قال خطيب أهل السُنة ابن قتيبة الدِّينَوري [تُوفي ٢٧٦ هـ] رحمه الله؛ في كتابه [المسائل والأجوبة]:
“سَأَلْتَ عَنْ قَولِ رَسُولِ اللهِ – صلى الله عليه وسلم -: “إِذَا رَأَيتُمُ الْمَدَّاحِينَ فَاحْثُوْا فِي وُجُوْهِهِمْ التُّرَابَ”؟ (هو حديث صحيح، انظر تخريجه بالتعليق بالهامش)
وَهَذَا عِنْدَنَا أُرِيدَ بِهِ الْمَدَّاحُوْنَ بِالْبَاطِلِ كَالرَّجُلِ يَلْقَى الرَّجُلَ، فَيَسْتَنْزلُ مَا عِنْدَهُ بِتَقْدِيمِ مَدْحِهِ وَيَجْعَلُ ذَلِكَ ذَرِيعَةً إِلَى مَا أَمَّلَهُ مِنْهُ كَمَا يَفْعَلُ الشُّعَرَاءُ، فَيَقُوْلُوْنَ: أَنْتَ أَسْرَعُ مِنَ الرِّيحِ؛ وَأَشَدُّ إِقْدَامًا مِنَ السَّيلِ؛ وَأَهْيَبُ مِنَ اللَّيلِ؛ وَأَجْرَأُ مِنَ اللَّيثِ.
وَإِنَّمَا كَرِهَ هَذَا لِأَنَّهُ كَذِبٌ؛ وَلِأَنَّهُ دَاعِيَةٌ إِلَى الْعَجْبِ والْكِبْرِ؛ وَلِذَلِكَ قَالَ عُمَرُ: “الْمَدْحُ هُوَ الذَّبْحُ”، وَلَمْ يُرِدْ بِهِ مَنْ مَدَحَ رَجُلًا بِمَا فِيهِ فَقَدْ مُدِحَ رَسُولُ اللهِ – صلى الله عليه وسلم – فِي الشِّعْر، وَفِي الْخُطَب، وَفِي الْمُخَاطَبَة، فَلَمْ يَحْثُ فِي وَجَوْهِ الْمَدَّاحِينَ التُّرَابَ. وَلا أَمَرَ بِذَلِكَ كَقَوْلِ أَبِي طَالِبٍ فِيهِ:
وَأَبْيَضُ يُسْتَسْقَى الْغَمَامُ بِوَجْهِهِ
ثِمَالُ الْيَتَامَى عِصْمَةٌ لِلْأَرَامِلِ
وَكَقَوْلِ العَبَّاسِ:
مِنْ قَبْلِهَا طِبْتَ فِي الْظِلالِ وَفِي
مُسْتَوْدَعٍ حَيثُ يُخْصَفُ الْوَرَقُ
وَكَمَدْحِ حَسَّانَ بنِ ثَابِتٍ في كَثِيرٍ مِنْ شِعْرِه، وكَعْبِ بْنِ زُهَيرٍ وَهَذَا يَكْثُرُ جِدًّا.
وَكَانَ أَبُوْ بَكْرٍ يَقُوْلُ عِنْدَ الْمِدْحَةِ: “اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا لا يَعْلَمُوْنَ، وَاجْعَلْنِي خَيرًا مِمَّا يَظُنُّونَ”. ولم يَبْلُغْنَا أَنَّهُ وَلا أَنَّ غَيرَهُ حَثَا فِي وَجْهِ مَادحٍ تُرَابًا.
وَقَدْ مَدَحَتِ الأَنْبِيَاءُ أَنْفُسَهَا، فَقَالَ يُوْسُفُ عَلَيهِ السَّلامُ: {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ}. وَقَالَ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم -: “أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ وَلا فَخْرٌ” وَمَدْحُ الرَّجُلِ نَفْسَهُ أَكْثَرُ مِنْ مَدْحِ غَيرِهِ لَهُ. وَإِذَا جَازَ أَنْ يمْدَحَ نَفْسَهُ بِمَا فِيهِ جَازَ أَنْ يَمْدَحَ غَيرَهُ.
وَمَدَحَ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – الأَنْصَارَ، فَقَالَ: “أَنَا وَاللهِ مَا عَلِمْتُكُمْ إِلَّا تَقِلُّوْنَ عِنْدَ الطَّمَع، وَتَكْثُرُوْنَ عِنْدَ الْفَزَعِ”.
وَرَوَى إِبْرَاهِيمُ عَنْ عَبْدِ اللهِ أَنَّهُ قَالَ: “إِذَا أَثْنَيتَ عَلَى الرَّجُلِ بِمَا فِيهِ فِي وَجْهِهِ لَمْ تُزَكِّهِ”.
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ الحُسَينِ: “لا يَقُوْلُ رَجُلٌ فِي رَجُلٍ مِنَ الْخَيرِ مَا لَمْ يَعْلَمْ إِلَّا أَوشَكَ أَنْ يَقُوْلَ فِيهِ مِنَ الشَّرِّ مَا لَمْ يَعْلَمْ”.
