تعليقةٌ على فتوى في البيع بفائدةٍ إلى أجل

بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله،

هذه “فتوى في البيع بفائدةٍ إلى أجل”، لشيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام ابن تيمية، رحمه الله تعالى، نقلتها من كتاب، “جامع المسائل – المجموعة الأولى”، تحقيق: محمد عزير شمس، إشراف: الشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد، رحمه الله تعالى، نشرة: دار عالم الفوائد للنشر والتوزيع – مكة،الطبعة: الأولى، 1422 هـ، صفحة 221.

و في ما يلي نصها الكامل، مع التعليق عليها والشرح بما يفتح به الله عز وجل، وقد ميزتُ نص الفتوى بالتظليل الأزرق الفاتح مسبوقاً بعلامة اقتباس كبيرة، ثم أتبعه بكلمة “الشرح والتعليق”، وقد قمتُ بترقيم المواضع التي علقتُ عليها من المتن ليسهل ربط الشرح والتعليق بها، وقد ذكرت في التعليق بعض المسائل المعاصرة ذات الصلة، فأسال الله أن ينفعني بهذه التعليقة، ويسلكني بها في سلك الصالحين، وأن ينفع بها من طالعها وعمل بما فيها، وأشرعُ في المقصود بحول الله وقوته:

” بسم الله الرحمن الرحيم

سئل شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس ابن تيمية – رضي الله عنه – عن رجلٍ احتاج إلى مئة درهم، فجاء إلى رجلٍ فطلبَ منه دراهم (1)، فقال الرجل: ما عندي إلا قماش، فهل يجوز له أن يبيعه قماش مئةِ درهم بمئة وخمسين إلى أجلٍ؟ أو يشتري له قماشًا من غيره، ثمّ يبيعه إياه بفائدة إلى أجل؟ وهل يجوز اشتراط الفائدة قبل أن يشتري له البضاعة؟ وما مقدار ما يجوز له أن يكسب في البضاعة إذا كانت تساوي مئة درهم إلى سنة؟

وهل تجوز المماكسة (2) عند وزن الدراهم في البيع الحاضر أم لا؟ فإن أعطى البائع بطيبة قلبه، فهل يجوز له أن يبيع ما قيمته خمسون درهمًا بمئةٍ إلى أجلٍ معلوم؟ وكيف يصنع بتجارته إذا جلبها؟ وكيف يدينّها إلى أجل؟

الشرح و التعليق:

(1) يُلاحظ في السؤال أن المقصود الباعث على العقد هو الحاجة للدراهم، وقد أعلم المحتاج للدراهم من يسأله بأن حاجته هي إلى الدراهم، فكلاهما قد تطابقت إراداتهما على الدراهم ابتداءً.

(2) المماكسة، وهي طلب المشتري من البائع مكس الثمن أي تخفيضه، وصورة السؤال هي عن المماكسة عند وزن الدراهم، أي بعد أن اتفق البائع و المشتري على الثمن وصار البيع لازماً لكل منهما، ثم أخرج المشتري الدراهم لوزها و نقدها للبائع وعندها طلب المشتري من البائع تخفيض الثمن، وهذا بخلاف مكس الثمن قبل ركون البائع والمشتري للثمن النهائي وهو ما يسمى “السوم”، ويسمى في لسان المصريين “الفِصال”.

فأجاب، فقال رحمه الله، ومن خطِّه نقلتُ:

الحمد لله رب العالمين، متى قال له الطالب: أريد دراهم، فأيّ طريق سلكوه إلى أن تحصل له الدراهم ويبقى في ذمته دراهم إلى أجل – فهي معاملة فاسدة، وذلك حقيقة الربا، فإن حقيقة الربا أن يبيعه ذهبًا بذهب إلى أجلٍ، أو فضةً بفضةٍ إلى أجلٍ (3)، حرم الله الربا لما فيه من ضرر المحاويج، وأكل أموال الناس بالباطل، وقد قال – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: “إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى” فمتى كان المقصود ما حرَّمه الله ورسوله، فالتوسل إليه بكلّ طريق محرَّمٌ، وإنما يُباح للإنسان أن يتوسل إلى ما أباحه الله ورسوله منَّ اَلبيع المقصود والتجارة المقصودة.(4)

فإن الله أحلّ البيع وحرَّم الربا، وقال: (لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ) سورة النساء (29).

فالتاجر الذي يشتري السلعة ليبيعَها، ويربحَ فيها إمّا بنقلها من موضع إلى موضع، أو حَبْسِها من وقتٍ إلى وقت، فهذا يقصد السّلعة التي يربح فيها، لا يقصد أن يبيعَها بأقلّ من ثمنها ولا بمثل ثمنها. والبيعُ مثل أن يكون قصْدُه السلعةَ لينتفع بها، إما بأكلٍ أو شرب أو لُبْسٍ أو ركوبٍ، أو غير ذلك من وجوه الانتفاع التي أباحها الله بالأموال.

الشرح و التعليق:

(3) وهو ما يسميه العلماء ربا البيوع، وينقسم الربا إلى نوعين: ربا البيوع وربا الديون، وينقسم ربا البيوع إلى نوعين ربا الفضل وربا النسيئة، ودل على ذلك حيث عبادة بن الصامت عند مسلم وأصحاب السُنن، والمشهور بحديث الأصناف الربوية، يقول الشيخ أبو المعز محمد علي فركوس في الفتوى رقم: ٦٥٣ من موقعه على الشابَكة – وفيها خلاصة شروط تبادل الأصناف الربوية و أنواع الربا:

“وإنما يُشْترَطُ التماثلُ والمُساواةُ مع حصول التقابضِ في مجلسِ العقدِ في الأصناف السِّتَّةِ المذكورةِ في حديث عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رضي الله عنه وما شاركَهَا في العِلَّةِ، في قولِه صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم: «الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ، وَالفِضَّةُ بِالفِضَّةِ، وَالبُرُّ بِالبُرِّ، وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ، وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ، وَالمِلْحُ بِالمِلْحِ، مِثْلاً بِمِثْلٍ، سَوَاءً بِسَوَاءٍ، يَدًا بِيَدٍ، فَإِذَا اخْتَلَفَتْ هَذِهِ الأَصْنَافُ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ إِذَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ».

والعلَّةُ في تحريم الرِّبا في النقدين: الثمنيةُ، فَيُلْحَقُ بالذَّهَب والفضَّةِ كُلُّ ما جُعِلَ أثمانًا كالأوراق النقدية، والعلَّةُ في بقيَّة الأصناف الأخرى (البُرُّ، والشعير، والتمر، والملح) هي الكيل والوزن مع الطَّعْمِ، فيُلْحَقُ بها كُلُّ ما جُعِل مَكيلاً أو مَوزونًا مطعومًا.

وعليه تَتَبَيَّنُ صورةُ رِبَا الفضل ورِبَا النسيئة فيما يأتي:

ـ إذا بِيعَ نَقْدٌ بِجِنسه كذهبٍ بذهبٍ، أو فضَّةٍ بفضَّةٍ أو وَرَقٍ نقديٍّ بمثله (كدولارٍ بدولارٍ مثلِهِ، أو دينارٍ جزائريٍّ بمثلِهِ، أو بِيعَتْ عينٌ بجنسها مِن بُرٍّ بمثله، وشعيرٍ بشعيرٍ، وجَبَتِ المساواةُ في المقدار مع اتِّحاد المجلس ـ أي: التقابض في مجلسٍ واحدٍ ـ، فإن حَصَل التفاضُلُ ولم تتحقَّقِ المساواةُ فهو رِبَا الفضل، وإِنْ لم يتمَّ التقابضُ في مجلسٍ واحدٍ فهو رِبَا النسيئةِ في البيوع.

ـ إذا بِيعَ نقدٌ بنقدٍ بغيرِ جِنْسِه مع اشتراكهما في العِلَّة كذهبٍ بفضَّةٍ، أو دولارٍ بدينارٍ جزائريٍّ مثلاً، أو يَنٍّ يابانيٍّ بدولارٍ، أو بِيعَ بُرٌّ بشعيرٍ، أو شعيرٌ بِبُرٍّ؛ فإنه يجوز التفاضلُ بينهما في المقدار، ولكِنْ يُشْتَرَطُ الحلولُ والتقابضُ في المجلس ولا يجوز فيهما التأجيلُ.

ـ إذا بِيعَ جنسٌ بغيرِ جنسه مع اختلافهما في علَّةِ التحريم كبيعِ ذهبٍ ببرٍّ، أو دولارٍ بشعيرٍ، أو دينارٍ جزائريٍّ بأرزٍ، فإنه يجوز التفاضلُ والتأجيلُ، ولا تُشْتَرَطُ المساواةُ والحلولُ عند اختلاف الجنس والتقدير عند جمهور العلماء لِمَا عُلِمَ مِن حديث عائشةَ رضي الله عنها قالت: «اشْتَرَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ يَهُودِيٍّ طَعَامًا بِنَسِيئَةٍ وَأَعْطَاهُ دِرْعًا لَهُ رَهْنًا»، وقد تُوُفِّيَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّمَ وبَقِيَتْ دِرعُهُ مرهونةً عند اليهوديِّ، فإنَّ هذا يخصِّص عمومَ ما أفاده حديثُ عُبادةَ بنِ الصامت رضي الله عنه في قوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم: «فَإِذَا اخْتَلَفَتْ هَذِهِ الأَصْنَافُ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ إِذَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ».” أهـ.

