بسم الله و الحمد لله و الصلاة و السلام على رسول الله، أما بعدُ،
فإن النقود الورقية التي نتداولها في زماننا لم تكن معروفة بصورتها الحالية في أي عصر مضى، إلا أن شريعة الإسلام فيها من نور الوحي من القواعد و الضوابط ما يُمكّن الناظر في النوازل و المستجدات أن يجتهد ليستنبط حكم الشريعة فيها، خلافاً لما عليه سائر أديان الأرض من الشرائع المُحرفة و الأهواء المُحكّمة، فهم يتقلبون في الضلالة بين الظلم و الجهل، فالحمدُ لله على نعمة الإسلام و السُنة و كفى بهما نعمة.
و كما هو مقرر عند أهل الأصول فإن الحكمَ على الشيء فرعٌ عن تصوره، فبدون التصور الصحيح لما عليه النقود اليوم لن يتمكن الناظر المجتهد من اصابة حكم الشرع فيها، و ما يتبع هذا الحُكم من لوازم مثل: جريان الربا في النقود الورقية، و أحكام الزكاة، و الديون، و الصرف، و البيع، و السلم، و غيرهم من الأحكام.
و لقد طالعتُ مبحثاً نفيساً سهل الترتيب في ما يتعلق بهذه المسألة ضمن موسوعة المعاملات المالية – أصالة ومعاصرة، للشيخ/ دبيان محمد الدبيان ، حفظه الله تعالى. و ذلك من ص37 من المجلد الثاني عشر و ما بعدها، وأحببتُ أن أنقل منه هنا نشراً للعلم النافع، و الفضل لله عز و جل ثم للشيخ المصنف حفظه الله، راجياً ثواب الله و فضله… فإنه “قد يكون من فضل المرء في حُسن انتقائه ما يربو على فضله في حُسن إنشائه؛ إذْ كان في الاختيار ما هو أنطقُ بالفضل، وأدلُّ على العقل” كما قال شكيب أرسلان رحمه الله.
و هاكم المادة العلمية:
تعريف بتطور النظام النقدي في العالم:
مر النظام النقدي القائم الآن بمراحل تاريخيه، تطور فيها من حال إلى حال حتى وصل إلى ما نحن عليه الآن، وما زال يتطور حتى يتنبأ بعض رجال الاقتصاد أن نصل في وقت قريب إلى الحال التي لا نحتاج أن نحمل نقودًا حين تتسوق، ونستطيع أن ندون هذه المراحل باختصار شديد:
المرحلة الأولى:
في بداية الحياة البشرية شعر الناس بحاجة إلى تبادل السلع، ولما كان الإنسان بطبعه يضن ببذل ما لديه إلا بعوض نشأت الحاجة إلى ما يسمى بالمقايضة؛ لأن الناس في تلك الحقبة من التاريخ كانت معاملاتهم المالية بسيطة، والسلع كانت محدودة، ومع نمو السكان، وكثرة السلع وجد الناس أن هذه الطريقة فيها من المشقة ما تمنع من استعمالها كطريق عام يصلح في كل زمان ومكان، فانتقلوا إلى المرحلة الثانية.
المرحلة الثانية:
اختار الناس بديلًا للمقايضة ما يسمى نظام النقود السلعية، وذلك أن الناس قد اختاروا بعض السلع لتستعمل استعمال الأثمان في معظم عقود المبادلة، وانتُقيت من أجل ذلك سلع يكثر استعمالها، وتشتد الحاجة إليها في بيئة خاصة، كالحبوب الغذائية، والملح، والجلود، وما إلى ذلك.
ولكن استعمال هذه السلع في التبادل كان فيه من مشاكل الحمل والنقل ما لا يخفى، فلما كثر العمران، وازدادت الحاجة، وكثرت المبادلات شعر الناس بحاجة إلى اختيار نقد يخف حمله، ويتوفر ثقة الناس فيه، وبهذه انتهت المرحلة الثانية في تاريخ النظام النقدي لتبدأ المرحة الثالثة.
المرحلة الثالثة:
في هذه المرحلة توجه الناس إلى استخدام الذهب والفضة كأثمان في المبادلات لقيمتها الذاتية في صنع الحلي، والأواني، ولسهولة حملها، وادخارها، حتى أصبح هذان المعدنان عيارًا للقيمة يعتمد الناس عليها في جميع البلاد والأقطار، وقد مر على هذا النظام تطورات كثيرة، نستطيع أن نلخصها بما يلي:
في بداية استخدام الذهب والفضة كأثمان كان الناس يستعملونهما على شكل قطع متباينة الحجم، والوزن، والنقاء، سواء كانت تبرًا، أو مصوغة في صورة الحلي، أو الأواني وغيرها، وكان التعامل بها يتم بالوزن.