وَقَالَ وَهْبٌ: “إِذَا سَمِعْتَ الرَّجُلَ يَقُوْلُ فِيكَ مِنَ الْخَيرِ مَا لَيسَ فِيكَ فَلا تَأْمَنْ أَنْ يَقُوْلَ فِيكَ مِنَ الشَّرِّ مَا لَيسَ فِيكَ”
وَهَذِهِ أَشْيَاءُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَدَّاحِينَ الَّذِينَ أَمَرَ رَسُولُ الله – صلى الله عليه وسلم – بِحَثْوِ التُّرَابَ فِي وُجُوْهِهِمْ هُمُ الْكَذَّابُوْنَ.
وَأَمَّا حَثْوَ التُّرَابِ في وُجُوهِهِمْ فَلَهُ مَعْنَيَانِ:
أَحَدُهُمَا أَنَّهُ أَرَادَ بِذَلِكَ التَّغْلِيظُ عَلَيهِمْ في رَدِّ مَا أَتَوْا بِه، وَلَمْ يُرِدْ إِيقَاعَ الفِعْل، كَمَا قَالَ في شَارِبِ الْخَمْرِ: “وفي الرَّابِعَةِ إِنْ شَرِبَ فاقْتُلُوْهُ” ولم يُرِدُ أَنْ يُقْتَلَ، وَلَكِنْ غَلَّظَ عَلَيهِ لِيَتَنَاهَى النَّاسُ عن ذَلِكَ.
وَكَمَا قَالَ: “مَنْ قَتَلَ عَبْدَهُ قَتَلْنَاهُ” وَلَمْ يُرِدْ بِذَلِكَ إِلَّا تَغْلِيظَ الْوَعِيدِ.
والْمَعْنَى الْآخَرُ أَنْ يُقَالَ لِلْمَادِحِ بِالْبَاطِلِ: بِفِيكَ التُّرَابُ.
والعَرَبُ تَقُوْلُ للْمُتَكَلِّمِ بِالْبَاطِل، وَبِالأَمْرِ الَّذِي يَفْحُشُ، أَو يَقْبُحُ. بِفِيكَ التُّرَابُ، والتُّرَابُ لِفِيكَ، وَبِفِيكَ الْكَثْكَثُ والإِثْلِبُ. قَالَ الشَّاعِرُ:
أَنْكَحْتَ عَبْدَينِ تَرْجُوْ فَضْلَ مَالِهِمَا
بِفِيكَ مِمَّا طَلَبْتَ التُّرْبُ وَالْحَجَرُ
وَنَحْوُ هَذَا قَوْلُ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم -: “الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ” وَلَمْ يُرِدْ أَنَّهُ يُدْفَعُ إِلَيهِ حَجَرٌ، وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنَّهُ لا شَيءَ لَهُ إِلَّا مَا يَهِينُهُ وَلا يَنْفَعُهُ، فَيُقَالُ لَهُ إِذَا طَالَبَ بِالْوَلَدِ: الْحَجَرُ لَكَ. وَمَا أَكْثَرَ مَا يَسْتَعْمِلُ النَّاسُ هَذَا فَيُقَالُ لِمَنْ طَالَبَ بِمَا لا يَجِبُ لَهُ: لَكَ الْحَجَرُ.” انتهى كلام ابن قتيبة رحمه الله.
قلتُ (هاني):
روى مسلم في الصحيح عَنْ أَبِي مَعْمَرٍ قَالَ : قَامَ رَجُلٌ يُثْنِي عَلَى أَمِيرٍ مِنَ الْأُمَرَاءِ، فَجَعَلَ الْمِقْدَادُ يَحْثِي عَلَيْهِ التُّرَابَ، وَقَالَ أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ نَحْثِيَ فِي وُجُوهِ الْمَدَّاحِينَ التُّرَابَ.
والحديث أخرجه أحمد والبخاري في الأدب المفرد ، وأبو داود وابن ماجة والترمذي.
وقد حمل راوي الحديث – المقداد بن الأسود صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم – حثو التراب على ظاهره؛ وكان يحثو التراب في وجه المداحين حقيقة، وعلى ذلك فحثو التراب على ثلاثة معاني، أولها إيراد الفعل حقيقة، ثم ما ذكره ابن قتيبة رحمه الله (التغليظ على المداحين أو يقال له بفيك التراب) كما تقدم.
وقال الخطابي رحمه الله: ” المداحون هم الذين اتخذوا مدح الناس عادة وجعلوه بضاعة يستأكلون به الممدوح ويفتنونه، فأما من مدح الرجل على الفعل الحسن ترغيباً له في أمثاله وتحريضا للناس على الاقتداء به في أشباهه، فليس بمداح” وهذا تقسيم له وجاهة.
والله أعلم،
جزاك الله خير الجزاء
إعجابإعجاب