و أما المراد بربا الديون: الزيادة التي يفرضها أحد المتعاقدين على الآخر مقابل الأجل. وهذا القسم هو الذي تنصرف إليه نصوص الربا في القرآن الكريم؛ لذلك يسمى (ربا القرآن)، كما يعرف ب (ربا الجاهلية) و(الربا الجلي) و(الربا المحرم لذاته)، وأيضا (ربا القروض) و (ربا الديون) و (ربا النسيئة). والتسميات الثلاثة الأخيرة هي الأشهر.

أما الفرق بين ربا النسيئة في الديون وربا النسيئة في البيوع: فالنسيئة في الديون: “زيادة في مقدار أحد البدلين مقابل الأجل”، بينما النسيئة في البيوع: “زيادة في أجل أحد المبيعين، مع أن المعيار الشرعي يقتضي تقابضها في الحال، دون أن يقابل هذه الزيادة في الأجل زيادة في أحد العوضين.” ويمكن مراجعة مقال خلاصة كتاب “العلل الأساسية للمعاملات المالية المحرمة” لمزيد فائدة.

(4) يعبر أهل العلم عن ذلك بقاعدة “العبرة في العقود للمقاصد والمعاني لا للألفاظ والمباني” فإن صحة صورة العقد لا تكفي وحدها للحكم على صحة العقد، بل ينبغي توافق الأرادة الصحيحة مع الصورة الصحيحة، والله عز وجل يحول بين المرء وقلبه، ولا تخفى عليه خافية، و إن الجدال الدائر في والسجال المستمر في كثير من العقود والمنتجات المصرفية المنسوبة للمصارف الإسلامية إنما هو من النزاع بين صورية المعاملة وحقيقة العقد، مثل النزاع في المرابحة للأمر بالشراء و التورق المصرفي وغيرها من العقود.

فإذا لم يكن قصده أن ينتفع بالمال، ولا أن يبيعه ليربح فيه، وإنما مقصودُه أن يبيعه ويأخذ ثمنه، فهذا مقصودُه مقصود الربا، ومتى واطأه الآخر على ذلك كانَ مُرْبِيًا (5)، سواء اتفقا على أن يبيعه السلعة إلى أجل، ثم يبتاعها بأقلّ مما باعها، كما قالت أم ولد زيد بن أرقم لعائشة رضي الله عنها: يا أمَّ المؤمنين! إني بعتُ من زيد بن أرقم غلامًا إلى العطاء (6) بثمان مئة درهم، ثمّ ابتعتُه منه بستّ مئة درهم، فقالت لها عائشة: بئس ما شريتِ، وبئس ما اشتريتِ، أَخبِري زيدًا أنه قد أبطلَ جهادَه مع رسولِ الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – إلاّ أن يتوب. (7)

الشرح و التعليق:

(5) هناك أماراتٌ تعرفُ بها نية المتعاقدين، وهل مقصودهما ما أحل الله من العقود والمعاملات أم أن مقصودهما الحيلة للتوصل للربا أو ما حرم الله. فإن كان في العقد سلعة، فأن قلبها المشتري ودقق فيها وسأل عنها، دل ذلك على أن مقصوده السلعة، وإن لم يعر السلعة بالاً دل ذلك على أن السلعة غير مقصودة، وهذه الأمارات ينظر فيها المفتي إن عُرضت عليه المسألة.

(6) قال ابن الاثير رحمه الله في جامع الاصول 1\572 ” العطاء: هو ما كان يعطيه الأمراء للناس من قرارتهم وديوانهم الذي يقررونه لهم في بيت المال، كان يصل إليهم في أوقات معلومة من السنة”

(7) وهذا الحديث في مسألة بيعُ العينة، و في الباب أدلة أخرى من السُنة، وحديث عائشة رضي الله عنها قد اختلف أهل العلم في سنده وكذلك قد أُشكل معناه وتأويله، وتمام حديث عائشة عند عبد الرزاق في المصنف (14812):

قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، وَالثَّوْرِيُّ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ امْرَأَتِهِ، أَنَّهَا دَخَلَتْ عَلَى عَائِشَةَ فِي نِسْوَةٍ فَسَأَلَتْهَا امْرَأَةٌ فَقَالَتْ: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ، كَانَتْ لِي جَارِيَةٌ، فَبِعْتُهَا مِنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ بِثَمَانِ مِائَةٍ إِلَى أَجَلٍ، ثُمَّ اشْتَرَيْتُهَا مِنْهُ بِسِتِّ مِائَةٍ، فَنَقَدْتُهُ السِتَّمِائَةٍ، وَكَتَبْتُ عَلَيْهِ ثَمَانِ مِائَةٍ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: ” بِئْسَ وَاللَّهِ مَا اشْتَرَيْتِ، وَبِئْسَ وَاللَّهِ مَا اشْتَرَيْ، أَخْبِرِي زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ: أَنَّهُ قَدْ أَبْطَلَ جِهَادَهُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا أَنْ يَتُوبَ “، فَقَالَتِ الْمَرْأَةُ لِعَائِشَةَ: أَرَأَيْتِ إِنْ أَخَذْتُ رَأْسَ مَالِي وَرَدَدْتُ عَلَيْهِ الْفَضْلَ؟ قَالَتْ: ” {مَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى} الْآيَةُ، أَوْ قَالَتْ: {إِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَموَالِكُمْ} الْآيَةُ “

ورواه البيهقي في السنن الكبرى (10799) و (10800) و كذلك ورواه الدارقطني في السنن (3002) ، (3003) نا يُونُسُ بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ , عَنْ أُمِّهِ الْعَالِيَة , قَالَتْ: خَرَجْتُ أَنَا وَأُمُّ مَحَبَّةَ إِلَى مَكَّةَ فَدَخَلْنَا عَلَى عَائِشَةَ فَسَلَّمْنَا عَلَيْهَا … وقال الدارقطني رحمه الله: أُمُّ مَحَبَّةَ وَالْعَالِيَةُ مَجْهُولَتَانِ لَا يُحْتَجُّ بِهِمَا.

وقال ابن عبد البر رحمه الله في الاستذكار (6/ 272): “وَهُوَ خَبَرٌ لَا يُثْبِتُهُ أَهْلُ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ وَلَا هُوَ مِمَّا يُحْتَجُّ بِهِ عِنْدَهُمْ وَامْرَأَةُ أَبِي إِسْحَاقَ وَامْرَأَةُ أَبِي السَّفَرِ وَأُمُّ وَلَدِ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ كُلُّهُنَّ غَيْرُ مَعْرُوفَاتٍ بِحَمْلِ الْعِلْمِ وَفِي مِثْلِ هَؤُلَاءِ رَوَى شُعْبَةُ عَنْ أَبِي هِشَامٍ أَنَّهُ قَالَ كَانُوا يَكْرَهُونَ الرِّوَايَةَ عَنِ النِّسَاءِ إِلَّا عَنْ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

وَقال ابن الجوزي في “التحقيق في أحاديث الخلاف (2/ 184): “قالوا: العالية مجهولة، لا يحتجّ بها، ولا يقبل خبرها، قلنا: بل هي امرأة معروفة، جليلة القدر، ذكرها ابن سعد فِي “الطبقات”، فَقَالَ: العالية بنت أنفع بن شراحيل امرأة أبي إسحاق السبيعيّ، سمعت منْ عائشة”

وقال ابن عبد الهادي في تنقيح التحقيق (2/ 558): “هذا إسناد جيد، وإن كان الشافعي قد قال: إنا لا نثبت مثله عن عائشة رضى الله عنها وكذلك قول الدارقطني في العالية: إنها مجهولة، لا يحتج بها، فيه نظر، وقد خالفه غيره”.

وقال السخاوي رحمه الله في الاجوبة المُرضية (1/ 211): “وقد حسن بعض الأئمة هذا الحديث، وقال: إنه يحتج بمثله لأنه رواه عن العالية ثقتان ثبتان: أبو إسحاق زوجها ويونس ابنها، ولم يعلم فيها (جرح)، والجهالة ترتفع عن الراوي بمثل ذلك. انتهى.”

