تاريخ الضرائب والوظائف والمَكوس…!

بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله،،،

في ما يلي سردٌ تاريخي لأخبار الضرائب والوظائف والمكوس المُحصلة من الرعية، منذ زمن الخلفاء الراشدين إلى زمن شيخ الإسلام بن تيمية رحمه الله تعالى في القرن الثامن الهجري، يسرده شيخ الإسلام رحمه الله تعالى، كما في كتاب، “جامع المسائل – المجموعة الخامسة”، تحقيق: محمد عزير شمس، إشراف: الشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد، رحمه الله تعالى، نشرة: دار عالم الفوائد للنشر والتوزيع – مكة،الطبعة: الأولى، 1422 هـ، صفحة 381 ، تحت عنوان ” قاعدة في الأموال السلطانية”.

وفي ما عدا الزكاة التي شرعها الله في كتابه، تعددت مسميات تلك الأموال، واختلفت إطلاقات الفقهاء على مر العصور للدلالة عليها، ومن تلك المسميات: الخراج والعشور والمكوس والوظائف والضرائب والرسوم والجمارك… وهي ألفاظ متقاربة في المعنى عند الإطلاق والاجتماع، ويختص كل منها بمعنى زائد أو مخصوص عند الإفراد.

فالخراج هو ما كان يفرضه ولي الأمر على الخارج من أراضي المسلمين التي بأيدي أهل الذمة مثل خراج خيبر وخراج سواد العراق، وأما العشور فهي ما كان يؤخذ من أموال التجارة من أهل الذمة معاملة بالمثل لما يأخذونه من تجار المسلمين، والمَكس للدلالة على أن هذا المال المُحصل بدون وجه حق، والوظائف للدلالة على الاعتياد و التكرار، والجمارك مختصة بالبضائع المجلوبة دون سائر الأموال، والرسم قد يكون مقابل خدمة من الدولة أو في غير مقابل… وليس هذا موضع تفصيل الفروق بينهم.

وغرضي من إفراد هذا المبحث بالذكر هو كما قال شيخ الإسلام رحمه الله في صدر القاعدة المذكورة أعلاه:

“أحدهما: أن يَعلم المسلمُ بما دلَّ عليه كتابُ الله وسنةُ رسوله وإجماعُ المؤمنين نصًّا واستنباطًا. ويَعلم الواقعَ من ذلك في الولاةِ والرعيَّهِ، ليعلمَ الحق من الباطل، ويعلمَ مراتبَ الحقِّ ومراتبَ الباطلِ، ليستعملَ الحق بحسب الإمكان، ويَدَعَ الباطلَ بحسب الإمكان، ويُرجِّحَ عند التعارضِ أحقَّ الحقَّينِ، ويَدفعَ أبطلَ الباطلَيْنِ.”

والمسلم الذي لا حيلة له إلا دفع هذه الأموال عليه أن يحتسب ذلك عند الله، ويعلم أن الله لا تضيع عنده الحقوق، لعل الله يدفع بها عنه في الدنيا ويجازيه في الأخره ويقتص له ممن ظلمه وأكل ماله بالباطل.

قال شيخ الإسلام قدس الله روحه:

“كان عمر بن الخطاب هو أمير المؤمنين رضي الله عنه، الذي انتشرت الرعيةُ في زمنه، وكثرت الأموالُ، وعدلَ فيها صادقًا بارًّا راشدًا تابعًا للحق، فوضعَ الخراجَ على ما فتحَه عَنْوةً، كأرضِ السوادِ ونحوِها، ووَضع ديوانَ العطاء للمقاتِلة وللذُّزيَّة، وكان عثمان بن حُنَيف على الخراج، وزيد بن ثابت -فيما أظن- على ديوان العطاء.

وما زالت هذه التسميةُ معروفةً: “ديوان الخراج” وهو المستخرَج من الأموالِ السلطانية؛ و”ديوان العطاء” كديوان الجيش وديوان النفقات ونحو ذلك.

