روى البخاري في صحيحه (٢٦٥١) عن عِمْرَانَ بْنَ حُصَيْنٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ:
قَالَ النَّبِيُّ ﷺ : ” خَيْرُكُمْ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ “. قَالَ عِمْرَانُ : لَا أَدْرِي أَذَكَرَ النَّبِيُّ ﷺ بَعْدُ قَرْنَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً. قَالَ النَّبِيُّ ﷺ : ” إِنَّ بَعْدَكُمْ قَوْمًا يَخُونُونَ وَلَا يُؤْتَمَنُونَ، وَيَشْهَدُونَ وَلَا يُسْتَشْهَدُونَ، وَيَنْذِرُونَ وَلَا يَفُونَ،وَيَظْهَرُ فِيهِمُ السِّمَنُ ”
وعند الترمذي رحمه الله ” يَتَسَمَّنُونَ وَيُحِبُّونَ السِّمَنَ”
قال الحافظ بن حجر رحمه الله في فتح الباري:
“قوله: (ويظهر فيهم السِمَن)… أي يحبون التوسع في المآكل والمشارب، وهي أسباب السمن بالتشديد.
قال ابن التين: المراد ذم محبته وتعاطيه لا من تخلق بذلك، وقيل: المراد يظهر فيهم كثرة المال، وقيل المراد أنهم يتسمنون أي يتكثرون بما ليس فيهم ويدعون ما ليس لهم من الشرف، ويحتمل أن يكون جميع ذلك مراداً.
وقد رواه الترمذي من طريق هلال بن يساف عن عمران بن حصين بلفظ : ” ثم يجيء قوم يتسمنون ويحبون السمن ” وهو ظاهر في تعاطي السمن على حقيقته. فهو أولى ما حمل عليه خبر الباب، وإنما كان مذموما لأن السمين غالبا بليد الفهم ثقيل عن العبادة كما هو مشهور.”
وفي شرح مسلم : قالوا : المذموم من السمن ما يستكسب وأما ما هو خِلقة فلا يدخل في هذا.
قلتُ (هاني): السمنة منها ماهو طبيعة وخلقة دون دخل للإنسان فيها، فأصل خلقته أنه سمين، من غير سرف منه ولا مرض يؤدي للسمنة، ولا لكبر السن، فهولاء لا يلحقهم ذم بوجه من الوجوه، وقد يكون في هؤلاء من هو خير من ملئ الارض ممن يعجب الناس أجسامهم، وهم في الحقيقة كما قال حسان بن ثابت رضي الله عنه:
لا عَيبَ بِالقَومِ مِن طولٍ وَلا عِظَمٍ جُسمُ البِغالِ وَأَحلامُ العَصافيرِ
ومن السمنة ما هو مكتسب بالإسراف في الأكل والشرب، وحب البطالة والخمول، فهذا هو المذموم.
والحديث فيه مجموع صفات الشر التي تظهر في هذه الأمة خلافاً للخير الذي كان عليه صدر هذه الأمة، ولا يلزم من الحديث عدم ظهور الشر في أفراد سلف الأمة، ولا يلزم كذلك عدم ظهور الخير في أفراد الخلف، إنما هو إخبار عن مجموع حال هؤلاء ومجموع حال هؤلاء، والعبرة بغلبة الصفات على المجموع، ولا يعني الخبر حال كل فرد من هؤلاء وهؤلاء.
والإخبار عن ظهور السمن، وفي رواية ” فشو السمن”، أي انتشاره، له دلالتان في المعنى، خبرية وحكمية:
الأولى: إخبار النبي ﷺ عن أمر غيبي سيحدث في المستقبل، وهو من المعجزات التي أيده الله عز وجل بها، ففي الخبر دلالة على صدق النبي ﷺ، الصادق المصدوق بأبي هو وأمي، وأن إخباره هو وحي من الله له، فيلزم ذلك تصديقه في كل أمره.
الثانية: أن هذا الخبر يدل على ذم السمن، لأنه جاء في ضمن صفات مذمومة، وأنه ينبغي على المسلم السعي في إصلاح جسده و التداوي إن كان السمن من مرض، ذلك حتى يتجنب الأثار السيئة للسمن مثل الكسل والخمول، وكذلك الأثار الطبية مثل ضعف العظام والمفاصل وإجهاد القلب وزيادة نسب الكوليسترول وخلافه مما دل عليه العلم التجريبي.
والدلالة الحكمية في سياق أخبار الغيب كثيرة في السُنة لمن تأملها، ويستنبط منها العلماء أحكاماً شرعية، مثل حديث صفة الخوارج أن سيماهم التحليق، أي حلق شعر الرأس على الدوام، فاستدل به بعض أهل العلم على كراهة حلق شعر الرأس على الدوام من غير حاجة.
وقد خالف بعض أهل العلم في اعتبار ذلك قاعدة مطرده؛ قال النووي رحمه الله: استدل به بعض الناس على كراهة حلق الرأس ولا دلالة فيه وإنما هو علامة لهم، والعلامة قد تكون بحرام وقد تكون بمباح كما قال صلى الله عليه وسلم: {آيتهم رجل أسود إحدى عضديه مثل ثدي المرأة} ومعلوم أن هذا ليس بحرام.
والذي أراه أن ما ذكره النووي رحمه الله متعقبٌ بالمثال الذي ضربه، فإن علامة الخوارج التي من صفتهم أن فيهم رجل أسود إحدى عضديه مثل ثدي المرأة هي صفة خُلقية غير مكتسبة، فلا يتعدي كونها علامة وخبر، أما التحليق فهو صفة مكتسبة للخوارج وعادة اعتادوها، فيستقيم الحكم بكراهة التشبه بهم من غير حاجة لدوام حلق شعر الرأس، وقلتُ أن المكروه المداومة وجعله كالشعار جمعاً بين الأدلة الدالة على جواز الحلق، والله أعلم.
ومن جهة أخرى؛ فإن العرب تمدح الرجل قليل الجسم قليل الطعام؛ كما في حديث أم زرع المشهور عند البخاري (٥١٨٩) وغيره:
“ابْنُ أَبِي زَرْعٍ فَمَا ابْنُ أَبِي زَرْعٍ، مَضْجَعُهُ كَمَسَلِّ شَطْبَةٍ ، وَيُشْبِعُهُ ذِرَاعُا لْجَفْرَةِ”
قال الخطابي في أعلام السنن ” الشطبة: أصلها ما شطب من جريد النخل وهو سعفه، وذلك أنه يشقق منه قضبان دقاق: وتنسج منه الحصر، فأخبرت المرأة أنه مهفهف ضرب اللحم، شبهته بتلك الشطبة، وهذا مما يمدح به الرجل.
وقولها: وتشبعه ذراع الجفرة، فإن الجفرة الأنثى من أولاد الغنم، والذكر: جفر، والعرب تمدح بقلة الطعم.”
والله الهادي،
هاني