قال ابن القيم رحمه الله تعالى في حاشيته على سنن ابي داود: “… فَإِنْ قِيلَ لَا نُسَلِّم ثُبُوت الْحَدِيث فَإِنَّ أُمّ وَلَد زَيْد مَجْهُولَة، قُلْنَا أُمّ وَلَده لَمْ تَرْوِ الْحَدِيث وَإِنَّمَا كَانَتْ هِيَ صَاحِبَة الْقِصَّة وَأَمَّا الْعَالِيَة فَهِيَ اِمْرَأَة أَبِي إِسْحَاق السُّبَيْعِيِّ وَهِيَ مِنْ التَّابِعِيَّات وَقَدْ دَخَلَتْ عَلَى عَائِشَة وَرَوَى عَنْهَا أَبُو إِسْحَاق وَهُوَ أَعْلَم بِهَا وَفِي الْحَدِيث قِصَّة وَسِيَاق يَدُلّ عَلَى أَنَّهُ مَحْفُوظ وَأَنَّ الْعَالِيَة لَمْ تَخْتَلِق هَذِهِ الْقِصَّة وَلَمْ تَضَعهَا بَلْ يَغْلِب عَلَى الظَّنّ غَلَبَة قَوِيَّة صِدْقهَا فِيهَا وَحِفْظهَا لَهَا وَلِهَذَا رَوَاهَا عَنْهَا زَوْجهَا مَيْمُون وَلَمْ يَنْهَهَا وَلَا سِيَّمَا عِنْد مَنْ يَقُول رِوَايَة الْعَدْل عَنْ غَيْره تَعْدِيل لَهُ وَالْكَذِب لَمْ يَكُنْ فَاشِيًا فِي التَّابِعِينَ فُشُوّهُ فِيمَنْ بَعْدهمْ وَكَثِير مِنْهُمْ كَانَ يَرْوِي عَنْ أُمّه وَامْرَأَته مَا يُخْبِرهُنَّ بِهِ أَزْوَاج رَسُول اللَّه ويحتج به”

فالخلاف في ثبوت الحديث يدور على الحكم على حال العالية بنت شراحيل، وهل هي مجهولة العين أم مجهولة الحال وهل يعتد بالرواية عنها من زوجها وولدها توثيقاً لحالها!

أما عن نكارة المتن، فقال ابن عبد البر رحمه الله في الاستذكار (6/ 272): “وَالْحَدِيثُ مُنْكَرُ اللَّفْظِ لَا أَصْلَ لَهُ لِأَنَّ الْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ لَا يُحْبِطُهَا الِاجْتِهَادُ وَإِنَّمَا يُحْبِطُهَا الِارْتِدَادُ وَمُحَالٌ أَنْ تُلْزِمَ عَائِشَةُ زَيْدًا التَّوْبَةَ بِرَأْيِهَا وَيُكَفِّرُهُ اجْتِهَادُهَا فهذا ما لا ينبغي أن يظن بها وَلَا يُقْبَلَ عَلَيْهَا…”

قال ابن القيم رحمه الله تعالى في حاشيته على سنن ابي داود: “فَلَوْلَا أَنَّ عِنْد أُمّ الْمُؤْمِنِينَ عِلْمًا لَا تَسْتَرِيب فِيهِ أَنَّ هَذَا مُحَرَّم لَمْ تَسْتَجِزْ أَنْ تَقُول مِثْل هَذَا بِالِاجْتِهَادِ وَلَا سِيَّمَا إِنْ كَانَتْ قَدْ قَصَدَتْ أَنَّ الْعَمَل يَحْبَط بِالرِّدَّةِ وَأَنَّ اِسْتِحْلَال الرِّبَا أَكْفَر وَهَذَا مِنْهُ وَلَكِنَّ زَيْدًا مَعْذُور لِأَنَّهُ لَمْ يَعْلَم أَنَّ هَذَا مُحَرَّم وَلِهَذَا قَالَتْ أَبْلِغِيهِ وَيَحْتَمِل أَنْ تَكُون قَدْ قَصَدَتْ أَنَّ هَذَا مِنْ الْكَبَائِر الَّتِي يُقَاوِم إِثْمهَا ثَوَاب الْجِهَاد فَيَصِير بِمَنْزِلَةِ مَنْ عَمِلَ حَسَنَة وَسَيِّئَة بِقَدْرِهَا فَكَأَنَّهُ لَمْ يَعْمَل شَيْئًا وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ لِجَزْمِ أُمّ الْمُؤْمِنِينَ بِهَذَا دَلِيل عَلَى أَنَّهُ لَا يَسُوغ فِيهِ الِاجْتِهَاد وَلَوْ كَانَتْ هَذِهِ مِنْ مَسَائِل الِاجْتِهَاد وَالنِّزَاع بَيْن الصَّحَابَة لَمْ تُطْلِق عَائِشَة ذَلِكَ عَلَى زَيْد فَإِنَّ الْحَسَنَات لَا تَبْطُل بِمَسَائِل الِاجْتِهَاد.

وَلَا يُقَال فَزَيْد مِنْ الصَّحَابَة وَقَدْ خَالَفَهَا لِأَنَّ زَيْدًا لَمْ يَقُلْ هَذَا حَلَال بَلْ فَعَلَهُ وَفِعْل الْمُجْتَهِد لَا يَدُلّ عَلَى قَوْله عَلَى الصَّحِيح لِاحْتِمَالِ سَهْو أَوْ غَفْلَة أَوْ تَأْوِيل أَوْ رُجُوع وَنَحْوه وَكَثِيرًا مَا يَفْعَل الرجل الشيء ولا يعلم مفسدته فإذا نبه لَهُ اِنْتَبَهَ وَلَا سِيَّمَا أُمّ وَلَده فَإِنَّهَا دَخَلَتْ عَلَى عَائِشَة تَسْتَفْتِيهَا وَطَلَبَتْ الرُّجُوع إِلَى رَأْس مَالهَا وَهَذَا يَدُلّ عَلَى الرُّجُوع عَنْ ذَلِكَ الْعَقْد وَلَمْ يُنْقَل عَنْ زَيْد أَنَّهُ أَصَرَّ عَلَى ذَلِكَ.”

وقال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى في مجموع الفتاوى (23 \ 305)  “… وَالْعَالِمُ قَدْ يَذْكُرُ الْوَعِيدَ فِيمَا يَرَاهُ ذَنْبًا مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّ الْمُتَأَوِّلَ مَغْفُورٌ لَهُ لَا يَنَالُهُ الْوَعِيدُ. لَكِنْ يَذْكُرُ ذَلِكَ لِيُبَيِّنَ أَنَّ هَذَا الْفِعْلَ مُقْتَضِي لِهَذِهِ الْعُقُوبَةِ” 

وذكر ابن بطال وجهاً لطيفاً في شرح البخاري (6 \ 220) “… ولم تقل لها: إنه أبطل صلاته ولا صيامه ولا حجه، فمعنى ذلك – والله أعلم – أن من جاهد فى سبيل الله فقد حارب عن الله، ومن فعل ذلك ثم استباح الربا، فقد استحق محاربة الله،و من أربى فقد أبطل حربه عن الله، فكانت عقوبته من جنس ذنبه”

فخلاصة البحث في الحديث سنداً ومتناً أن سنده محتمل التحسين وأن لا نكارة في المتن، والله أعلم، وعلى كل حال فتحريم بيع العينة ثابتٌ بأدلة أخرى من السُنة يضيق المقام عن ذكرها وهي منثورة في كتب الفقه والحديث.

وسئل ابن عباس عمّن باع حريرةً ثم ابتاعها بأقلّ، فقال: دراهم بدراهم دخلت بينهما حريرة. وسئل عن ذلك أنس بن مالك، فقال: هذا ممّا حرَّم الله ورسوله. وقال ابن عباس: إذا استقمت بنقدٍ ثمّ بعتَ بنقدٍ فلا بأس به، وإذا استقمتَ بنقدٍ ثمّ بعتَ بنسيئةٍ فتلك دراهم بدراهم. و”استقمت” بلغة أهل مكة بمعنى قوّمت.(8)

وفي السنن عن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أنه قال: “من باع بيعتينِ في بيعةٍ فله أوكسُهما أو الربا” (9)

فمتى اتفقا على أن يبيعه السّلعة ثم يبتاعها، فقد باع بيعتين في بيعةٍ، فله أوكسهما، وهو الثمن الأقلّ، مثل أن يتفقا على أن يبيعه إلى أجلٍ بمئةٍ، ويبتاعها بثمانين، فتعود السلعة إلى ربّها بالبيع الثاني، ويعطي الطالب ثمانين، فليس له أن يطالبه إلاّ بالأوكس، وهو الثمانون.

وكذلك لو كان ربُّ السلعة هو المحتاج، مثل أن يحتاج الجندي أو الفلاح أو نحو ذلك إلى القرض، فيقول: اشترِ فرسي أو ثوري بثمانين حالةً ثم بعنيه بمئةٍ مؤجلة، فليس له إلاّ الثمانون.

الشرح و التعليق:

(8) أثر عبد الله بن عباس أخرجه عبد الرزاق (15028) أخبرنا ابن عيينة عن عمرو بن دينار عن عطاء به.

(9) أخرجه ابن أبي شيبة (20461)، ومن طريق ابن أبي شيبة أخرجه أبو داود (3461):

حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ ، عَنْ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ” مَنْ بَاعَ بَيْعَتَيْنِ فِي بَيْعَةٍ فَلَهُ أَوْكَسُهُمَا أَوِ الرِّبَا “.

والحديث مداره على محمد بن عمرو، ويرويه جماعة عن محمد بن عمرو، منهم (يحيى بن سعيد القطان، ويزيد بن هارون، وعبدة بن سليمان، والدراوردي، وعبد الوهاب بن عطاء، وإسماعيل بن جعفر ومعاذ بن معاذ) رووه عن محمد بن عمرو به، بلفظ: “نهى عن بيعتين في بيعة”.

