بسم الله الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله،،،
فقه المعاملات المالية – خاصة النوازل المعاصرة – هو من أدق أبواب الفقه الإسلامي، ومسائل المعاملات متشعبة الأصول ضاربة من كل علم من علوم الشريعة بسهم، وغاية فقه المعاملات أن يلقى المسلمُ الله مطعمه حلال ومشربه حلال وغذي بالحلال، خميص البطن من أموال الناس، غير أكلٍ لها بالباطل ولا من غير وجهها الحلال.
وتحرير مسائل المعاملات يحتاج إلى قوتين متلازمتين لا ينفك أحدهما عن الأخر بحال، قوة علمية وقوة دينية، فالقوة العلمية هي القدرة على النظر في النصوص وتحرير مذاهب أهل العلم واستنباط الأحكام، وقوة دينية هي تقوى الله عز وجل، ذلك لارتباط المعاملات بالدرهم والدينار – مع ما يشهده العالم من فساد الذمم والعمل للدنيا – فإن ضعف التقوى هو من أعظم أسباب الشذوذ العلمي والفتاوى الضالة وفقه التمييع والتيسير غير المنضبط.
سمعت الشيخ محمد بن محمد المختار الشنقيطي يقول في درس باب الشركة من شرح زاد المستقنع – 22/204 الشاملة-: ” … وكان الوالد رحمة الله عليه يقول لي: “لن تستطيع أن تعرف فقه العالم إلا في باب المعاملات؛ لأن العبادات الأدلة فيها كثيرة، لكن الإشكال في المعاملات، قال لي: وإشكالُها في ربط الأصول بعضها ببعض”
ومن هؤلاء العلماء الذين أحسبهم على خير وفقه في باب المعاملات وفي غيره، الشيخ العلامة محمد على فركوس، الجزائري، حفظه الله تعالى، ولقد طالعتُ كل فتاويه الخاصة بالمعاملات المالية المنشورة على موقعه على الشبكة العنكبوتيه ، ولخصتُ خلاصتها لنفسي، فقمتُ بترتيب مواضيع الفتاوى تحت اسم واحد جامع لرؤوس المسائل، واقتصرتُ على موضع الجواب من السؤال وحذفتُ السؤال إن كان مضمناً في الإجابة، وإلا نقلتُ السؤال كما هو، وذكرت رقم كل فتوى نقلتُ منها، كذلك قمتُ بتمييز المواضع الهامة باللون الأحمر.
والواجب لمن أراد النقل أو العزو هو الرجوع لهذه الفتاوى في مكانها من موقع الشيخ السالف ذكره، وإنما هذا المنشور هو ترتيب ارتأيته نافعاً لنفسي، فأحببت أن يستفيد منه غيري، فإن جمع النظير إلى نظيره يفيد علماً زائداً، ويثبت المسألة في الذهن، ويوضح الفروق إن وجدت، ورؤوس المسائل كالتالي:
في المسابقات
في الشروط و الخيارات
في تبادل الأصناف الربوية – و ربا النسيئة في البيوع
في التخلص من المال المحرم و في طهارة المال المستخدم في بناء المساجد
التراضي بين خق الله و حق الأدمي
في بيع الوسائل و ما له من أحكام المقاصد، و قاعدة الأغلب، و معاملة صاحب المال الحرام
في حكم بيع المزايدة و ضوابطه – و هو المناقصات التجارية
في نزع الملكية للمصلحة العامة
في حكم بدل الخِلِوِّ مِنْ مستأجرٍ لآخَرَ
في أحكام العملة الورقية
معنى لا يبع بعضكم على بيع بعض ، و مذاهب العلماء في خيار المجلس
في البيع المباح الأصل المحرم للضرر – بغض النظر عن النية
في صورة بيع حاضر لباد المنهي عنها
فتوى جامعة في الرشوة (المصانعة بالمال عند الاضطرار)
في حالات بيع التقسيط – و المرابحة البنكية مع التأمين و عدم نقل الملكية