ثم شرع الناس في سبك النقود من الذهب في بعض البلاد، ومن الفضة في بلاد أخرى، كوحدات متساوية في الحجم والوزن والنقاء، مختومة بختم رسمي يشهد بسلامتها، وقابليتها للتداول، وكانت قيمة القطعة الاسمية مساوية لقيمة ما تحتويه من ذهب أو فضة.
وجد الناس أن القطع النقدية سواء كانت من الذهب أو الفضة، وإن كان يخف حملها بالنسبة إلى السلع النقدية، ولكنها في جانب آخر يسهل سرقتها في نفس الوقت، فكان من الصعب على الأثرياء أن يخزنوا كميات كبيرة من هذه القطع في بيوتهم، فبدأ الناس في أوربا في القرن السابع عشر يودعون هذه الكميات الكبيرة عند بعض الصاغة على أساس أن هؤلاء الصياغ يملكون خزائن بعيدة عن السرقة والضياع في نظير أن يعطيهم هؤلاء الصاغة شهادة، أو إيصالًا بما أودعوه بدقة، ويتعهدوا برد هذه المعادن عند الطلب.
ولما ازدادت ثقة الناس بهؤلاء الصاغة صارت هذه الإيصالات تستعمل في دفع الثمن عند البيعات، فكان المشتري بدل أن يدفع القيمة نقدًا يسلم إلى البائع سندًا من هذه الإيصالات بعد تظهيره للغير وكان البائع يقبلها ثقة بالصاغة الذين أصدروها.
ثم تطور الأمر وأصبحت هذه الإيصالات متشابهة بحيث انتفى تدوين اسم مودع السبائك عليها، فأصبحت تتداول بدون تظهير، بل بمجرد التسليم مع بقاء تعهد الصاغة بالوفاء بها عند الطلب بسبائك ذهبية.
هذه هي بداية الأوراق النقدية، فهي في بداية أمرها لم تكن لها صورة رسمية، ولا سلطة تلزم بقبولها، وإنما كان المرجع في قبولها وردها إلى ثقة البائع أو الدائن بمن أصدرها.
وحين كثر تداول الإيصالات في السوق في مطلع القرن السابع عشر الميلادي تطورت هذه الأوراق إلى صورة رسمية تسمى (البنكنوت) ويقال: إن بنك استاك هوم بالسويد أول من أصدرها كأوراق نقدية. وكانت هذه الأوراق النقدية آنذاك مغطاة بغطاء كامل عند البنك الذي أصدرها، ومدعومة بالذهب بنسبة مئة في مئة، وكان البنك يلتزم ألا يصدر هذه الأوراق إلا بقدر ما عنده من الذهب، وكان لكل من يحمل هذه الأوراق أن يذهب بها متى شاء إلى البنك، ويحول ما شاء منها إلى سبائك الذهب.
وفي مرحلة ثالثة تبين لأصحاب الصاغة أن الإيصالات التي أصدروها لم تكن في غالب الأحيان ترجع إليهم ليصرفوا قيمتها بالمعادن، وإنما جزء يسير من حملة هذه الأوراق يقوم بذلك، وهذا ما دفع أصحاب الصاغة رغبة في الربح أن يصدروا من الأوراق ما يجاوز قيمة العملة المعدنية المحتفظ بها لديهم كغطاء.
وحينئذ اضطرت السلطات العامة للتدخل، وتكليف مؤسسات ذات طبيعة خاصة (مؤسسات الإصدار أو المصارف المركزية) باحتكار إصدار هذه النقود، وإحكام رقابتها.