وخالفهم يحيى بن زكريا بن أبي زائدة، فرواه عن محمد بن عمرو به، بلفظ: (من باع بيعتين في بيعة، فله أوكسهما أو الربا). وتفرد يحيى بن زكربا بهذا اللفظ، ومخالفته لسبعة من الأئمة على رأسهم يحيى القطان، ويزيد ابن هارون، وعبدة بن سليمان يجعل تفرده شاذًا غير مقبول،إلا أن هذا اللفظ قد صح عن شريح القاضي كما عند عبد الرزاق في المصنف (14629) أخبرنا معمر والثوري، عن أيوب، عن ابن سيرين عن شريح، قال: “من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الربا”

وكذلك ما رواه أحمد، قال: حدثنا يحيى بن سعيد القطان، قال: حدثنا محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو سلمة، عن أبي هريرة، قال: “نهى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – عن بيعتين في بيعة، وعن لبستين: أن يشتمل أحدكم الصماء في ثوب واحد، أو يحتبي بثوب واحد، ليس بينه وبين السماء شيء.”

[تفرد محمَّد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة بزيادة (في بيعة) وقد رواه أصحاب أبي هريرة بلفظ: نهى عن بيعتين وعن لبستين، وهو المحفوظ]

وانظر تخريج الحديث في موسوعة المعاملات المالية أصالة ومعاصرة، للشيخ دبيان الدبيان، (2/295) و (18/241) لمزيد فائدة، وجاء في نفس الكتاب في موضع اخر الكلام على معنى بيعتين في بيعة، فقال (11/412) باختصار من عندي:

“إن النهي عن بيعتين في بيعة، وإن كان محفوظاً إلا أنه لم يرد في الشرع ما يفسر معنى الحديث، وليس هناك في اللغة أو في العرف تفسير له يمكن التحاكم إليه، وقد اختلف العلماء في تفسيرها على أقوال كثيرة، وصلت إلى أكثر من ستة أقوال، واختلافهم يدل على أنه ليس في المسألة نص عن الشارع، وتفسير السلف، والذي عليه جماهير أهل العلم لم يفسروها بالعينة، وحملها على العينة إنما جاء متأخراً عن بعض متأخري المالكية، وعن بعض متأخري الحنابلة كابن تيمية وابن القيم، وإليك الأقوال في معنى بيعتين في بيعة:

فقيل: هو أن يبيع الرجل السلعة بعشرة نقداً، أو بعشرين نسيئة، فيفترق المتبايعان دون تعيين أحد الثمنين…

وقيل: بيعتين في بيعة: أن يقول الرجل: هذا بعشرة نقداً، أو بعشرين نسيئة، ويكون البيع لازماً بأحد الثمنين…

وقيل: بيعتان في بيعة هو أن يبيعه الشيء ويشترط عليه عقداً آخر من بيع أو سلف، أو قرض، أو صرف، أو إجارة، أو شركة، وكذا كل ما كان في معنى ذلك…

والذي أرى أن البيعتين في بيعة ليست محصورة في صورة واحدة، بل يدخل في ذلك: كل عقدين جمعا في عقد واحد وترتب على جمعهما محذور شرعي، ومنه ما ذكره ابن تيمية وابن القيم في صورة بيع العينة، ومنه لو باع عليه ذهباً، واشترط عليه أن يشتري منه بثمنه ذهباً آخر، فإنه حيلة لمبادلة الذهب بالذهب مع التفاضل، ومنه كذلك لو باع عليه سلعة بشرط أن يقرضه، فإنه يدخل في القرض إذا جر نفعاً، وهكذا, ولا يدخل في ذلك العقدان الذي لم يترتب على جمعهما محذور شرعي، كما لو باعه سيارته بشرط أن يبيعه داره؛ لأنه لا مفسدة ولا محذور في جمع العقدين في عقد واحد، كما لا يدخل في ذلك إذا عرض عليه السلعة بنقد بكذا، وبنسيئة بكذا؛ لأن العقد في الحقيقة واحد، والله أعلم.

فحديث النهي عن بيعتين في بيعة صالح للحجة في منع بيع العينة، كما هو صالح في منع كل عقدين جمعا في عقد واحد وترتب على جمعهما محذور شرعي.” انتهى من الموسوعة سالفة الذكر، وهي موسوعة نفيسة أنصح بها طلبة علم البيوع والمعاملات المالية.

والشرط المتقدم على العقد كالمقارن له مالم يفسخاه (10)، والشرط العرفي الذي جرت به العادة بمنزلة اللفظي (11)، والمقاصد في العقود معتبرة، فإنما الأعمال بالنيات.

الشرح و التعليق:

(10) الشرط المقارن للعقد هو الشرط الواقع حال إبرام العقد، أما الشرط المتقدم للعقد هو الشرط الواقع سابقاً عن وقت إبرام العقد.

قال شيخ الإسلام كما في الفتاوى الكبرى (6/268): ” وَالْمُسْلِمُونَ يَفْهَمُونَ أَنَّ مَا تَقَدَّمَ الْعَقْدَ شَرْطٌ كَمَا قَارَنَهُ” وقال (6/270) ” فَإِنَّ الْعُقُودَ فِي الْحَقِيقَةِ إنَّمَا هِيَ بِالْقُلُوبِ، وَإِنَّمَا الْعِبَارَاتُ مُبَيِّنَاتٌ لِمَا فِي الْقُلُوبِ، لَا سِيَّمَا إنْ قِيلَ هِيَ إخْبَارَاتٌ، وَبَيَانُهَا لِمَا فِي الْقَلْبِ لَا يَخْتَلِفُ بِجَمْعِ الْكَلَامِ فِي وَقْتٍ أَوْ يُفَرِّقُهُ فِي وَقْتَيْنِ…”

وقال أيضاً (4/108) ” الشَّرْطُ الْمُتَقَدِّمُ عَلَى الْعَقْدِ بِمَنْزِلَةِ الْمُقَارِنِ لَهُ فِي ظَاهِرِ مَذْهَبِ فُقَهَاءِ الْحَدِيثِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ، وَمَذْهَبِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَغَيْرِهِ… لَكِنْ الْمَشْهُورُ فِي نُصُوصِ أَحْمَدَ وَأُصُولِهِ، وَمَا عَلَيْهِ قُدَمَاءُ أَصْحَابِهِ، كَقَوْلِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ أَنَّ الشَّرْطَ الْمُتَقَدِّمَ كَالشَّرْطِ الْمُقَارِنِ، فَإِذَا اتَّفَقَا عَلَى شَيْءٍ وَعُقِدَ الْعَقْدُ بَعْدَ ذَلِكَ فَهُوَ مَصْرُوفٌ إلَى الْمَعْرُوفِ بَيْنَهُمَا مِمَّا اتَّفَقَا عَلَيْهِ، كَمَا تَنْصَرِفُ الدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ فِي الْعُقُودِ إلَى الْمَعْرُوفِ بَيْنَهُمَا، وَكَمَا أَنَّ جَمِيعَ الْعُقُودِ إنَّمَا تَنْصَرِفُ إلَى مَا يَتَعَارَفُهُ الْمُتَعَاقِدَانِ.

وقال رحمه الله (6/271) رداً على من قال أن الشُّرُوطَ الْمُؤَثِّرَةَ هِيَ مَا قَارَنَتْ الْعَقْدَ دُونَ مَا تَقَدَّمَتْهُ:

فَإِنَّ هَذَا غَيْرُ مُسَلَّمٍ، وَهُوَ مَمْنُوعٌ لَا أَصْلَ لَهُ مِنْ كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ وَلَا وِفَاقٍ وَلَا عِبْرَةٍ صَحِيحَةٍ، وَالْقَوْلُ فِي النِّكَاحِ وَالْبَيْعِ وَغَيْرِهِمَا وَاحِدٌ، وَقَدْ سَلَّمَهُ بَعْضُ أَصْحَابِنَا مِثْلُ أَبِي مُحَمَّدٍ الْمَقْدِسِيَّ، وَادَّعَى أَنَّ الْمُؤَثِّرَ فِي الْفَسَادِ هُوَ النِّيَّةُ الْمُقْتَرِنَةُ بِالْعَقْدِ لَا الشَّرْطُ الْمُتَقَدِّمُ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا لَوْ انْفَرَدَ لَكَانَ مُؤَثِّرًا كَمَا تَقَدَّمَ، وَسَلَّمَ آخَرُونَ مِنْهُمْ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى وَغَيْرُهُ أَنَّ الشَّرْطَ الْمُتَقَدِّمَ إنْ لَمْ يَمْنَعْ الْقَصْدَ بِالْعَقْدِ كَالتَّوَاطُؤِ عَلَى أَجَلٍ مَجْهُولٍ وَنَحْوِهِ. لَمْ يَفْسُدْ الْعَقْدُ، وَإِنْ مُنِعَ الْقَصْدُ بِالْعَقْدِ كَالتَّوَاطُؤِ عَلَى بَيْعِ تَلْجِئَةٍ وَنِكَاحِ تَحْلِيلٍ أَبْطَلَ الْعَقْدَ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ الشُّرُوطَ الْمُتَقَدِّمَةَ كَالْمُقَارَنَةِ مُطْلَقًا، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَفْصٍ الْعُكْبَرِيِّ وَهُوَ قَوْلُ الْمَالِكِيَّةِ.”