ولِوُلاَةِ الأمور من الملوك ودُوَلِهم في ذلك عاداتٌ واصطلاحات، بعضها مشروع، وبعضُها مجتهَد فيه، وبعضُها محرَّم، كما للقضاة والعلماء والمشايخ، منهم من هو من أهل العلم والعدلِ كأهل السنة، فيتبعون النصَّ تارة والاجتهادَ أُخرى؛ ومنهم أهل جهلٍ وظلمٍ كأهل البدع المشهورة من ذوي المقالات والعبادات، وذوي الجهل والجور من القضاة والولاة.

وكانت سيرة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما في غاية الاستقامة والسَّداد، بحيث لم يُمكِن الخوارجَ أن يَطعنوا فيهما فضلاً عن أهل السنة. وأما عثمان وعلي رضي الله عنهما فهما من الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين، وسيرتهما سيرة العلم والعدل والهدى والرشاد والصدق والبر، لكن فيهما نوع مجتهَد فيه، والمجتهِد فيما اجتهد فيه إن أصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر، وخطؤُه مغفور له، فاجتهاد الخلفاءِ أعظمُ وأعظمُ.

وأما عثمان فحصلَ منه اجتهاد في بعضِ قَسْمِ المال والتخصيصِ به، وفي بعض العقوبات هو فيها رضي الله عنه مجتهد، والعلماءُ منهم من يَرى رأيَه، ومنهم من لا يراه. وعلي رضي الله عنه حصل منه اجتهادٌ في محاربة أهل القبلة، والعلماء منهم من يرى رأيَه، ومنهم من لا يراه. وبكل حالٍ فإمامتُهما ثابتة، ومنزلتُهما من الأمة منزلتُهما، لكن أهل البدع الخوارج الذين خرجوا على عثمان وعلى علي جعلوا آراءهم وأهواءَهم حاكمةً على كتاب الله وسنة رسوله وسيرةِ الخلفاءِ الراشدين، فاستحلُّوا بذلك الفتنةَ وسفكَ الدِّماءِ وغيرَ ذلك من المنكرات.

وأما مَن بعد الخلفاء الراشدين فلهم في تفاصيل قبضِ الأموالِ وصَرْفِها طرق متنوعة:

منها ما هو حق منصوص موافق للكتاب والسنة والخلفاء الراشدين.

ومنها ما هو اجتهاد يَسُوغُ بين العلماء، وقد يسقط الوجوب بأعذارٍ، ويباحُ المحظورُ بأسباب، وليس هذا موضع تفصيل ذلك.

ومنها ما هو اجتهاد، لكن صدوره لعدوانٍ من المجتهد وتقصيرٍ منه، شابَ الرأي فيه الهوى، فاجتمعت فيه حسنة وسيئة. وهذا النوع كثير جدًّا.

ومنه ما هو معصية محضة لا شبهة فيه بتركِ واجب أو فعلِ محرَّمٍ.

وهذه الأنواع الأربعة موجودة في عامة تصرفاتهم من الحكم والقَسْم والعقوبات وغير ذلك، إما أن يوافق سنة الخلفاء أو لا يوافق، والذي لا يوافق إما أن يكون معذورًا فيه كعذر العلماء المجتهدين أو لا يكون كذلك، والذي لا يكون معذورًا فيه عذرًا شرعيًّا إما أن يكون فيه شبهة واجتهاد مع التقصير والعدوان أو لا يكون فيه شبهةٌ ولا تأويلٌ.

ولم أعلم أن في الدولة الأموية وصدر الدولة العباسية وظفوا على الناس وظائف تُؤخذ منهم غير الوظائف التي هي مشروعة في الأصل، وإن كان التغيير قد وقع في أنواعِها وصفاتِها ومصارفِها، نعم كان السواد مخارجة عليه الخراج العُمَرِيّ، فلما كان في دولة المنصور -فيما أظن- نقله إلى المقاسمة، وجعل المقاسمة تعدل المخارجة كما فعلَ النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – بخيبر. وهذا من الاجتهادات السائغة.