وقد تبين للسلطات في ذلك الوقت أنه من الصعوبة المحافظة على مثل هذه التغطية الذهبية الكاملة للنقود الورقية في المدى الطويل، فاحتياجات النمو الاقتصادي وتمويل المشاريع في السلم والحرب تتطلب زيادة مستمرة وملموسة في كمية النقود المتداولة، بينما الرصيد الذهبي ينمو بمعدلات ضئيلة بفعل القيود الطبيعية، فلجأت إلى طبع كميات كبيرة من النقود الورقية تزيد عن كمية الذهب الموجودة عندهم لتستعملها في سد حاجاتها، فصار غطاء الأوراق النقدية يتناقص شيئاً فشيئًا، وهبطت نسبة دعمها بالذهب الحقيقي عن المئة بالمئة إلى نسبة أدنى بكثير، وذلك لأن البنوك التي تصدر الأوراق النقدية كانت تستيقن بأن جميع هذه الأوراق لا يطلب تحويلها إلى الذهب في وقت واحد، وقد قبلها الناس رغم أن هذه الأوراق لم تكن مدعومة بالكامل بالذهب نتيجة ثقتهم بأن مصدرها يقدر على تحويلها إلى الذهب كلما طلب منه ذلك، بفضل الذهب الموجود عنده، وإن كانت كمية الذهب أقل من كمية الأوراق الصادرة من عنده، وإن هذه الأوراق النقدية كانت تسمى نقود الثقة.
بدأت نقود الثقة تتزايد إلى حد أن الأوراق بلغت أضعاف مقدار الذهب الموجود في البلاد، مما حمل إنكلترا إلى تعطيل تحويل هذه الأوراق إلى الذهب بعد حرب عام 1914 م. ثم عادت إلى جواز التحويل في سنة 1925 ولكن بشرط أن ما يطلب من البنك تحويله لا يكون أقل من ألف وسبعمائة جنيه بما جعل عامة الناس لا يقدرون على تحويل أوراقهم إلى الذهب، ولكنهم لم يحتفلوا بذلك لشيوع الأوراق كنقد قانوني، تنفعهم في متاجراتهم الأهلية.
وفي عام 1931 م منعت حكومة بريطانيا من تحويل الأوراق إلى الذهب إطلاقًا، حتى لو كان الطلب أكثر من ألف وسبعمائة جنيه، وألزمت الناس أن يقتنعوا بهذه الأوراق كبديل للذهب، ويتعاملوا بها في سائر مداولاتهم، ولكن الحكومات استمرت في احترام حق بعضها لبعض، فإن تحويل الأوراق وإن كان ممنوعًا داخل البلاد، ولكن كانت كل دولة ملتزمة بتحويل عملتها إلى الذهب لدولة أخرى إن تقدمت إليها بعملة الدولة الأولى، فلو شاءت أمريكا مثلًا أن تتقدم بأوراق جنيهات استرلينية إلى إنكلترا، فإن إنكلترا ملتزمة بتحويل تلك الأوراق إلى الذهب، وإن هذا النظام يسمى: قاعدة التعامل بالذهب.
ظل هذا العمل بهذه القاعدة مستمرًا إلى أن واجهت الولايات المتحدة أزمة شديدة في سعر دولارها، وتدفق الذهب منها في سنة 1971 م فاضطرت إلى إيقاف تحويل الدولار إلى ذهب حتى للدول، وذلك في تاريخ 15 من شهر أغسطس، سنة 1973، وبهذا قضي على آخر شكل من دعم الأوراق بالذهب. وأصبحت هذه النقود مجرد قصاصة ليست لها قيمة ذاتية كسلعة، وإنما تعتبر قوة شرائية بناء على ثقة الأفراد فيها، وأَمْرِ القانون، فاكتمل بذلك تطور النقود الورقية، حتى أصبحت نقودًا ائتمانية خالصة، بحيث أصبحت النقود الورقية تمثل الصورة العامة للنقود في الاقتصاد المعاصر. فهي نقود قانونية، يصبغ عليها القانون صفة الشرعية، ولها القدرة على تسوية الديون، والإبراء منها، وهي تمثل قمة السيولة، حيث يمكنها أن تتحول مباشرة إلى سلع وخدمات بحسب قوتها الشرائية، أو يحتفظ بها كما هي، وهي أيضًا نقود نهائية أي لا تتحول إلى ذهب، فلا يجوز لحاملها تقديمها إلى المصرف المركزي لتحويلها إلى ذهب أو فضة، وإنما ذلك هو مجرد أثر تاريخي فحسب، والشكل الأساسي لهذه النقود يتمثل في أوراق البنكنوت التي تصدرها البنوك المركزية، ولها وحدة قياس خاصة بكل قطر، وتخضع لرقابة المصرف المركزي والحكومة، وتحدد كميتها طبقًا للسياسة النقدية المتبعة، واتفاقًا مع حاجة المعاملات والمبادلات، وهذا يعني القدرة على تغير كميتها حسب ظروف الزمان والمكان (1).