(11) الشرط العرفي هو الشرط الملحوظ في العقد والمتعارف عليه بين جماعة من الناس وإن لم يُنطق لفظاً فهو معروف مشروط حساً ومعنى بما قد جرت به عادة هذه الجماعة أو هذا البلد، و هو يختلف باختلاف البلدان و الأزمان والأحوال.

قال شيخ الإسلام رحمه الله في الفتاوى الكبرى (6/270): ” وَإِذَا كَانَ الشَّرْطُ الْمَشْرُوطُ قَبْلَ الْعَقْدِ كَالْمَشْرُوطِ فِيهِ، فَمَعْلُومٌ أَنَّ الشَّرْطَ الْعُرْفِيَّ كَالشَّرْطِ اللَّفْظِيِّ، وَلِهَذَا قَالُوا مَنْ دَفَعَ ثِيَابَهُ إلَى غَسَّالٍ يُعْرَفُ مِنْهُ الْغُسْلُ بِالْأُجْرَةِ لَزِمَهُ الْأُجْرَةُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْعُرْفَ شَرْطٌ، وَكَذَلِكَ مَنْ دَخَلَ حَمَّامَ حَمَّامِيٍّ أَوْ رَكِبَ سَفِينَةَ رُبَّانٍ فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ الْأُجْرَةُ بِنَاءً عَلَى الْعُرْفِ، وَكَذَلِكَ لَا خِلَافَ أَنَّهُ لَوْ أَطْلَقَ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ فِي عَقْدِ بَيْعٍ أَوْ نِكَاحٍ أَوْ صُلْحٍ أَوْ غَيْرِهَا، انْصَرَفَ إلَى النَّقْدِ الْغَالِبِ الْمَعْرُوفِ بَيْنَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ، وَكَانَ هَذَا الْعُرْفُ مُقَيِّدًا لِلَّفْظِ، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَنْزِلَ عَلَى إطْلَاقِ اللَّفْظِ بِإِلْزَامِ مُسَمَّى الدِّرْهَمِ مِنْ أَيِّ نَقْدٍ أَوْ وَزْنٍ كَانَ”

وكذلك إذا اتفقا على أنه يشتري سلعةً من غيره بثمنٍ حالٍ، ثم يبيعه إياها إلى أجلٍ بأكثر من ذلك الثمن، ثم إن المشتري يعيدها إلى صاحب الحانوت، فهذه الحيلة الثلاثية (12)، ومتى درى صاحب الحانوت بقصدهما كان شريكهما في الربا (13). وأما اشتراط الربح قبل أن يشتري البضاعة في مثل هذا، فلأن مقصودهما دراهم بدراهم إلى أجل.(14)

الشرح و التعليق:

(12) صورة هذه الحيلة الثلاثية أن يتفق أثنان على أن يُقرض أحدهما الأخر نقداً إلى أجل مع الزيادة، فيشتري المُقرض سلعة ما نقداً من أي تاجر، ثم يبيعها المُقرض للمقترض نسيئة إلى أجل بسعر أعلى من سعر النقد (وهي الزيادة المشروطة بين المُقرض والمقترض قبل إبرام البيع الثاني، و سمّوها زوراً ربحاً) ثم بعد ذلك يقوم المقترض بعرض السلعة للبيع على نفس التاجر، فيشتريها منه التاجر ويقبض المُقترض النقد ويكون في ذمته للمُقرض نقداً أكثر إلى أجل، فصار الأمر إلى دراهم معجلة بدراهم مؤجلة مع الزيادة، وهو ربا النسيئة في الديون، والبيع هنا صوري ليس له أثر لأنه غير مقصود، و السلعة غير مقصودة.

والفرق بين هذه الصورة وصورة “المرابحة للأمر بالشراء”  – والتي اجازها بعض أهل العلم بشروط متسلسلة الغرض منها تحقيق القبض الحقيقي وفصل الضمان – هي أن سلعة المرابحة تكون مقصودة لذاتها، وفي الواقع التطبيقي في بعض الدول منها مصر والإمارات، لا يستطيع مشتري السلعة أن يتصرف فيها ببيعها للتاجر الأصلي ولا غيره، إذ تنص أوراق السلعة في الغالب على أنها مرهونة للبنك “رهناً ائتمانياً رسمياً دون حيازة” كما في بيع السيارات خاصة، يكتبُ في ملكية السيارة أنها مرهونة للبنك أو مطلوبة للأقساط.

وجاء في معيار المرابحة، المعيار الثامن من المعايير الصادرة عن هيئة المراجعة والمحاسبة الإسلامية المعروفة اختصاراً بالأيوفي، صفحة 232 ” مستند منع اشتراط عدم انتقال الملكية: أن هذا الشرط ينافي مقتضی عقد البيع وهو انتقال الملكية. ومستند جواز إرجاء تسجيل السلعة باسم العميل لغرض ضمان سداد الثمن أن ذلك لا يمنع شرعا من انتقال الملكية للمشتري.”

وهذا الكلام فيه نظر، لأن إرجاء تسجيل السلعة باسم العميل يحول دون إمكانية العميل التصرف في السلعة بالبيع أو الهبة ونحوهما، فيئول منع التسجيل لمنع التصرف وهو ملك ناقص!

قال الشيخ أبو المعز محمد علي فركوس حفظه الله تعالى في الفتوى رقم 945 كما في موقعه على الشابكّة: “… وعليه، فاشتراطُ البائع ـ بغضِّ النظر عن صفته ـ شرطًا يمنع المشتري مِن أحَدِ حقوق الملكية كحقِّ التصرُّف أو حقِّ الانتفاع كأَنْ يشترط أَنْ لا يبيع المَبِيعَ أو أَنْ لا يَهَبَهُ أو أن يَحُدَّ مِن الانتفاع به، يُعَدُّ شرطًا باطلاً مُنافيًا لمقتضى العقد، فليس للمشترِط أن يُبيحَ ما حَرَّم اللهُ، ولا يُحرِّمَ ما أباحه اللهُ، ولا أَنْ يشترط شرطًا مُخالِفًا لمقتضى العقد، فإِنِ اشترط فشرطُه باطلٌ والبيعُ صحيحٌ.”

وذهب الشيخ محمد بن محمد المختار الشنقيطي – في باب الرهن من شرحه على زاد المستقنع- إلى أن الأظهر عدم صحة هذا النوع من الرهون، قال حفظه الله في أحد أسئلة الشرح (19\177) ترقيم الشاملة: ” … فإن هذا النوع من البيوع فيه شبهة، وعلى هذا يُقال: إن الرهن وقع على نفس المبيع، وحينئذٍ لم يكن على سنَن الرهن المعروف شرعاً؛ لأن الأصل في الرهن أن يكون بعينٍ يُستوثق بها لقاء الدين، وأن تكون هذه العين منفكة عن أصل التعاقد؛ لأن المقصود من الرهن إمضاء العقد الأصلي، وعلى هذا فإنه يقوم بإلغاء العقد الأصلي…، فالمقصود من الرهن إمضاء العقد الأصلي، وأن يُعطى الرهن من أجل أن تتم الصفقة الأولى، فإذا صارت الصفقة نفسها هي الرهن، فحينئذٍ خالفت المقصود من الرهن، ولذلك فأصل الرهن إمضاء التجارات…فالمؤقت بالممنوع كالمطلق به، فهو إذا أقّت الممنوع وقال: لا تبيعه مدة كذا، فإن هذا يخالف مقصود الشرع من كونه إذا اشترى الشيء كان حر التصرف فيه، وعلى هذا فالأظهر عدم صحة هذا النوع من الرهون، والله تعالى أعلم.

(13) إذا نظرنا لدور التاجر (صاحب الحانوت) في هذه الحيلة فإنه يبيع السلعة بيعاً صحيحاً وكذلك يشتريها شراءً صحيحاً، ولكنه لمّا علمَ بالحيلة صار شريكاً في التوسط بين أكل الربا (آخذه) وموكله (معطيه) و في حديث عبد الله بن مَسْعُودٍ رضي الله عنه (مختصراً) قَالَ: ” آكِلُ الرِّبَا وَمُوكِلُهُ وَكَاتِبُهُ وَشَاهِدَاهُ إِذَا عَلِمُوا بِهِ … مَلْعُونُونَ عَلَى لِسَانِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم القيامة” [مسند احمد (3881) وهو حسن لغيره] ، فصاحب الحانوت ملعون من جهة الشهادة على الربا وكذلك هو أثم من جهة التعاون على الأثم والعدوان.

(14) وقد جمعت هذه الحيلة محاذير منها المواعدة الملزمة المفهومة من اشتراط الربح على مشتري السلعة قبل أن يشتريها له من التاجر، وكذلك فإنه يربح ما لا لم يضمن، أما إذا خلى قصدهما عن دراهم بدراهم، واشتري السلعة وقبضها دون مواعدة ملزمة لبيعها، ثم باعها بالأجل لمن يشتريها بغرض الإنتفاع بها، فهو جائز كما سياتي…

وأما إذا كان المشتري يشتري السلعة لينتفع بها أو يتّجر فيها، لا ليبيعها في الحال ويأخذ ثمنها، فهذا جائز، والربح عليه إن كان مضطرًا إليها يكون بالمعروف (15). 