في حقوق الملكية الفكرية، و التأليف و التسجيل بشقيها الأدبي و المالي
أثار البيع المحرم لذاته و المحرم لغيره – و قاعدة ثبوت الخيار قاضٍ بصحَّة البيع
في تجارة النجاسات
في حكم البيع بثمن المثل (المجهول) عند العقد، و حالاته
في حكم البيع بشرط الإعفاء من الضمان ، و أحكام الرد بالعيب، و ضابط العيب المعتبر
في حكم التورق و العينة
في حكم التعامل مع مَنْ مقبوضُه فاسدٌ
مسألة وحوب قبض المبيع قبل بيعه في المعاوضات، و عدم اشتراط القبض في التبرعات
مسألة العلامة التجارية ذات الشعار الكفري
في مسالة الاحتكار و شموله الطعام و غيره
بطاقة الائتمان القرضية
في بيع الجنسية
في بيان بعض أحكام المضاربة
بيان مكان جواز البيع تبعاً لاتصاله وانفصاله عن المسجد
في شراء الأموال المحجوزة مصادرةً
في مناقشة أدلة المجزين و المانعين لأخذ الأجرة على تعليم القرأن و العلوم الشرعية
في حكم التصوير
في حُكم الضمان الإجتماعي، التأمينات الأجتماعية
حُكم عملِ المحامي
في ضوابط السمسرة
في حكم أخذ الأجرة على الحجامة
في مُوجِبِ التخصيص والتفضيل بين الأولاد في العطيَّة
في تجارة أسهم الشركات التي تتعامل بالربا
في حكم شراء مسكن عن طريق البنك (التعامل بالربا لضرورة السكن)
في حكم قرضٍ مشروطٍ بالتأمين
في حكم الخدمات المصرفية مقابل الاقتراض
في حكم السُّفْتَجة
علمني الله وإياكم العلم النافع ورزقنا العمل الصالح، وجزى الله الشيخ فركوس خيراً ونفعنا بعلومه.
هاني
في المسابقات:
من الفتوى رقم: ٧٨١
فينبغي التفريق بين المسابَقات الدِّينية ذاتِ الجوائز الماليَّة التي يمنحها وُلَاةُ الأمورِ أو جمعيَّاتٌ خيريةٌ أو بعضُ المحسنين، وبين المسابَقات التي تنشرها المؤسَّساتُ الإعلامية؛ فإنَّ الصورة الأولى للمسابَقات منتظِمَةٌ وَفْقَ مقصودِ الشارع مِنْ إعداد العُدَّة الإيمانيَّة: مِنْ حفظ القرآن والسُّنَّة، وتحصيلِ المسائلِ العلميةِ الشرعية، وهي مُلْحَقةٌ بالمسابَقات التي حدَّدَها النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم بقوله: «لَا سَبَقَ إِلَّا فِي خُفٍّ أَوْ حَافِرٍ أوْ نَصْلٍ»، أي: ركوب الخيل والإبل والرماية، وكُلُّ ما فيه إعدادٌ للعُدَّة المادِّيَّة مِنْ وسائل الجهاد في سبيل الله وفي تقوية شوكةِ المسلمين؛ فيصحُّ السَّبَقُ في هذه المسابَقات؛ إذ كِلَا العُدَّتين ـ الإيمانية والمادِّية ـ مِنْ مطالبِ الشرعِ ومقاصدِه؛ لأنها وسائلُ لغايةٍ شرعيَّةٍ، و«الوَسَائِلُ لَهَا حُكْمُ المَقَاصِدِ».
لذلك فالجوائز المُباحة الممنوحة مِنَ المتبرِّعين لمصلحة الفائزين ـ تحقيقًا لهذا المبتغى ـ يجوز الانتفاعُ بها مُطلقًا، سواءٌ في حجٍّ أو عمرةٍ أو غيرِهما مِنْ غير حَرَجٍ.
أمَّا المسابَقات التي تنشرها المؤسَّساتُ الإعلاميَّة: مِنْ جرائدَ وصُحُفٍ ومَجلَّاتٍ ونحوِها، فلا تجوز المشارَكةُ فيها؛ لأنها تتضمَّن المُقامَرةَ والمَيْسِرَ؛ إذ المشارِكُ يدفع مالًا ولو زهيدًا لشراء الوسيلة الإعلاميَّة، في حينِ أنَّ المؤسَّسة الإعلاميَّة تحصل بترويج المسابَقات على زيادةِ كسبٍ وفضلِ دخلٍ متولِّدٍ عنها.