( هامش (1) :انظر بحوث في قضايا فقهية معاصرة – الشيخ محمَّد تقي العثماني (ص 148 – 154)، النقود الائتمانية – إبراهيم بن صالح العمر (ص 38 – 40)، مجلة البحوث الإِسلامية، بحث بعنوان: حكم الأوراق النقدية – للجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء، العدد الأول (ص 197 – 222).)
وبهذا نكون قد عرفنا أن النظام النقدي في العالم لم يكن قائمًا على طور واحد في حقيقتها، ومكانتها النظامية، وإنما مرت عليها أدوار وأطوار شتى، تنقلت فيها من كونها سندات للديون في مبدأ أمرها إلى أن تحولت إلى أثمان عرفية وبهذا نعرف أن الخلاف الفقهي في تكييفها لا يرجع إلى خلاف حقيقي، وإنما يرجع إلى الحكم عليها من خلال مراحل نموها وتطورها، فالذي يقول مجرد وثيقة بدين فذلك يرجع إلى بداية نشأتها، ومثله الذي يقول: إنها قائمة مقام الذهب والفضة باعتبار أنها كانت في مرحلة من تاريخه مغطاة بالذهب والفضة، وأما الذي يرى أنها أثمان عرفية قائمة بذاتها، حكم عليها بالنسبة لمآلها التي آلت إليه. وبعد هذا الموجز التاريخي للأوراق النقدية نريد أن نعرف حكم جريان الربا فيها بناء على فهم حقيقتها، وهذا ما سوف نتعرض له إن شاء الله تعالى في المبحث التالي، أسأل الله وحده عونه وتوفيقه.
قلتُ (هاني): ثم ناقش الشيخ في بعد ذلك مسألة جريان الربا في النقود الورقية و هي مسألة ذات خطرُ لما يترتب عليها من أحكام هي بمثابة الأصول للمصرفية الإسلامية المعاصرة، و أخطرها الحكم على الفوائد البنكية و السندات…
قال الشيخ المُصنف حفظه الله:
بالنسبة إلى ربا القرض فإنه يجري في النقود الورقية قولًا واحداً، لأن ربا القرض لا يختص بمال دون آخر، بل كل منفعة مشروطة، أو متعارف عليها يأخذها المقرض على المقترض فهي من الربا المجمع على تحريمه،
وإنما الخلاف في جريان الربا في الأوراق النقدية إنما هو في البيوع خاصة،…كما أن هذه الأوراق النقدية لم تكن معروفة عند قدماء فقهاء الإِسلام لعدم تداولها في زمنهم ولذا سيكون العزو في البحث إلى أقول المتأخرين من الفقهاء حين توجهوا لها بالبحث بعد أن كثر تداولها، وقامت الأسئلة الملحة في أحكامها…
قلتُ (هاني): ثم أرجع الشيخ أقوال المعاصرين في تكييف النقود الورقية و الأحكام المترتبة على كل تكييف إلى خمسة أقوال، و ناقش كل منها و عرض أدلة كل قول، و هذه الأقوال اختصاراً هي:
القول الأول: أن الأوراق النقدية إسناد بدين على جهة إصدارها، وهي مؤسسة النقد، أو البنك المركزي.
القول الثاني: أن الأوراق النقدية عرض من العروض، لها ما للعروض من الخصائص والأحكام.
القول الثالث: أنها ملحقة بالفلوس، و الفلوس هي: كل ما يتخذه الناس ثمنًا من سائر المعادن عدا الذهب والفضة، و قد كانت معروفة عند السلف… و هي أيضاً مختلف في تكييفها هل هي عروض (سلع) أم أثمان.
القول الرابع: أن الأوراق النقدية بدل عن الذهب والفضة.
القول الخامس: أن الأوراق النقدية ثمن مستقل قائم بذاته، ويعتبر كل نوع منها جنسًا مستقلًا، فتتعدد الأجناس بتعدد جهات الإصدار، فالورق النقدي السعودي جنس، والدولار الأمريكي جنس، والجنيه المصري جنس، والدينار الكويتي جنس، وهكذا.
و بهذا القول الأخير صدرت فتوى هيئة كبار العلماء بالبلاد السعودية، وقرار المجمع الفقهي الإِسلامي بمكة المكرمة، وعليه أكثر الباحثين المعاصرين، و هو ما رجحه االشيخ المؤلف بعد عرضه للأقوال و أدلتها ، و قال الشيخ المُصنف أن وجه قول من قال بهذا:
الوجه الأول:
أن الراجح في علة جريان الربا في الذهب والفضة مطلق الثمنية، وهذا يعني أن الحكم ليس مقصورًا على الذهب والفضة يل يتعداه إلى كل ما يتخذه الناس ثمنًا للأشياء.