الشرح و التعليق:

(15) وظاهر كلام شيخ الإسلام هنا هو جواز صورة المرابحة للأمر بالشراء من غير مواعدة ملزمة، “إذا كان المشتري يشتري السلعة لينتفع بها أو يتّجر فيها، لا ليبيعها في الحال ويأخذ ثمنها” أما إن كانت السلعة غير مقصودة و كان مقصودهما النقد فهو من الربا كما تقدم، وتقييد الجواز بعدم المواعدة الملزمة مفهوم من منعه اشتراط الربح مسبقاً وهو من لوازم المواعدة.

وصورة المرابحة للأمر بالشراء، مع منع المواعدة الملزمة للطرفين، قد ذكرها الشافعي رحمه الله تعالى في معرض كلامة على العينة، فقال في الأم (3\39):

“…وَإِذَا أَرَى الرَّجُلُ الرَّجُلَ السِّلْعَةَ فَقَالَ اشْتَرِ هَذِهِ وَأُرْبِحْك فِيهَا كَذَا فَاشْتَرَاهَا الرَّجُلُ فَالشِّرَاءُ جَائِزٌ وَاَلَّذِي قَالَ أُرْبِحْك فِيهَا بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَحْدَثَ فِيهَا بَيْعًا، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهُ وَهَكَذَا إنْ قَالَ اشْتَرِ لِي مَتَاعًا وَوَصَفَهُ لَهُ أَوْ مَتَاعًا أَيَّ مَتَاعٍ شِئْت وَأَنَا أُرْبِحْك فِيهِ فَكُلُّ هَذَا سَوَاءٌ يَجُوزُ الْبَيْعُ الْأَوَّلُ وَيَكُونُ هَذَا فِيمَا أَعْطَى مِنْ نَفْسِهِ بِالْخِيَارِ وَسَوَاءٌ فِي هَذَا مَا وَصَفْتُ إنْ كَانَ قَالَ أَبْتَاعُهُ وَأَشْتَرِيهِ مِنْك بِنَقْدٍ أَوْ دَيْنٍ يَجُوزُ الْبَيْعُ الْأَوَّلُ وَيَكُونَانِ بِالْخِيَارِ فِي الْبَيْعِ الْآخَرِ، فَإِنْ جَدَّدَاهُ جَازَ، وَإِنْ تَبَايَعَا بِهِ عَلَى أَنْ أَلْزَمَا أَنْفُسَهُمَا الْأَمْرَ الْأَوَّلَ فَهُوَ مَفْسُوخٌ مِنْ قِبَلِ شَيْئَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ تَبَايَعَاهُ قَبْلَ أَنْ يَمْلِكَهُ الْبَائِعُ وَالثَّانِي أَنَّهُ عَلَى مُخَاطَرَةِ أَنَّك إنْ اشْتَرَيْتَهُ عَلَى كَذَا أُرْبِحْك فِيهِ كَذَا”

كذلك قد ذكر ابن القيم رحمه الله المرابحة للأمر بالشراء ضمن الحيل المشروعة، وكلامه واضح في عدم وجود مواعدة ملزمة بقرينة التحرز بالخيار، قال في إعلام الموقعين (4\23):

“الْمِثَالُ الْمُوَفِّي الْمِائَةَ: رَجُلٌ قَالَ لِغَيْرِهِ: “ اشْتَرِ هَذِهِ الدَّارَ – أَوْ هَذِهِ السِّلْعَةَ مِنْ فُلَانٍ – بِكَذَا وَكَذَا، وَأَنَا أُرْبِحُك فِيهَا كَذَا وَكَذَا ” فَخَافَ إنْ اشْتَرَاهَا أَنْ يَبْدُوَ لِلْآمِرِ فَلَا يُرِيدُهَا، وَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الرَّدِّ، فَالْحِيلَةُ أَنْ يَشْتَرِيَهَا عَلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ أَوْ أَكْثَرَ، ثُمَّ يَقُولَ لِلْآمِرِ: قَدْ اشْتَرَيْتهَا بِمَا ذَكَرْت، فَإِنْ أَخَذَهَا مِنْهُ، وَإِلَّا تَمَكَّنَ مِنْ رَدِّهَا عَلَى الْبَائِعِ بِالْخِيَارِ، فَإِنْ لَمْ يَشْتَرِهَا الْآمِرُ إلَّا بِالْخِيَارِ فَالْحِيلَةُ أَنْ يَشْتَرِطَ لَهُ خِيَارًا أَوْ نَقَصَ مِنْ مُدَّةِ الْخِيَارِ الَّتِي اشْتَرَطَهَا هُوَ عَلَى الْبَائِعِ؛ لِيَتَّسِعَ لَهُ زَمَنُ الرَّدِّ إنْ رُدَّتْ عَلَيْهِ.”

وليس هذا موضع بسط الكلام على المرابحة للأمر بالشراء التي تجريها المصارف الملتزمة بتطبيق الشريعة، ولكن يجب الانتباه للتطبيق في كل بلد من البلدان، وكل مصرف من المصارف، والنظر في كل معاملة على حدة، وسؤال أهل العلم من أهل البلد عنها، أما عن حكمها فقد اختلف في حكمها المعاصرون، وجمهورهم على جوازها بشروط، من أهمها تملك المصرف للسلعة قبل بيعها، وعدم وجود مواعدة ملزمة بين البنك والعميل، وأما الذين منعوا المرابحة للأمر بالشراء فقد جعلوها حيلة على الربا، وبسط الكلام في هذا يطول وليس هذا موضعه.

ولكن يوجد إيرادٌ هام على المرابحة للأمر بالشراء في واقع التطبيق العملي، وهو أنها صارت من البيوع المنظمة التي تجريها المصارف الإسلامية، وإن سلّمنا أن قصد عميل البنك هي الانتفاع بالسلعة وليس مقصوده دراهم بدراهم إلى أجل، فماذا عن قصد المصرف؟ هل يقصد المصرف التجارة أم يقصد الربا في صورة دراهم بدراهم إلى أجل؟ خاصة وأن الشُبهة قوية في قصد الربا وذلك لأمور منها:

أن نموذج عمل البنوك الربوية الذي ترضاه الرأسمالية الطاغوتية هو تجارة النقود، فالبنك الربوي هو تاجر نقود، يقترضها بفائدة ربوية ويُقرضها بفائدة ربوية أعلى، ويربح من هذا الفرق، وعلى ذلك تأسست القوانين المركزية الحاكمة للبنوك في غالب الدول العربية الإسلامية مجاراة للرأسمالية العالمية وأدواتها، ومن أهمها البنوك.

ثم خرجت المصارف الإسلامية إلى النور في بيئة ربوية رأسمالية، وحكومات عربية إسلامية مردت على تقليد الثقافة الغالبة، لا حيلة لها تارة أو علمانية المصدر والمورد تارات، واصطدمت المصارف الإسلامية بالقوانين المركزية التى لا تفرق بين البنك الربوي والبنك الشرعي، فالبنك الربوي تاجر نقود وأما البنك الشرعي فتاجر سلع، فالمنتجات الربوية للبنوك أدوات دين وقروض، وأما المنتجات الشرعية فهي تجارة فيها بيع وشراء وإجارة وضمان ومخاطرة…، فبينهما ما بين البيع والربا من فروق.

في مصر على سبيل المثال، أخبرني المدقق الشرعي لأحد أكبر البنوك الإسلامية في البلاد أنهم حين يجرون المرابحة للأمر بالشراء لا يمكنهم تملك السلعة قبل بيعها على عميل البنك! لأن قوانين البنك المركزي تمنعهم من تملك السلع المنقولة، وكما هو معلوم فإن البيع قبل تملك البضاعة لا يصح لنهي الشارع عن ربح ما لم يضمن، فالبنك يربح في البضاعة المعينة قبل تملكها، وقبل أن تدخل في ضمانه، لذلك أشرت أن حكم المعاملة يختلف من بلد إلى بلد و من بنك إلى بنك، ومن معاملة إلى أخرى، ولا ينبغى حين الإفتاء ختم المعاملات بختم المرابحة وتجويزها هكذا دون نظر و تدقيق! كما تفعل دار الإفتاء المصرية فيما أطلعت عليه من فتاويهم المنشورة على موقعهم، فإن فيها إجمالٌ مُخلٌ وقواعد متوهمة وطوامٌ في أبواب المعاملات وبخاصة القروض والمداينات، وقد أُفرد لها تأليفُ خاص بإذن الله تعالى.

ومع فساد تلك المرابحة الصورية فإنها تمثل 85% من محفظة استثمارات أموال المودعين في هذا البنك!! وقد أوصى مجلس مجمع الفقه الإسلامي بتقليل المرابحة، قال المجمع في القرار رقم (76) “ويوصي بما يلي … التقليل ما أمكن من استخدام أسلوب المرابحة للآمر بالشراء وقصرها على التطبيقات التي تقع تحت رقابة المصرف ويؤمن فيها وقوع المخالفة للقواعد الشرعية التي تحكمها. والتوسع في مختلف الصيغ الاستثمارية الأخرى من المضاربة والمشاركات والتأجير…” وهذه التوصية مع تطبيقها الصحيح، فما الحال مع التطبيق الفاسد!