وأما استئثارُ وُلاةِ الأمور بالأموالِ والمحاباةُ بها فهذا قديم، بل قال – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – للأنصار: “إنكم ستَلْقُون بعدي أثرةً، فاصبروا حتى تَلقَوني على الحوض” (1). وقد أخبر النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – بحالِ الأمراء بعدَه في غيرِ حديثٍ، وكان الخلفاءُ هم المُطَاعِين في أمرِ الحرب والقتال وأمر الخراج والأموال، ولهم عُمَّالٌ ونُوَّاب على الحروب، وعُمَّال ونُوَّاب على الأموال، ويُسمُّون هذه ولاية الحرب وهذه ولاية الخراج.

ووزراؤهم الكبار ينوبون عنهم في الأمرين إلى أثناء الدولة العباسية بعد المئة الثالثة، فإنه ضَعُفَ أمرُ خلافةِ بني العباس وأمرُ وزرائهم بأسبابٍ جَرتْ، وضُيِّعَتْ بعضُ الأموال، وعَصَى عليهم قوم من النوّاب بتفريطٍ جرى في الرجال والأموال. فذكر ثابت بن سنان بن ثابت بن قُرَّة فيما علمتُه من “التاريخ” (2) أنه في سنة أربع وعشرين وثلاث مئة فوَّض الراضي الخليفةُ الإمارةَ ورئاسةَ الجيش وأعمالَ الخراج وتدبيرَ سائرِ المملكة إلى مُقدَّم اسمُه محمد بن رائق، وجعلَه أمير الأمراء، وأمرَ بأن يُخطَب له على سائر منابر المملكة، ولم يكن قبل ذلك شيء من ذلك.

قال: وبَطَلَ قبل ذلك أمرُ الوزارة، فلم يكن الوزير ينظر في شيء من النواحي ولا الدواوين، ولا كان له اسم غيرُ اسمِ الوزارة فقط، وأن يحضرَ في أيام المواكب دار السلطان بسواد وسيف ومنطقةٍ، ويقفَ ساكنًا. وصار ابنُ رائق وكاتبُه ينظرانِ فيما كان الوزراءُ ينظرون فيه، وكذلك كلُّ من تقلَّد الإمارةَ بعد ابن رائق، وصارت أموالُ النواحي تُحمل إلى خزائن الأمراء، فيأمرون فيها ويُنفِقون منها، ويُطلِقون لنفقاتِ السلطان ما يريدون، وبطلت بيوتُ الأموال.

ثم إنه بعد ذلك حدثَتْ دولةُ بني بُويه الأعاجم، وغَلبوا على الخلافة، وازداد الأمرُ عما كان عليه، وبَقُوا قريبًا من مئةِ عام إلى بعد المئة الرابعة بنحو من ثلاثين سنة أو نحوها حدثت دولة السلاجقة الأتراك، وغلبوا على الخلافة أيضًا.

وكان أحيانا تقوى دولةُ بني العباس بحسن تدبير وزرائهم -كما جرى في وزارة ابن هبيرة- بما يفعلونه من العدل واتباع الشريعة،وينهضون به من الجهاد، وكان ملوك النواحي يعطونهم السّكة والخطبة وطاعةً يسيرة تُشبه قبول الشفاعة. فأما الولايات وإمارة الحروب وجباية الأموال وإَنفاقها فكانوا خارجين فيه عن أمر الخلفاء.

وكانت سيرة الملوك تختلف، فمنهم العدل المتبع للشريعة ذو القوة والأمانة، المقيم للجهاد وللعدل، كنور الدين محمود بن زنكي بالشام والجزيرة ومصر؛ ومنهم الملك المسلم المعظِّم لأمرِ الله ورسوله، كصلاح الدين؛ ومنهم غير ذلك أقسام يطول شرحُها.