الوجه الثاني:
أن حقيقة النقد: هو كل شيء يجري اعتباره في العرف والعادة، ويلقى قبولًا عامًا كوسيط للتبادل، كما قال ابن تيمية رحمه الله: “وأما الدرهم والدينار فما يعرف له حد طبعي، ولا شرعي، بل مرجعه إلى العادة والاصطلاح، وذلك لأنه في الأصل لا يتعلق المقصود به، بل الغرض أن يكون معيارًا لما يتعاملون به، والدراهم والدنانير لا تقصد لنفسها، بل هي وسيلة إلى التعامل بها، ولهذا كانت أثمانًا بخلاف سائر الأموال، فإن المقصود بها الانتفاع بها بنفسها، فلهذا كانت مقدرة بالأمور المطبعية أو الشرعية، والوسيلة المحضة التي لا يتعلق بها غرض، لا بمادتها، ولا بصورتها يحصل بها المقصود كيف ما كانت” مجموع الفتاوى (19/ 251، 252).
وجاء في المدونة “قلت: أرأيت إن اشتريت فلوسًا بدراهم، فافترقنا قبل أن نتقابض؟
قال: لا يصلح هذا في قول مالك، وهذا فاسد.
قال لي مالك في الفلوس: لا خير فيها نظرة بالذهب ولا بالورق، ولو أن الناس أجازوا بينهم الجلود حتى يكون لها سكة وعين لكرهتها أن تباع بالذهب والورق نظرة” المدونة (3/ 395، 396).
وهذا القول هو أقوى الأقوال، وأقربها إلى الصواب، والله أعلم.
قلتُ (هاني): و في أثناء مناقشة الأقوال نقل الشيخ المُصنف حفظه الله كلاماً عن الشيخ عبد الرزاق عفيفي في معرض استدلاله لما يراه من كون الأوراق النقدية بديلًا عن الذهب أو الفضة، و كون عدم وجود الغطاء الذهبي في خزينة الدولة لا يؤثر في بدلية النقود من النقدين (الذهب و الفضة)، يقول عليه رحمه الله:
“لما كانت الأوراق النقدية لا قيمة لها في نفسها ولم تكن قيمتها مستمدة من مجرد إصدار الدولة لها وحمايتها إياها، وإنما قيمتها فيما أكسبها ثقة الدول بها، وجعلها مع سن الدولة لها قوة شرائية وأثمانًا للسلع ومقياسًا للقيم، ومستودعًا عامًا للادخار، ولما كان الذي أكسبها ذلك وجعلها صالحة للحلول محل ما سبقها من العملات المعدنية هو ما استندت إليه من الغطاء ذهباً أو فضة أو ما يقدر بهما من ممتلكات الدولة أو إنتاجها أو احتياطها، أو أوراق مالية أو أوراق تجارية .. لما كان الأمر كذلك كانت الأوراق النقدية بدلًا عما حلت محله من عملات الذهب أو الفضة التي سبقتها في التعامل بها، وكانت متابعة لهما، فما كان منها متفرعًا عن ذهب فله حكم الذهب، وما كان منها متفرعًا عن فضة فله حكم الفضة، وعلى هذا تجب فيها الزكاة كأصلها، ويقدر فيها النصاب بما قدر به في أصلها، ويجري فيها ربا الفضل والنسيئة مع اعتبار أن ما كان منها متفرعًا عن فضة حسب الأصل جنس، وما كان متفرعًا عن ذهب في الأصل جنس، ولا يجوز بيع الورقة النقدية بما تفرعت عنه من الذهب أو الفضة مع التفاضل، ويعتبر قبض الأوراق النقدية في حكم قبض ما حلت محله من الذهب أو الفضة، هذا، وليس بلازم أن يكون في خزينة الدولة ذهب أو فضة بالفعل، ما دامت خاماتها وسائر إمكانياتها التي تقدر بوحدتها السابقة من الذهب أو الفضة قائمة محققة تقوم مقامها في استمرار الثقة بالأوراق النقدية في دولة الإصدار وغيرها من الدول، وليس بلازم أيضاً أن تسلم مؤسسة النقد ذهبًا أو فضة لحامل الورقة النقدية مقابل ما فيها ما دامت الأوراق النقدية تؤدي وظيفتها وتقوم بما أنشئت من أجله، فإن لولي الأمر أن يتصرف في غطاء الأوراق النقدية، أيًّا كان الغطاء فيما يعود على أمته بالمصلحة من وجوه تنمية الثروة، والترفيه عن الرعية حتى لا تبقى معطلة في خزينة الدولة أو معرضة للتبديد والتهريب في أيدي الأفراد.
