إِبْراهيمُ، ولم يَشُكَّ نَبِيُّنا – صلى الله عليه وسلم -، فقَالَ رَسولُ اللهِ عَلَيْهِ السَّلامُ: “أَنا أَحَقُّ بالشَّكِّ مِنْ إِبْراهيمَتَواضُعًا مِنْهُ، وَتَقْديمًا لإِبْراهيمَ على نَفْسِهِ؛ يُريدُ أنّا لم نَشُكَّ، وَنَحْنُ دُونَهُ، فكَيْفَ يَشُكُّ هُوَ؟

وَمِثْلُ هذا مِنْ تَواضُعِهِ – صلى الله عليه وسلم .

قَوْلُهُ: “لا تُفَضِّلُوني على يُونُسَ” فاخْتَصَّ يُونُسَ؛ لأَنَّهُ لَيْسَ كَغَيْرِهِ مِنْ أَهْلِ العَزْمِ مِن الرُّسْلِ؛ يُريدُ فإذا كُنْتُ لا أُحبُّ أَنْ أُفَضَّلَ على يُونُسَ – صلى الله عليه وسلم -، فَغَيْرُهُ مِن الأَنْبِياءِ الذينَ هم فَوْقَهُ في الدَّرَجَةِ كإِبْراهيمَ وإسْماعيلَ وإسحاقَ ومُوسى وعِيسى أَحْرَى بل لا أُحِبُّ أَنْ أُفَضَّلَ عَلَيْهِمْ، ولَيْسَ هذا ناقِضًا لقَوْلِهِ: “أنا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ ولا فَخْرُ” أنا سَيِّدُهم يَوْمَ القِيامَةِ بِفَضْلِ اللهِ عَلَيَّ، وإِنْعَامِهِ لْا بِعَمَلِيْ.

وكذلك أُمَّتُهُ أَسْهَلُ الأُمَمِ مِحْنَةً بَعَثَهُ اللهُ إِلَيْها بالحِنيفِيّةِ السَمْحَة، وَوَضَعَ عَنْهُ الإِصْرَ، والأَغْلالَ التي كانَتْ عَلَى بَني إسْرائيلَ في فَرائِضِهِمْ، وهيَ مع هذا خَيْرُ أُمّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنّاسِ بِفَضْلِ اللهِ.

وتَأْوِيلُ قَوْلِ إبْراهيمَ – صلى الله عليه وسلم -: {وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} أَنْ يَطْمَئِنَّ بِيَقينِ النَّظَرِ.

واليَقينُ جِنْسانِ: أَحَدُهُما يَقينُ السَّمْع، والآخَرُ يَقينُ البَصَرِ. ويَقينُ البَصَرِ أَعْلاهُما؛ ولذلك قَالَ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم -: “لَيْسَ المُخْبِرُ كالمُعايِنِ”.

حيْنَ ذَكَرَ قَوْمَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: فَلَمّا أَعْلَمَهُ اللهُ أَنَّ قَوْمَهُ عَبَدُوا العِجْلَ، فَلَمْ يُلْقِ الأَلْواحَ، فَلَمَّا عَايَنَهُمْ عَاكِفِينَ غَضِبَ، وأَلْقَى الأَلْواحَ حَتَّى انْكَسَرَتْ. وكذلك المُؤْمِنُونَ بِالقِيامَة، والبَعْث، وَالْجَنَّة، والنَّارِ مُسْتَيْقِنُونَ أَنَّ ذلك كُلَّهُ حَقٌّ، وَهُمْ في القِيامَةِ عِنْدَ النَّظَر، والعِيانِ أَعْلى يَقينًا، فأرادَ إِبْراهيمُ – صلى الله عليه وسلم – أَنْ يَطْمَئِنَّ قَلْبُهُ بالنَّظَرِ الذي هُوَ أَعْلَى اليَقينِ.

وأمَّا قَوْلُهُ: “رَحِمَ اللهُ لُوطًا إِنْ كانَ لَيَأْوِي إلى رُكْنٍ شَديدٍ” فإِنّه أَرادَ قَوْلَهُ لِقَوْمِهِ: {لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَو آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} يُريدُ سَهْوَهُ في هذا الوَقْتِ الذي ضَاقَ فيه صَدْرُهُ، واشْتَدَّ جَزَعُهُ بما دَهِمَهُ مِنْ قَوْمِهِ حَتَّى قال: {أَو آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} وَهُوَ يَأْوِي إلى اللهِ – جَلَّ وَعَزَّ – أَشَدِّ الأَرْكانِ قالوا: فَمَا بَعَثَ اللهُ نَبِيًّا بَعْد لُوْطٍ عَلَيْهِ السَّلامُ إلّا في ثَرْوَةٍ مِنْ قَوْمِهِ.

وأَمَّا قَوْلُه: “لَوْ دُعِيْتُ إِلى ما دُعِيَ إِلَيْهِ يُوسُفُ لأجَبْتُ” يُرِيْدُ حِيْنَ دُعِيَ للإِطْلاقِ مِن الحَبْسِ بَعْدَ الغَم الطَّوِيل، فَقَالَ للرَّسُولِ: {ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ}، ولم يَخْرُجْ مِن الحَبْسِ في وَقْتِهِ يَصِفُهُ بالأَناةِ، والصَّبْر، وَقالَ: لو كُنْتُ مَكانَهُ، وَدُعِيْتُ إلى مَا دُعِيَ إِلَيْهِ مِن الخُروجِ مِن الحَبْسِ لأَجَبْتُ، وَلَمْ أَتَلَبَّثْ. وهذا أَيْضًا جِنْسٌ مِنْ تَواضُعِهِ – صلى الله عليه وسلم – لا أَنَّهُ كَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَوْ كانَ مَكَانَ يُوسُفَ، فَبَادَرَ، وَخَرَجَ، أَو على يُوسُفَ – صلى الله عليه وسلم -، لَوْ خَرَجَ مِن الحَبْسِ مَعَ الرَّسُول، نَقْصٌ، ولا إِثْمٌ، وإِنما أَرَاْدَ أَنَّهُ لم يَكُنْ يَسْتَثْقِلُ مِحْنَةَ اللهِ لَهُ، فَيُبَادِرُ، ويَتَعَجَّلُ، ولكنّهُ كَانَ صَابِرًا مُحْتَسِبًا.” انتهى.

وفي خبر إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، أخرج الطبري في التفسير عن محمد بن اسحاق صاحب المغازي؛ قال فيه”… فقال إبراهيم عند ذلك : { رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي } من غير شك في الله تعالى ذكره ولا في قدرته، ولكنه أحب أن يعلم ذلك وتاق إليه قلبه، فقال : ليطمئن قلبي، أي ما تاق إليه إذا هو علمه”.

والله اعلم،

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s