ومِنْ جهةٍ أخرى لا يتحقَّقُ بها مقصودُ الشارع، بل بالعكس تُضادُّه، حيث تتبلور مِنْ خلالِ جريان المسابَقات آثارُ الخلاعة والعري والتبرُّج، ومظاهرُ الفتنة بالترويج للأفلام، ونشرِ المَعازف والموسيقى، وغيرها مِنَ الأخلاق المُنافِية لدِينِنا الحنيف، وإِنْ وُجِدَ السَّليمُ منها فمغمورٌ في وسطٍ فاسدٍ، وكأنَّ إرادةً مفروضةً تعمل ـ بواسطةِ هذه الوسيلةِ الإعلامية ـ لتحطيم القِيَمِ الإسلامية، واستبدالِهَا بدناءةِ قِيَمِ الحضارة الغربية؛ لفصلِ الدِّين عن حياة المجتمع تحت تأثير العلمانيَّة التي يشهدها العالَمُ الإسلاميُّ اليومَ، في غفلةٍ مِنَ المغرورين مِنْ بني جِلْدتنا.
هذا، ولَمَّا كانَتِ «الوَسَائِلُ لَهَا حُكْمُ المَقَاصِدِ» فإنَّ الجوائز المعطاةَ بهذه الكيفيَّةِ لا يجوز الانتفاعُ بها للجهتين السابقتين؛ فمَنْ حَصَل على الجوائز بعد العلم بالمنع والكراهة فالواجبُ عليه أَنْ يتصدَّق بها أو يُنْفِقَ ثمنَها في وجوه البِرِّ؛ ذلك لأنَّ مِنْ شَرْطِ التوبةِ التخلُّصَ مِنَ المال الحرام، غيرَ أنَّ مَنْ حَجَّ بهذا المالِ فإنَّ حَجَّهُ صحيحٌ على أَرْجَحِ قَوْلَيِ العلماء، وتسقط به الفريضةُ، ولا تُشْغَلُ به ذِمَّتُهُ، وهو آثمٌ بفعلِ الحرام؛ لانفكاكِ جهةِ الأمر عن جهة النهي، ولا أَجْرَ له على حَجِّه؛ لقوله تعالى: ﴿وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيۡرَ ٱلزَّادِ ٱلتَّقۡوَىٰ﴾ [البقرة: ١٩٧]، ولقوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «إِنَّ اللهَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا» ؛ أمَّا قبل العلم بتحريمها فلا يَلْحَقُه إثمٌ لكونه معذورًا بالجهل؛ مصداقًا لقوله تعالى: ﴿فَمَن جَآءَهُۥ مَوۡعِظَةٞ مِّن رَّبِّهِۦ فَٱنتَهَىٰ فَلَهُۥ مَا سَلَفَ وَأَمۡرُهُۥٓ إِلَى ٱللَّهِ ﴾ [البقرة: ٢٧٥].
من الفتوى رقم: ١٦: في حكم المشاركة في الألعاب التجارية:
فإنَّ المسابقاتِ والمغالباتِ والألعابَ التنافسية ـ عمومًا ـ إِنْ كانَتْ محرَّمةً لذاتها بأَنْ تؤدِّيَ إلى حدوثِ ضررٍ راجحٍ، أو كانَتْ محرَّمةً لعارضٍ كإثارة العداوة والبغضاء أو الصدِّ عن ذِكْر الله وعن الصلاة؛ فإنَّ بَذْلَ العوض فيها لا يُغيِّر حُكْمَ التحريم باتِّفاقٍ.