وبهذا يعرف أن عدم وجود الغطاء في خزينة الدولة بالفعل وعدم رد المقابل لحاملها لا يعتبر إلغاء للغطاء، ولا إبطالًا مادام الغطاء الذي هو روح العملة، وسر الثقة بها موجودًا قائمًا ممثلًا فيما يثبت ملاءة الدولة وقوة إمكانياتها، ويكسب الثقة بها في الداخل والخارج من كل ما يقدر بوحدتها التي كانت الدولة تتعامل بها قبل إصدار الأوراق النقدية. وإن وجود وحدة متفق عليها كالذهب مثلاً تقاس بها موجودات وإمكانيات الدول ليعرف بها مدى ملاءة كل دولة بالنسبة للأخرى، لا ينافي وجود غطاء لأوراق الدولة النقدية وإن تنوع، كما أنه لا ينافي وجود وحدة خاصة بكل دولة تتصل بعملتها المعدنية السابقة … “
ألحق الشيخ عبد الرزاق عفيفي رأيه هذا بعنوان: وجهة نظر، أرفق مع قرار هيئة كبار العلماء في السعودية، القرار رقم (10)، ونشر في مجلة البحوث الإِسلامية، العدد الحادي والثلاثون.
قلتُ (هاني): و في نهاية هذا البحث نقل الشيخ المُصنف قرار هيئة كبار العلماء قرار رقم (10) بشأن الأوراق النقدية، و قد استعانت الهيئة قبل تكوين رأيها بمشورة محافظ مؤسسة النقد العربي السعودي الدكتور أنور علي، وحضر معه الدكتور عمر شابريه، أحد المختصين في العلوم الاقتصادية، و هذه عادة الهيئات العلمية و المجامع الفقهية بسؤال أهل التخصص قبل إصدار الفتوى الشرعية، حتى يتم تصور الواقع تصوراً صحيحاً، خلافاً لما يتوهمه بعض المتعالمين من قصور أهل العلم الشرعي عن إدراك الواقع العملي قبل الفتوى، و مع ذلك فإن كان بعض القصور في تصور الواقع قد يقع في الفتاوى الفردية، فإنه في الفتاوى المُجمعية أبعد…، و هاكم نص القرار:
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده محمَّد وعلى آله وصحبه، وبعد: فبناء على توصية رئيس إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، والأمين العام لهيئة كبار العلماء بدراسة موضوع الورق النقدي من قبل هيئة كبار العلماء، استنادًا إلى المادة السابعة من لائحة سير العمل في الهيئة، التي تنص على أن ما يجري بحثه في مجلس الهيئة يتم بطلب من ولي الأمر، أو بتوصية من الهيئة، أو من أمينها، أو من رئيس إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، أو من اللجنة الدائمة المتفرعة عن الهيئة، فقد جرى إدراج الموضوع في جدول أعمال الهيئة لدورتها الثالثة المنعقدة فيما بين 1/ 4/ 1393 هـ
و17/ 4/ 1393 هـ
وفي تلك الدورة جرى دراسة الموضوع بعد الاطلاع على البحث المقدم عنه من اللجنة الدائمة للبحوث والإفتاء.
وبعد استعراض الأقوال الفقهية التي قيلت في حقيقة الأوراق النقدية من اعتبارها أسنادًا، أو عروضًا، أو فلوسًا، أو بدلًا عن ذهب أو فضة أو نقدًا مستقلًا بذاته، وما يترتب على تلك الأقوال من أحكام شرعية، جرى تداول الرأي فيها، ومناقشة ما على كل قول منها من إيرادات، فنتج عن ذلك عديد من التساؤلات التي تتعلق بالإجراءات المتخذة من قبل الجهات المصدرة لها.
وحيث إن الموضوع من المسائل التي تقضي المادة العاشرة من لائحة سير عمل الهيئة بالاستعانة بخبير أو أكثر في شئونها حيث نصت على أنه لدى بحث الهيئة مسائل تتعلق بالشئون الاقتصادية والاجتماعية والأنظمة العامة بما في ذلك القضايا البنكية والتجارية والعمالية، فإن عليها أن تشرك في البحث معها واحداً أو أكثر من المتخصصين في تلك العلوم.
