بيان أباطيل فتاوى دار الإفتاء المصرية الحالية في المعاملات المالية (المقدمة)

بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله،،،

لقد مر عليّ وقتٌ غير قصير وأنا أطالع أبواب المعاملات المالية أتفقهُ فيها بما يسر الله، وأنشر نُتفاً من  فقهها عسى الله أن ينفعني بها و من بلغ، و أثناء ذلك ظن بعض من يُحسنُ فيّ الظن أنني أهلٌ للفتوى، فتلقيتُ سؤالاً من بعد سؤال، و كنتُ في بادئ الأمر أستحي من الجواب، لمعرفتي بنفسي، و أنني لم أتأهل بعدُ لذلك، أو أكاد، وكذلك لعلمي أن أهل العلم بالبيوع و المعاملات المالية متوافرون متكاثرون ولله الحمد والمنة، فمن يعوزه سؤال أمثالي من صغار طلبة العلم! فكنتُ اعتذر عن الجواب أو لا أرد على السائل بالمرة، لينتبه أنني لستُ أهلاً لذلك… ولا أقول ذلك من باب الورع البارد، وطلب التمدح بالتواضع للناس، بل هذه هي حقيقة الحال، و أنا أدرى بنفسي.

ثم منذ ما يقربُ من عامين، ناقشني بعض الأخوة – من التجار المصريين – في بعض مسائل المعاملات التي عرضت لهم، وعرضوا عليّ بعض فتاوى المعاملات التي أجازتها لهم دارُ الإفتاء المصرية، وذلك لأن قلوبهم لم تطمئن لها، فلما نظرت في بعضها كاد قلبي أن يطير!

لقد رأيتُ حينها تهاوناً بمقام الفتوى، وإجمالاً مُخلاً بواجب البيان، وما إلى ذلك من قواعد متوهمة، و أراء فلسفية، و أغلوطات وأباطيل تُنفشُ في عقول المُستفتين… فنبهتُ من سألني على بعضها، إذ لا يسعني حينها السكوت، وليس من شرط المُحتسب أن يعلم كل مسائل العلم، إنما يكفيه أن يعلم حدود ما أنزل الله في المسألة التي يتكلم فيها، والصحيح عند المحققين من أهل العلم أن الاجتهاد يتجزأ، والعلمُ يتبعض، فمن علم شيئاً من العلم بدليله وحجته الرسالية فإنه يعمل به ويدعو الناس إليه، ولا يضره ما جهل من أبواب العلم الأخرى، ولا يضره أنه لا يحمل شهادة كذا وكذا، إنما الحجةُ في الأدلة و دلالتها، ويُستأنس بما عليه جمهور أهل العلم من السلف و الخلف، لأنهم لا يجتمعون على ضلالة، إنما يقع الزلل من أفرادهم، و العلم عند مجموع العلماء.

والمستفتي صاحبُ حاجة، يريدُ منْ يقضي له حاجته، وهو لا يعلمُ الدليل من المدلول، و لا الراجح من المرجوح، إلا ثقةً أن بالدار علماء أجلاء يعلمون الحق ويهدون الناس إليه،… وإن كان هذا هو ظن المستفتي فين استفتاه، بعد بذل وسعه، فهو قد اجتهد في سؤال من يغلب علي ظنه أنه يفتيه بالحكم الشرعي، إذ لا سبيل له لمعرفة الحكم الشرعي إلا بالسؤال، وإن كان ذلك كذلك فلا شيء على المُستفتي فيما أخطأ فيه المفتي، ولا يُكلف الله نفساً إلا وسعها.

و قد روى أبو داوود في السُنن (3657) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: ” مَنْ أُفْتِيَ بِغَيْرِ عِلْمٍ كَانَ إِثْمُهُ عَلَى مَنْ أَفْتَاهُ “ ، و الحديث عند أحمد في المسند (8266)  بلفظ “وَمَنْ أُفْتِيَ بِفُتْيَا غَيْرِ ثَبَتٍ، فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى مَنْ أَفْتَاهُ” ، و هو عند الدارمي (161) ، و أبن ماجة (53)، بأسانيد تُرجح حُسن الحديث من مجموع طرقه، و مما عجبتُ له أثناء النظر في سند هذا الحديث أنه حديثٌ مصري، مسلسل بالرواة المصريين!!، فنحن أولى الناس بالعمل به.

و خلاصة هذه المسألة أن الواجب على المستفتي هو الاجتهاد في تعيين من يغلب على ظنه أنه يفتيه بمراد الشرع، وأن يتجرد من الهوى في هذا الإجتهاد! ويجوز للمستفتي تكرار الاستفتاء إذا وجد في المفتي ما لا يدعوه للثقة بقوله، من غير هوى ولا تتبع للرخص، والله يحول بين المرء وقلبه، ويحرمُ على المستفتي العمل بفتوى مفتى قد عُرف عنه التساهل في الفتوى أو عرف عنه الخطأ في باب بعينه من العلم.