وهكذا هم في وضع الوظائف، فمن الملوك والوزراء من يُسرِف فيها وضعًا وجبايةً؛ ومنهم من يَستَنُّ بما فُعِل قبله، ويجري على العادة، فيجري هو والذي قبلَه على القسم الرابع؛ ومنهم من يجتهد في ذلك اجتهادًا ملكيًّا يُشبه القسم الثالث؛ ومنهم من يقصد اتباعَ الشريعة وإسقاطَ ما يخالفُهَا، كما فعلَ نور الدين لما أسقطَ الكُلَفَ السلطانية المخالفة للشريعة التي كانت توجد بالشام ومصر والجزيرة، وكانت أموالاً عظيمةً جدًّا، وزاد الله البركات، وفَتحَ البلادَ وقَمعَ العدوَّ بسبب عدلِه وإحسانِه.

ثمَّ هذه الوظائف السلطانية التي ليس لها أصل في سنةِ رسولِ الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – وسنةِ خلفائه الراشدين، ولا ذكرها أهل العلم المصنِّفون للشريعة في كتب الفقه من الحديث والرأي، هي حرام عند المسلمين، حتى ذكر ابن حزم إجماعَ المسلمين على ذلك، فقال (3).

ومع هذا فبعض من وضعَ بعضَها وَضَعه بتأويل واجتهاد علمي ديني، واتفق على ذلك الفتوى والرأي من بعض علماء ذلك الوقت ووُزَرائِه، فإنه لمّا قامت دولة السلاجقة ونصروا الخلافة العباسية، وأعادوا الخليفة القائم إلى بغداد، بعد أن كان أمراءُ مصر من أهل البدع أولئك الروافض قد قهروه وأخرجوه عن بغداد، وأظهروا شعارَ البدع في بلاد الإسلام، وهي التي تُسمَّى فتنة البساسيري في نصف المئة الخامسة= حدثت أمورٌ:

منها: بناء المدارس والخوانق ووقفُ الوقوف عليها، وهي المدارس النظاميات بالعراق وغيره، والرباطات كرباط شيخ الشيوخ وغير ذلك.

ومنها: ذهاب الدولة الأموية من المغرب وانتقال الأمر إلى ملوك الطوائف.

وصنّف أبو المعالي الجويني كتابًا للنظام سماه “غياث الأمَم في التياث الظلم”، وذكر فيه قاعدة في وضع الوظائف عند الحاجة إليها للجهاد، فإن الجهاد بالنفوس والأموال واجب، بل هو من أعظم واجبات الدين، ولا يمكن حصولُ الجهاد إلاّ بأموالٍ تُقَام بها الجيوش، إذْ أكثر النّاسِ لو تُرِكُوا باختيارهم لما جاهدوا لا بأنفسهم ولا بأموالهم، وإن تُرِكَ جمع الأموالِ وتحصيلُها حتى يحدث فتق عظيم من عدوّ أو خارجي كان تفريطًا وتضييعًا. فالرأي أن تُجمعَ الأموالُ ويُرصَدَ للحاجة.

وطريق ذلك أن توظَّف وظائفُ راتبةٌ لا يَحصُل بها ضررٌ، ويَحصُل بها المصلحة المطلوبةُ من إقامة الجهاد. والوظائف الراتبة لابدّ أن تكون على الأمور العادية، فتارةً وظَّفوها على المعاوضات والأملاك، مثل أن يضعوا على البائع والمشتري في الدواب والحبوب والثمار وسائر الأطعمة والثياب مقدارًا، إما على مقدار المبيع وإمّا على مقدار الثمن، ويضعوا على الجعالات والإجارات، ويضعوا على العَقار من جنس الخراج الشرعي، وكان ما وضعوه تارةً يُشبه الزكاة المشروعة من كونه يُوجَد في العام على مقدار؛ وتارةً يُشبِه الخراج الشرعي؛ وتارةً يُشبِه ما يُؤخَذ من تجار أهل الذمة والحرب.

ومنهم من يَعتدي، فيضع على أثمان الخمور ومهور البغايا ونحو ذلك مما أصلُه محرَّم بإجماع المسلمين، ومنهم من يضعٍ على أجور المغاني من الرجال والنساء، فإن الأثمان والأجور تارة تكون حلالاً في نفسِها، وإنما المحرَّم الظلم فيها، كغالب الأثمان والأجور، وتارةً تكون في نفسها حرامًا، كأثمان الخمور ومُهُور البغايا.