فقد جرى استدعاء سعادة محافظ مؤسسة النقد العربي السعودي الدكتور أنور علي، وحضر معه الدكتور عمر شابريه، أحد المختصين في العلوم الاقتصادية، ووجهت إلى سعادته الأسئلة التالية:
س 1: هل تعتبر مؤسسة النقد ورق النقد السعودي نقدًا قائمًا بذاته، أم تعتبره سندات تتعهد الدولة بدفع قيمتها لحاملها كما هو مدون على كل فئة من فئات أوراق النقد السعودي، وإذا لم يرد معنى هذه العبارة، فما معنى الالتزام بتسجيلها على كل ورقة، وهل يعني ذلك التعهد أن ورق النقد السعودي مغطى بريالات فضية أم لا؟
س 2: هل لكل عملة ورقية غطاء مادي محفوظ في خزائن مصدريها؟ وإذا كان كذلك فهل هو غطاء كامل؟ أم غطاء للبعض فقط؟ وإذا كان غطاء للبعض فما هو الحد الأعلى للتغطية؟ وما هو الحد الأدنى لها؟
س 3: ما نوع غطاء العملات الورقية؟ وهل توجد عملة لأي دولة ما مغطاة بالفضة؟ وهل هناك جهات إصدار تخلت عن فكرة التغطية المادية مطلقاً؟
س 4: المعروف أن الورقة النقدية لا قيمة لها في ذاتها وإنما قيمتها في أمر خارج عنها فما هي مقومات هذه القيمة؟
س 5: نرغب شرح نظرية غطاء النقد بصفة عامة، وما هي مقومات اعتبار العملة الورقية على الصعيدين الدولي والمحلي؟
س 6: هل الغطاء لا يكون إلا بالذهب وإذا كان بالذهب وغيره فهل غير الذهب فرع عن الذهب باعتبار أنه قيمة له، وهل يكفي للغطاء ملاءة ومتانة اقتصادها وقوتها ولو لم يكن لنقدها رصيد؟
س 7: ما يسمى بالدينار، والجنيه هل هو مغطى بالذهب، ولذا سمى ديناراً أو جنيهًا رمزًا لما غطي به؟ ومثله الريال السعودي هل هو مغطى بفضة، أم أن هذه التسميات يقصد بها المحافظة على التسميات القديمة للعملة المتداولة فيما مضى بغض النظر عما هي مستندة عليه من ذهب أو فضة؟
س 8: ما السبب في عدم الثقة في النقد المتداول اليوم مما أدى إلى ارتفاع الذهب ارتفاعًا لم يسبق له نظير؟
وأجاب سعادته عنها بواسطة المترجم القائد الدكتور أحمد المالك إجابة جرى رصد خلاصتها في محضر الجلسة مع سعادته، وقد توصلت بها الأكثرية من الهيئة إلى الاقتناع بما ارتأته فيها من رأي.
ثم بعد إعادة النظر في الأقوال الفقهية التي قيلت فيها على ضوء الإيضاحات التي ذكرها سعادة المحافظ قرر المجلس بالأكثرية ما يلي: بناء على أن النقد هو كل شيء يجري اعتباره في العادة أو الاصطلاح، بحيث يلقى قبولًا عامًا كوسيط للتبادل، كما أشار إلى ذلك شيخ الإِسلام ابن تيمية حيث قال: وأما الدرهم والدينار فما يعرف له حد طبعي ولا شرعي بل مرجعه إلى العادة والاصطلاح، وذلك لأنه في الأصل لا يتعلق المقصود به بل الغرض أن يكون معيارًا لما يتعاملون به، والدراهم والدنانير لا تقصد لنفسها بل هي وسيلة إلى التعامل بها، ولهذا كانت أثمانًا .. إلى أن قال: والوسيلة المحضة التي لا يتعلق بها غرض لا بمادتها ولا بصورتها يحصل بها المقصود كيفما كانت. اهـ مجموع الفتاوى (29/ 251).
وذكر نحو ذلك الإِمام مالك في المدونة من كتاب الصرف حيث قال: ولو أن الناس أجازوا بينهم الجلود حتى يكون لها سكة وعين لكرهتها أن تباع بالذهب والورق نسيئة. اهـ.