فالحاصل أن هذا البنك قد جمع “حشفاً وسوء كيلة” [وهو مثلٌ يُضرب للذي يَجمع بين خَصْلتَيْن ذميمتَيْن، و”الحَشَفُ”: هو التَّمر الرَّدِيءُ، الذي ليس له نوى لشِدَّة رداءته، و”كيلة”: مأخوذة من الكَيْل، وهو الوزن، أي جمع البائع بين بضاعة رديئة وبخس في الوزن] ، فإلى الله المشتكى.

فإذا اضطر الإنسان إلى طعام الغير أو شرابٍ عنده أو لباسٍ، كان عليه أن يبيعهم إياه بقيمة المثل، فيربح الربح المعروف، وكذلك يربح على المسترسل الذي لا يماكسه، كما يربح على سائر الناس، فإن غبن المسترسل ربًا (16).

وإذا تفرق المتبايعان عن تراضِ لزم، وكان على المشتري أن يوفيه جميع الثمن، ولا يحل له أن يمكسه شيئًا منه، بل لا يحل له أن يسأله أن يضع عنه شيئًا منه إذا كان غنيًا، فإن سؤال الغني لغيره حرام، وهذا يسأل غيره أن يسقط عنه حقّه (17). ولا يحلّ له أن يمكّن غلامَه أن يطلب منه شيئًا من الثمن، فإذا أعطاه البائع بطيب نفسه كان صدقةً عليه، والصدقة أوساخ الناس، فإن اختار أن يقبل أَوساخ الناس من غير حاجةٍ فقد رضي لنفسه بما لا يرضى به العاقل.(18)

وأما إذا باعها إلى أجلٍ معلومٍ لمن ينتفع بها أو يتجر فيها، فجائز (19)؛ فإن باعها مزايدة لم ينضبط ذلك (20)، وإن باعها مرابحةً كان الربح ما يتفقان عليه ويرضيان إذا لم يكن المشتري مضطرًّا، وإن كان مضطرًّا ربح عليه ما يربحه على غير المضطرّ. والله أعلم (21).

آخرها، لله الحمد والمنّة، وصلواته على خير خلقه محمدٍ وآله وصحبه وسلَّم تسليمًا.
(علَّقها أحمد بن المحبّ من خطّ المجيب – رحمه الله – في ليلة حادي عشري رجب سنة 747).

الشرح والتعليق:

(16) وَسُئِلَ شيخ الإسلام عَنْ بَيْعِ الْمُسْتَرْسِلِ؟ كما في مجموع الفتاوى (29/361)، فَأَجَابَ:

“أَمَّا الْبَيْعُ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُبَاعَ الْمُسْتَرْسِلُ إلَّا بِالسِّعْرِ الَّذِي يُبَاعُ بِهِ غَيْرُهُ لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ اسْتَرْسَلَ إلَيْهِ أَنْ يَغْبِنَ فِي الرِّبْحِ غَبْنًا يَخْرُجُ عَنْ الْعَادَةِ. وَقَدْ قَدَّرَ ذَلِكَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ بِالثُّلُثِ. وَبَعْضُهُمْ بِالسُّدُسِ. وَآخَرُونَ قَالُوا: يَرْجِعُ فِي ذَلِكَ إلَى عَادَةِ النَّاسِ فَمَا جَرَتْ بِهِ عَادَتُهُمْ مِنْ الرِّبْحِ عَلَى المماكسين: يَرْبَحُونَهُ عَلَى الْمُسْتَرْسِلِ.

وَالْمُسْتَرْسِلُ قَدْ فُسِّرَ بِأَنَّهُ الَّذِي لَا يُمَاكِسُ بَلْ يَقُولُ: خُذْ أَعْطِنِي وَبِأَنَّهُ الْجَاهِلُ بِقِيمَةِ الْمَبِيعِ فَلَا يَغْبِنُ غَبْنًا فَاحِشًا لَا هَذَا وَلَا هَذَا وَفِي الْحَدِيثِ {غَبْنُ الْمُسْتَرْسِلِ رِبًا} . وَمَنْ عُلِمَ مِنْهُ أَنَّهُ يَغْبِنُهُمْ فَإِنَّهُ يَسْتَحِقُّ الْعُقُوبَةَ؛ بَلْ يُمْنَعُ مِنْ الْجُلُوسِ فِي سُوقِ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى يَلْتَزِمَ طَاعَةَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَلِلْمَغْبُونِ أَنْ يَفْسَخَ الْبَيْعَ فَيَرُدَّ السِّلْعَةَ وَيَأْخُذَ الثَّمَنَ وَإِذَا تَابَ هَذَا الْغَابِنُ الظَّالِمُ وَلَمْ يُمْكِنْهُ أَنْ يَرُدَّ إلَى الْمَظْلُومِينَ حُقُوقَهُمْ فَلْيَتَصَدَّقْ بِمِقْدَارِ مَا ظَلَمَهُمْ بِهِ وَغَبَنَهُمْ؛ لِتَبْرَأَ ذِمَّتُهُ بِذَلِكَ مِنْ ذَلِكَ. وَ ” بَيْعُ الْمُسَاوَمَةِ ” إذَا كَانَ مَعَ أَهْلِ الْخِبْرَة بِالْأَسْعَارِ الَّتِي يَشْتَرُونَ بِهَا السِّلَعَ فِي غَالِبِ الْأَوْقَاتِ فَإِنَّهُ يُبَاعُ غَيْرُهُمْ كَمَا يُبَاعُونَ فَلَا يَرْبَحُ عَلَى الْمُسْتَرْسِلِ أَكْثَرُ مِنْ غَيْرِهِ وَكَذَلِكَ الْمُضْطَرُّ الَّذِي لَا يَجِدُ حَاجَتَهُ إلَّا عِنْدَ هَذَا الشَّخْصِ يَنْبَغِي أَنْ يَرْبَحَ عَلَيْهِ مِثْلَ مَا يَرْبَحُ عَلَى غَيْرِ الْمُضْطَرِّ؛ فَإِنَّ فِي السَّاقِ: {أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ بَيْعِ الْمُضْطَرِّ} وَلَوْ كَانَتْ الضَّرُورَةُ إلَى مَا لَا بُدَّ مِنْهُ؛ مِثْلَ لَوْ يَضْطَرُّ النَّاسُ إلَى مَا عِنْدَهُ مِنْ الطَّعَامِ وَاللِّبَاسِ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَبِيعَهُمْ إلَّا الْقِيمَةَ الْمَعْرُوفَةَ وَلَهُمْ أَنْ يَأْخُذُوا ذَلِكَ مِنْهُ بِالْقِيمَةِ الْمَعْرُوفَةِ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ وَلَا يُعْطُوهُ زِيَادَةً عَلَى ذَلِكَ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.”

(17) هذه الجملة جواب عن سؤال “وهل تجوز المماكسة عند وزن الدراهم في البيع الحاضر أم لا؟” وراجع التعليق رقم (2) ، وتحريم سؤال التخفيض هنا مُتجه، فإن البيع إن صار لازماً، صار الثمن حق للبائع وصار المُثمن حق للمشتري، فسؤال المشتري خفض الثمن عندها هو من سؤال حق الغير بغير وجه حق، وقيد شيخ الإسلام حرمة السؤال بالغنى المانع من السؤال احترازاً لمن افتقر قبل نقد الدراهم، فإن المشتري إن أصابته جائحة أو مصيبة فصار فقيراً وعجز عن نقد الثمن فله أن يطلب خفض الثمن لأنه صار من أهل الصدقة، والأكرم له أن يطلب الإقالة من البيع، ويُندب البائع إلى قبولها لما رواه أبو داوود (3460) بسند صحيح حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ ، حَدَّثَنَا حَفْصٌ ، عَنِ الْأَعْمَشِ ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ” مَنْ أَقَالَ مُسْلِمًا أَقَالَهُ اللَّهُ عَثْرَتَهُ “.

(18) ويشير شيخ الإسلام هنا لما رواه مسلم (1072) وغيره من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” إِنَّ هَذِهِ الصَّدَقَاتِ إِنَّمَا هِيَ أَوْسَاخُ النَّاسِ، وَإِنَّهَا لَا تَحِلُّ لِمُحَمَّدٍ، وَلَا لِآلِ مُحَمَّدٍ “ ، ويشهد له قوله تعالى {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ ۖ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ ۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [التوبة : 103] يَتَطَهَّرُونَ بِهَا مِنْ ذُنُوبِهِمْ، ويوضح ذلك حديث صدقة الفطر، كما عند أبي داوود (1609) عن ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : “فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَكَاةَ الْفِطْرِ طُهْرَةً لِلصَّائِمِ مِنَ اللَّغْوِ وَالرَّفَثِ”.

 و روى البخاري في صحيحه (1472) قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا حَكِيمُ، إِنَّ هَذَا الْمَالَ حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ، فَمَنْ أَخَذَهُ بِسَخَاوَةِ نَفْسٍ بُورِكَ لَهُ فِيهِ، وَمَنْ أَخَذَهُ بِإِشْرَافِ نَفْسٍ لَمْ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ، وَكَانَ كَالَّذِي يَأْكُلُ وَلَا يَشْبَعُ، وَالْيَدُ الْعُلْيَا أَخْيَرُ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى».