و لقد رأيتُ صنف أخر من المستفتين، يستفتون الدار لأسباب خارجة عن اجتهاد الصنف الأول، أسباب من بابة أنهم هم “الجهة الرسمية” المُخولة بالإفتاء للمصريين، وأنه لا يجوز لهم تجاوز قولهم، وأنه من باب طاعة ولي الأمر، وأن الأزهر ومؤسساته رمز الإسلام الوسطي في عالم مليء بالسلفيين المتشديين، وأن مصر لها قانون تجاري خاص = فلها فتاوى معاملات مالية خاصة، فلا تسري فتاوى علماء الدنيا على مصر (وبخاصة علماء السعودية!!)، وأن الفتوى تتغير بتغير الزمان والمكان، من غير تحقيق لمعنى ذلك وشروطه، وقولهم إن الأزهر تجاوز عمره ألف سنة،… إلى أخر هذه الأباطيل التي لا تغني من الحق شيئاً، فهل يسوغ أن نقول أن هذا المستفتي قد بذل وسعه و استفرغ جهده في البحث عن من يظن أنه سيفتيه بمراد الشرع، أم هي نزعة قومية، وعصبية جاهلية، وفلسفة وأهواء !

* * *

كلامي في هذه المقالات موجه للصنف الأول من المستفتين، الذين يبحثون عن الحق من أي وجه جاء منه، لا يلتفتون لشيء أخر ، إنما ينظرون لأنفسهم و يجتهدون بحسب وسعهم، و أما الصنف الثاني فهُم كالأعمى والأصم، لأنهم لا ينتفعون بأبصارهم ولا آذانهم حق الانتفاع، ولو أقمت لهم ألف دليل على شيء خالفت فيه الدارُ الحقَ = لقالوا لك “أأنت أعلم أم دار الإفتاء؟”، وحينها ينقطع الحوار معهم، لأن رد النزاع قد صار إلى غير الكتاب و السُنة وصحيح دلالاتهما، و قد أزرى ابن القيم رحمه الله على عقول من يقولون بهذا القول وفند الجواب عليهم من تسعة عشر وجهاً في كتابه النفيس “إعلام الموقعين عن رب العالمين”، في فصل سماه عَقْدُ مَجْلِسِ مُنَاظَرَةٍ بَيْنَ مُقَلِّدٍ وَبَيْنَ صَاحِبِ حُجَّةٍ…!

و هؤلاء- الصنف الثاني- يجب أن تهدم لهم هذه المقدمات الفاسدة أولاً، ثم يُعلمّون أن الرجال يُعرفون بموافقة بالحق، لا الحق يُعرف برأي الرجال، و أن عند الخلاف ليس قول أحد على أحد حجة، و إنما الحجة هي ما وافق الكتاب و السنة، وأن المنصب و الشهادة لا يلزم منهما موافقة جميع الحق في كل وقت، وأن أهل الكتاب قد ضلوا و بينهم كتب الله فما أغنت عنهم شيئاً لمّا اتبعوا أهوائهم وقلد الأخر منهم الأول بغير برهان من الله، فالشهرة والمنصب والشهادة لا تعني شيئاً في مقام الاستدلال … وبالجملة يجب إخراج ما لا يصلح أن يكون دليلاً على الحق من تلك المقدمات الفاسدة.

ثم بعد ذلك يُعرض عليهم كتاب الله و سنة رسوله بدلالاتهما و بيانهما على محل النزاع، فإن فهموها وسلموا للحق فبها ونُعمى عين، وإن ماحكوا وجادلوا، فأن أثر المقدمات الفاسدة لا يزال يسري في دمائهم، فلا نُريق ماء العلم بين أيديهم، فإن أرضهم لا تنبت الزرع و لا تُمسك الماء!

ومعاذ اللهُ أن أتعنت و أشدد في مسائل يسوغ الخلاف فيها بين أهل العلم، لتقارب الأدلة أو خفائها، و مادام في الأمر سعة فيسعني ما وسعهم، إنما أنصبُ كلامي على مسائل واضحات لا يسع المفتي اغفالها، أو مسائل منصوصة لا يسع العالم مخالفتها، أو مسائل مغلوطة لا يسع العالم قولها، أو استدلال رديء، أو قواعد مُتوهمة، أو غفلة عن واقع التطبيق، أو تتنزيل للأحكام على واقع مُتوهم.

وكثيراً ما قرأت وسمعت لدار الافتاء الحالية قولهم “لا إنكار فى مسائل الخلاف” و “حكم الحاكم يرفع الخلاف” تسويغاً للسائل لقبول ما يُلقى عليه، وهذا من وضع القواعد في غير موضعها، خاصة إن كان الخلاف مع وجود النص أو الدليل الراجح، وكان حكم الحاكم هو القانون الوضعي!