وكان بعد موت الملك العادل بالشام قد وضعه ابنه ذلك على دار الخمر والفواحش، فبَقِيَ غيرَ ممنوعٍ من جهة السلطان، لما له عليه من الوظيفة، وكان ذلك سنة خمس عشرة [وست مئة].

وفي ذلك الوقت ظهرت دولة المغل جنكسخان بأرض المشرق، واستولى على أرض الإسلام، وظهرت النصارى بمصر في مملكة الأفرون، وظهرت بدع في العلماء والعُبَّاد، كبحوث ابن الخطيب وجست العميدي  وتصوّف ابن العربي وخِرقة اليونسية وبعض الأحمدية والعَدَوية وغير ذلك.

وحقيقة الأمر في ذلك أن هذا من القسم الثالث أو الرابع، فإن هذا إذا صدر باجتهاد فهو في الأصلِ مشوب بهوىً ومقرون بتقصيرٍ أو عدوان، وإن التقصير أو العدوان صادر أيضًا من أكثر الرعية، فإن كثيرًا منهم أو أكثرهم لو تُرِكوا لما أدَّوا الواجبات التي عليهم، من الزكوات الواجبة والنفقات الواجبة والجهاد الواجب بالأنفس والأموال، كما أنه صادرٌ من كثير من الولاة أو أكثرهم بما يقبضونه من الأموال بغير حق، ويَصرِفونه في غير مَصرِفه، ويتركون أيضًا ما يجب من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

فجمعُ هذه الأموال وصرفُها هي من مسائلِ الفتن، مثل الحروب الواقعة بين الأمراء بآراءٍ وأهواءٍ، وهي مشتملة على طاعاتٍ ومعاصِي وحسناتٍ وسيئاتٍ، وأمور مجتَهد فيها تارةً بهوىً وتارةً بغير هوىً اجتهادًا اعتقاديًّا أو عمليًّا، نظير الطرائق والمذاهب من الاعتقادات والفتاوى والأحكام، وأنواع الزهادات والعبادات والأخلاق، وما في ذلك من مسائل النزاع بين أهل العلم والدين في الأصول والفروع والعبادات والأحوال، فإنها أيضًا مشتملةٌ على حسناتٍ وسيئاتٍ، طاعاتٍ ومعاصي، وأمورٍ مجتهدٍ فيها تارةً بهوىً وتارةً بغير هوىً اجتهادًا اعتقاديًّا أو عمليًّا.

فالواجب أن ما شهد الدليلُ الشرعي بوجوبه أو تحريمه أو إباحتِه عُمِل به، ثم يُعامَل الرجال والأموالُ بما تُوجِبُه الشريعةُ، فيُعفَى عما عَفَتْ عنه، وإن تضمن تركَ واجبٍ أو فعلَ محرَّمٍ، ويثنَى على ما أثنت عليه، وإن كان فيه سيئات ومفاسد مرجوحة.

وهذه المشتبهات في الأقوال والأعمالِ والأموالِ داخلة في الحديث الذي هو أحد مباني الإسلام، حديث النعمان بن بشير المشهور في الصحاح عن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أنه قال: “الحلال بَيِّن والحرام بيِّن، وبين ذلك أمور مشتبهات لا يَعلمهنَّ كثير من الناس، فمن تَرك الشُّبُهاتِ استبرأ لدينه وعِرضِه، ومن وقع في الشبهاتِ وَقَعَ في الحرام، كالراعي يَرعَى حولَ الحِمَى يُوشك أن يَقَع فيه، ألا وإن لكلِّ مَلِكٍ حِمىً، وإن حِمَى الله محارمُه. أَلا وإن في الجسد مُضْغَةً إذا صَلحَتْ صَلَحَ لها سائر الجَسَد، وإذا فَسَدتْ فَسَدَ لها سائر الجسد، ألا وهي القلب”.