وعند أحمد في المسند (12134) عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ” إِنَّ الْمَسْأَلَةَ لَا تَحِلُّ إِلَّا لِأَحَدِ ثَلَاثٍ : ذِي دَمٍ مُوجِعٍ ، أَوْ غُرْمٍ مُفْظِعٍ ، أَوْ فَقْرٍ مُدْقِعٍ “.

قال شيخ الإسلام بن تيمية رحمه الله، كما في جامع المسائل – المجموعة الرابعة، نشرة عالم الفوائد، صفحة (358): “السؤال محرَّمٌ إلاّ عند الحاجة إليه، وظاهر مذهب أحمد -رحمه الله- أنه لو وجد ميتةً عند الضرورة ويُمكِنه السؤال جاز له أكلُ الميتةِ، ولو ماتَ ماتَ عاصيًا، ولو ترك السؤالَ فماتَ لم يَمُتْ عاصيًا.

والأحاديث في تحريم السؤال كثيرة جدًّا نحو بضعة عشر حديثًا في الصحاح والسنن، وفي سؤال الناس مفاسدُ الذّلّ والشرك بهم والإيذاء لهم، وفيها ظلم نفسه بالذل لغير الله عزّ وجل، وظلمٌ في حقّ ربّه بالشرك به، وظلمٌ للخلق يسؤالهم أموالَهم. قال النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – لابن عباس: “إذا سالتَ فاسألِ الله، وإذا استعنتَ فاستعنْ بالله””

(19) قوله “وأما إذا باعها إلى أجلٍ معلومٍ لمن ينتفع بها أو يتجر فيها، فجائز” هو إجابة سؤال “فهل يجوز له أن يبيع ما قيمته خمسون درهمًا بمئةٍ إلى أجلٍ معلوم؟”.

وتقييد الجواز “لمن ينتفع بها أو يتجر فيها” احترازاً عن بيع دراهم بدراهم إلى أجل كما تقدم، ويسمى هذا البيع “بيع النسيئة” أو “البيع بالتقسيط”، وهو جائز بالكتاب والسُنة والإجماع، بشروط البيع المعتبرة.

قال ابن المنذر في الإجماع “وأجمعوا على أن من باع معلومًا من السلع، بمعلوم من الثمن، إلى أجل معلوم من شهور العرب أن الدين جائز” ، و من مستند الإجماع من الكتاب قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة: 282] ، ومن السُنة ما رواه الشيخان: البخاري (2068)، ومسلم (1603) من طريق الأعمش، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة رضي الله عنها “أن النبي صلى الله عليه وسلم اشترى طعامًا من يهودي إلى أجل، ورهنه درعًا من حديد.”

(20) الْمُزَايَدَةُ فِي اللُّغَةِ: التَّنَافُسُ فِي زِيَادَةِ ثَمَنِ السِّلْعَةِ الْمَعْرُوضَةِ لِلْبَيْعِ.
وَفِي الاِصْطِلاَحِ هُوَ: أَنْ يُنَادَى عَلَى السِّلْعَةِ وَيَزِيدُ النَّاسُ فِيهَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ حَتَّى تَقِفَ عَلَى آخِرِ زَائِدٍ فِيهَا فَيَأْخُذَهَا. وانظر الموسوعة الفقهية الكويتية (مزايدة).

ودليل مشروعيته ما رواه البخاري (2141): باب بيع المزايدة، وساق حديث جابر رضي الله عنه في بيع المُدبر (وهو قول سيد العبد للعبد أنت حر بعد موتي) وفيه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم “من يشتريه مني” ، و أما نهيه صلى الله عليه وسلم عن السوم على سوم أخيه فمحمله عند الجمهور بعد استقرار الثمن وركون البائع إلى المشتري، وما رُوي بتقييد المزايدة بالغنائم و المواريث فعلى تقدير صحته فهو قد خرج مخرج الغالب، إذ لا معنى مخصوص فيهما.

ولقد تأملتُ كلام شيخ الإسلام لأنظر وجه عدم انضباط بيع المزايدة مع تأجيل الثمن، فلم يظهر لي إلا أن وجه عدم انضباط البيع أن الأجل له حصة من الثمن، فلا ينظبط الثمن إلا باتفاق جميع المزايدين على أجل واحد للثمن، ويزايدون في الثمن بناءً عليه، وهذا قد لا يستقيم إذ أن بعضهم قد يرغب في أجل أقرب وبعضهم في أجل أبعد وقد يرغب بعضهم في نقد الثمن حالاً.

وهناك وجه أخر (بعيد) لعدم انضباط البيع، هو أن تكون المزايدة على الثمن حالأً غير مؤجل، ويلزم البيع على من أجاب بالسعر الأعلى، ثم عند نقد الدراهم يطلب المشتري تأجيل الثمن، فيزيد البائع في الثمن لقاء الدين، فيكون هذا من ربا الديون، لأن لزوم البيع يعني أن الثمن صار ديناً حالاً في ذمة المشتري، فإن طلب التأجيل واشترط البائع الزيادة فهي ربا والله أعلم.

(21) الْمُرَابَحَةُ فِي اللُّغَةِ: تَحْقِيقُ الرِّبْحِ، يُقَال: بِعْتُ الْمَتَاعَ مُرَابَحَةً، أَوِ اشْتَرَيْتُهُ مُرَابَحَةً: إِذَا سَمَّيْتَ لِكُل قَدْرٍ مِنَ الثَّمَنِ رِبْحًا. وَفِي الاِصْطِلاَحِ: اخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُ الْفُقَهَاءِ فِي تَعْرِيفِهَا، لَكِنَّهَا مُتَّحِدَةٌ فِي الْمَعْنَى وَالْمَدْلُول، وَهِيَ: نَقْل مَا مَلَكَهُ بِالْعَقْدِ الأَْوَّل، بِالثَّمَنِ الأَْوَّل مَعَ زِيَادَةِ رِبْحٍ. فَالْمُرَابَحَةُ مِنْ بُيُوعِ الأَْمَانَاتِ الَّتِي تَعْتَمِدُ عَلَى الإِْخْبَارِ عَنْ ثَمَنِ السِّلْعَةِ وَتَكْلِفَتِهَا الَّتِي قَامَتْ عَلَى الْبَائِعِ.

وَصُورَتُهَا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: هِيَ أَنْ يُعَرِّفَ صَاحِبُ السِّلْعَةِ الْمُشْتَرِيَ بِكَمِ اشْتَرَاهَا، وَيَأْخُذَ مِنْهُ رِبْحًا إِمَّا عَلَى الْجُمْلَةِ، مِثْل أَنْ يَقُول: اشْتَرَيْتُهَا بِعَشَرَةٍ وَتُرْبِحُنِي دِينَارًا أَوْ دِينَارَيْنِ، وَإِمَّا عَلَى التَّفْصِيل وَهُوَ أَنْ يَقُول: تُرْبِحُنِي دِرْهَمًا لِكُل دِينَارٍ أَوْ نَحْوِهِ، أَيْ إِمَّا بِمِقْدَارٍ مُقَطَّعٍ مُحَدَّدٍ، وَإِمَّا بِنِسْبَةٍ عَشْرِيَّةٍ.

ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى جَوَازِ الْمُرَابَحَةِ وَمَشْرُوعِيَّتِهَا لِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {وَأَحَل اللَّهُ الْبَيْعَ} سورة البقرة (275) وَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} سورة النساء (29)… وانظر الموسوعة الفقهية الكويتية (مرابحة).

ويشترط لصحة المرابحة أَنْ يَكُونَ الثَّمَنُ الأَْوَّل مَعْلُومًا لِلْمُشْتَرِي الثَّانِي، فَإِذَا لَمْ يَعْلَمِ الثَّمَنَ الأَْوَّل فَسَدَ الْعَقْدُ، قال شيخُ الإسلام في مجموع الفتاوى (30/100): ” لَا بُدَّ أَنْ يَسْتَوِيَ عِلْمُ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي فِي الثَّمَنِ”.

و لما كانت النفوس مجبولة على الشُحِ، {وَأُحْضِرَتِ الْأَنفُسُ الشُّحَّ} النساء (128)، وهو الإفراط في الحرص على الشيء، فإن البائع قد يزيد في ثمن السلعة لا من أجل تأجيل الثمن، بل من أجل ما يراه من اضطرار المشتري للحصول على السلعة، فيزيد البائع في ثمن السلعة ويربح عليه فيها أكثر مما يربح في العادة على غير المُضطر، وذلك من أكل أموال الناس بالباطل وظلمهم، فاحترز شيخ الإسلام لذلك بما ذكر.


وإلى هنا أضع قلم الشرح والتعليق، راجياً من الله السداد والقبول،وملتمساً ممّن رأى ما لا يحسُن أن يُنبهني، وصل اللهم وسلم على محمد وعلى آله وصحبه والتابعين.

هاني حلمي

دُبي ، الثامن و العشرون من شهر شعبان لسنة 1439 من الهجرة.

فكرة واحدة على ”تعليقةٌ على فتوى في البيع بفائدةٍ إلى أجل

  1. تعقيب: سؤال عن المرابحة للأمر بالشراء وبيع التقسيط والعربون…! | هاني حلمي

أضف تعليق