قال ابن القيم رحمه الله تعالى في “إعلام الموقعين عن رب العالمين”:

وَقَوْلُهُمْ: ” إنَّ مَسَائِلَ الْخِلَافِ لَا إنْكَارَ فِيهَا ” لَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ فَإِنَّ الْإِنْكَارَ إمَّا أَنْ يَتَوَجَّهَ إلَى الْقَوْلِ وَالْفَتْوَى أَوْ الْعَمَلِ، أَمَّا الْأَوَّلُ فَإِذَا كَانَ الْقَوْلُ يُخَالِفُ سُنَّةً أَوْ إجْمَاعًا شَائِعًا وَجَبَ إنْكَارُهُ اتِّفَاقًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَإِنَّ بَيَانَ ضَعْفِهِ وَمُخَالَفَتِهِ لِلدَّلِيلِ إنْكَارُ مِثْلِهِ، وَأَمَّا الْعَمَلُ فَإِذَا كَانَ عَلَى خِلَافِ سُنَّةٍ أَوْ إجْمَاعٍ وَجَبَ إنْكَارُهُ بِحَسَبِ دَرَجَاتِ الْإِنْكَارِ، وَكَيْفَ يَقُولُ فَقِيهٌ لَا إنْكَارَ فِي الْمَسَائِلِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا وَالْفُقَهَاءُ مِنْ سَائِرِ الطَّوَائِفِ قَدْ صَرَّحُوا بِنَقْضِ حُكْمِ الْحَاكِمِ إذَا خَالَفَ كِتَابًا أَوْ سُنَّةً وَإِنْ كَانَ قَدْ وَافَقَ فِيهِ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ؟ وَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْمَسْأَلَةِ سُنَّةٌ وَلَا إجْمَاعٌ وَلِلِاجْتِهَادِ فِيهَا مَسَاغٌ لَمْ تُنْكَرْ عَلَى مَنْ عَمِلَ بِهَا مُجْتَهِدًا أَوْ مُقَلِّدًا.

وَإِنَّمَا دَخَلَ هَذَا اللَّبْسُ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْقَائِلَ يَعْتَقِدُ أَنَّ مَسَائِلَ الْخِلَافِ هِيَ مَسَائِلُ الِاجْتِهَادِ، كَمَا اعْتَقَدَ ذَلِكَ طَوَائِفُ مِنْ النَّاسِ مِمَّنْ لَيْسَ لَهُمْ تَحْقِيقٌ فِي الْعِلْمِ.

وَالصَّوَابُ مَا عَلَيْهِ الْأَئِمَّةُ أَنَّ مَسَائِلَ الِاجْتِهَادِ مَا لَمْ يَكُنْ فِيهَا دَلِيلٌ يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ وُجُوبًا ظَاهِرًا مِثْلَ حَدِيثٍ صَحِيحٍ لَا مُعَارِضَ لَهُ مِنْ جِنْسِهِ فَيُسَوَّغُ فِيهَا – إذَا عُدِمَ فِيهَا الدَّلِيلُ الظَّاهِرُ الَّذِي يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ – الِاجْتِهَادُ لِتَعَارُضِ الْأَدِلَّةِ أَوْ لِخَفَاءِ الْأَدِلَّةِ فِيهَا”

وحتى أقطع الطريق على من يحبُ أن يتوهم، فإنني لا أقصد من كلامي أن أنتقص من شخص بعينه ولا دار فتوى بعينها، ولا أدعي عليهم شيئاً لم تكتبه أيديهم، إنما أضع كلامهم أمامي و أمام القارئ اللبيب، وأبين ما ظهر لي فيه، فإن أصبت فمن الله و إن أخطأت فمن نفسي ومن الشيطان، والله منه بريء، وحسبي الله و نعم الوكيل، وهو وحده من وراء القصد.

«اللَّهُمَّ رَبَّ جَبْرَائِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَإِسْرَافِيلَ، فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ، اهْدِنِي لِمَا اخْتُلِفَ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِكَ؛ إِنَّكَ تَهْدِي مَنْ تَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ»

* * *

4 أفكار على ”بيان أباطيل فتاوى دار الإفتاء المصرية الحالية في المعاملات المالية (المقدمة)

  1. سلام عليكم يااهل الخير مشان الله محتاجين مساعده انسانيه عندي أطفال صغار أربع أطفال محتاجين مساعده انسانيه عندي محتجين اكل وفوط وحليب مشان الله ساعدونا جوزي محبوس وأهلي كلهم بغزه ومالنا موعين غير الله تم انتم بناشدكم بلله تساعدونا مساعده انسانيه

    إعجاب

  2. تعقيب: بيان افتراء دار الإفتاء المصرية الحالية بخصوص الفوائد البنكية…! (2) | هاني حلمي

  3. تعقيب: في الرد على شبهة تحليل فوائد البنوك لتعويض التضخم و انخفاض القيمة الشرائية للجنيه المصري…! | هاني حلمي

أضف تعليق