وحيث إن الورق النقدي يلقى قبولًا عامًا في التداول، ويحمل خصائص الأثمان من كونه مقياسًا للقيم، ومستودعًا للثروة، وبه الإبراء العام. وحيث ظهر من المناقشة مع سعادة المحافظ أن صفة السندية فيها غير مقصودة، والواقع يشهد بذلك ويؤكده، كما ظهر أن الغطاء لا يلزم أن يكون شاملًا لجميع الأوراق النقدية، بل يجوز في عرف جهات الإصدار أن يكون جزء من عملتها بدون غطاء، وأن الغطاء لا يلزم أن يكون ذهباً، بل يجوز أن يكون من أمور عدة كالذهب والعملات الورقية القوية وأن الفضة ليست غطاء كليًا أو جزئيًا لأي عملة في العالم ..
كما اتضح أن مقومات الورقة النقدية قوة وضعفًا مستمدة مما تكون عليه حكومتها من حال اقتصادية فتقوى بقوة دولتها وتضعف بضعفها، وأن الخامات المحلية كالبترول والقطن والصوف لم تعتبر حتى الآن لدى أي من جهات الإصدار غطاء للعملات الورقية. وحيث إن القول باعتبار مطلق الثمنية علة في جريان الربا في النقدين هو الأظهر دليلًا والأقرب إلى مقاصد الشريعة وهو إحدى الروايات عن الأئمة مالك وأبي حنيفة وأحمد.
قال أبو بكر: روى ذلك عن أحمد جماعة كما هو اختيار بعض المحققين من أهل العلم كشيخ الإِسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم وغيرهما، وحيث إن الثمنية متحققة بوضوح في الأوراق النقدية لذلك كله؛ فإن هيئة كبار العلماء تقرر بأكثريتها أن الورق النقدي يعتبر نقدًا قائمًا بذاته كقيام النقدية في الذهب والفضة وغيرهما من الأثمان، وأنه أجناس تتعدد بتعدد جهات الإصدار؛ بمعنى أن الورق النقدي السعودي جنس، وأن الورق النقدي الأمريكي جنس وهكذا كل عملة ورقية جنس مستقل بذاته، وأنه يترتب على ذلك الأحكام الشرعية الآتية:
أولاً: جريان الربا بنوعيه فيها كما يجري الربا بنوعيه في النقدين الذهب والفضة، وفي غيرهما من الأثمان كالفلوس، وهذا يقتضي ما يلي:
أ- لا يجوز بيع بعضه ببعض أو بغيره من الأجناس النقدية الأخرى من ذهب أو فضة أو غيرهما نسيئة مطلقاً، فلا يجوز مثلا بيع الدولار الأمريكي بخمسة أريلة سعودية، أو أقل أو أكثر نسيئة.
ب- لا يجوز بيع الجنس الواحد منه بعضه ببعض متفاضلًا، سواء كان ذلك نسيئة أو يدا بيد، فلا يجوز مثلا بيع عشرة أريلة سعودية ورق بأحد عشر ريالًا سعوديا ورقًا.
ج- يجوز بيع بعضه ببعض من غير جنسه مطلقًا إذا كان ذلك يدا بيد فيجوز بيع الليرة السورية أو اللبنانية بريال سعودي ورقًا كان أو فضة، أو أقل من ذلك أو أكثر، وبيع الدولار الأمريكي بثلاثة أريلة سعودية، أو أقل، أو أكثر، إذا كان ذلك يدًا بيد، ومثل ذلك في الجواز بيع الريال السعودي الفضة بثلاثة أريلة سعودية ورق، أو أقل أو أكثر يدًا بيد؛ لأن ذلك يعتبر بيع جنس بغير جنسه، ولا أثر لمجرد الاشتراك في الاسم مع الاختلاف في الحقيقة.
ثانيا: وجوب زكاتها إذا بلغت قيمتها أدنى النصابين من ذهب أو فضة، أو كانت تكمل النصاب مع غيرها من الأثمان والعروض المعدة للتجارة إذا كانت مملوكة لأهل وجوبها.
ثالثا: جواز جعلها رأس مال في السلم والشركات.
والله أعلم، وبالله التوفيق، وصلى الله على محمَّد وعلى آله وصحبه وسلم.
هيئة كبار العلماء في السعودية
قلتُ (هاني): و تتميماً للفائدة، هذا قرار مجلس مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة التعاون الإسلامي:
و صل اللهم و سلم على عبدك و رسولك محمد و على أله و صحبه و التابعين بإحسان إلى يوم الدين.
هاني حلمي
تعقيب: “بت كوين” و أخواتها… نظرة في الحُكم الشرعي للعُملات المُشفرة! | هاني حلمي
تعقيب: في الرد على شبهة تحليل فوائد البنوك لتعويض التضخم و انخفاض القيمة الشرائية للجنيه المصري…! | هاني حلمي