فإنه ضمن هذا الحديث الأكل والشرب من الطيبات والعمل الصالح، كما أمر به في قوله: (كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا)، إذ أمر به المرسلين والمؤمنين، كما في حديث أبي هريرة المخرج في صحيح مسلم (وذكر فعل المعروف وترك المنكر الذي هو صلاح القلب والجسد والحلال والحرام، كما قال: (يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ) وذكر أن الشبهات لا يعلمها كثير من الناس، فدلَّ ذلك على أن من الناس من يعلمها، فمن تبيَّنت له الشبهاتُ لم يبقَ في حقِّه شبهةٌ، ومن لم تتبيَّنْ له فهي في حقِّه شبهةٌ، إذ التبيُّن والاشتباه من الأمور النسبية، فقد يكون الشيء متبينًا لشخصٍ مشتبهًا على الآخر.

وبيَّن أن الحَزْمَ تركُ الشبهات، والشبهات قد تكون في المأمور به، وقد تكون في المنهي، فالحزْمُ في ذلك الفعلُ وفي هذا التركُ، فإذا شكَّ في الأمر هل هو واجبٌ أو محرَّمٌ فهنا هو المشكلُ جدًّا، كما في الاعتقادات، فلا يحكم بوجوبه إلاّ بدليل ولا بتحريمه إلا بدليل، فقد لا يكون لا واجبًا ولا محرَّمًا وإن كان اعتقادًا، إذْ ليس كلُّ اعتقادٍ مطلقٍ أوجبَه الله على الخلق، بل الاعتقاد إمّا صواب وإمّا خطأ، وليس كلُّ خطأٍ حرَّمَه الله، بل قد عفا الله عن أشياءَ لم يُوجِبْها ولم يُحرِّمْها. والله أعلم.

(تم بحمد الله تعالى وعونه، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم، في خامس عشر من شعبان المكرم سنة أربع عشرة وثمان مئة، بمدرسة أبي عمر قدَّس الله تعالى روحه ونوَّر ضريحه).


هامش التخريج والتعليقات:

(1) البخاري (3792) من رواية أسيد بن حضير رضي الله عنه، ومسلم (1845) كتاب الإمارة| باب: الأمر بالصبر عند ظلم الولاة.

(2) قال ابن كثير رحمه الله في البداية والنهاية ” ثَابِتُ بْنُ سِنَانٍ لَهُ تَارِيخٌ أَجَادَ فِيهِ وَأَحْسَنَ، وَكَانَ بَلِيغًا مَاهِرًا حَاذِقًا بَالِغًا” (11/97)

قال أحمد بن القاسم بن خليفة بن يونس الخزرجي، موفق الدين، أبو العباس ابن أبي أصيبعة، الطبيب المؤرخ، ولد سنة (596هـ) كان مقامه في دمشق، في كتابه “عيون الأنباء في طبقات الأطباء” عند ترجمة أبو الحسن ثابت بن سنان بن ثابت بن قرة: “… وهذا التاريخ ذكر فيه الوقائع والحوادث التي جرت في زمانه، وذلك من أيام المقتدر باللّه إلى أيام المطيع للّه”

(3) قال ابن حزم رحمه الله في مراتب الإجماع: “وَاتَّفَقُوا أَن المراصد الْمَوْضُوعَة للمغارم على الطّرق وَعند أَبْوَاب المدن وَمَا يُؤْخَذ فِي الاسواق من المكوس على السّلع المجلوبة من الْمَارَّة والتجار ظلم عَظِيم وَحرَام وَفسق، حاشا مَا أَخذ على حكم الزَّكَاة وباسمها من الْمُسلمين من حول إلى حول مِمَّا يتجرون بِهِ، وحاشا مَا يُؤْخَذ من أهل الْحَرْب وَأهل الذِّمَّة مِمَّا يتجرون بِهِ من عشر أَو نصف عشر فانهم اخْتلفُوا فِي كل ذَلِك فَمن مُوجب أَخذ كل ذَلِك وَمن مَانع من أَخذ شَيْء مِنْهُ الا مَا كَانَ فِي عهد صلح أهل الذِّمَّة مَذْكُورا مشترطا عَلَيْهِم فَقَط”

 

 

أضف تعليق