أمَّا المسابقاتُ المُباحةُ لعدمِ وجود المَضرَّة الراجحة فيها كالسباق على الأقدام والمصارعة والسباحة ونحوِ ذلك فلا يُشْرَعُ بذلُ العوض مِنَ الطرفين أو الأطراف المُتنافِسة بحيث إِنْ سَبَق أحَدُهم فله المالُ وإِنْ سُبِق فيَغْرَمُ؛ لأنه ضربٌ مِنْ ضروب القمار المحرَّم، وأخذُ العوض فيه أكلٌ للمال بالباطل، ومِنْ جهةٍ أخرى يُشْرَع فيه بذلُ المالِ وأخذُه إذا قُدِّم مِنْ أجنبيٍّ أو إذا قال أحَدُ المُتسابِقَيْن لصاحبه: «إِنْ سبَقْتَني أو غلَبْتَني فتغنم، وإِنْ سَبَقْتُك أو غلَبْتُك فلا تغرم»، أو كان مع المُتسابِقَيْن محلِّلٌ يأخذ المالَ إِنْ سَبَق ولا يغرم إِنْ سُبِق.
أمَّا المكافآتُ على المسابقاتِ المقدَّمةُ لأوائل الفائزين أو الناجحين، المبنيَّةُ على الْتزامِ عوضٍ معلومٍ أو مجهولٍ عَسُرَ علمُه، فإِنْ كان مضمونُها ممَّا يَحِلُّ فيه السِّباقُ كالسِّباق على الإبل والخيل والرمي وما يُشابِهها لوجودِ معنًى شرعيٍّ كإعداد العُدَّة الإيمانية أو تحقيقِ معنًى تربويٍّ يُساعِد على فتحِ مجاري البرِّ وانتشارِ الفضيلة داخِلَ المجتمع؛ فلا مانِعَ مِنَ العوض أَنْ يُؤْخَذَ مِنْ باب الجُعْلِ المشروع، وهو ما يُسمَّى بالوعد بالجائزة أو بالأجر، ويدلُّ عليه ما جاء في السنَّة مِنْ جوازِ أخذِ الأجرة على الرقية بالفاتحة، والحديثُ رواه الجماعةُ إلَّا النَّسائيَّ، مِنْ حديثِ أبي سعيدٍ الخدريِّ رضي الله عنه (انظر الحديثَ المُتَّفَقَ عليه الذي رواه البخاريُّ في «الإجارة» بابُ ما يُعْطى في الرُّقية على أحياء العرب بفاتحة الكتاب (٢٢٧٦)، ومسلمٌ في «السلام» (٢٢٠١))
والعوض الماليُّ لهذه المسابقات ينضبط بما يلي: كُلُّ ما جاز أخذُ العوضِ عليه في الإجارة مِنَ الأعمال جازَ أخذُ العوضِ عليه في الجُعالة، وما لا يجوز أخذُ العوض عليه في الجُعالة لا يجوز أخذُ العوض عليه في الإجارة.
من الفتوى رقم: ٩٣: في ضابط الألعاب الإلكترونية
فاعْلَمْ أنَّ كُلَّ مُباحٍ تَضمَّن تَرْكَ واجبٍ شرعيٍّ ـ كتضييع الصلاة ـ أو عائليٍّ أو مهنيٍّ أو نحوِه، أو صدًّا عن ذِكْر الله أو إثارةً للشحناء والبغضاء، أو اشتمل على الكذب أو الظلم أو الغشِّ أو الكلام الرديء أو الفحش أو صُوَر العري، وغيرها مِنَ المعاني المُنافِيَةِ للأخلاق والآداب، أو صَرَف الشبابَ عن تحقيقِ مَهَمَّاتهم المصلحية النبيلة المُناطة بهم، كتحصيل العلوم والمعارف، والقيامِ بالمَعاش والسعي للاسترزاق ونحوِ ذلك؛ فإنَّه ـ والحالُ هذه ـ تَحْرُم المسابقاتُ فيه واللعبُ.
والألعاب الإلكترونية المُعتمِدةُ على المهارات الذهنية التي تقوِّي المعلوماتِ وتنمِّي الاهتماماتِ إذا خَلَتْ مِنَ المعاني السالفةِ البيان فحكمُها الإباحةُ والجواز؛ إذ ليسَتْ قائمةً على الحظِّ والمصادفة حتَّى تَحْرُم كما هو شأنُ النردشير ولعبِ الورق وغيرهما، غيرَ أنَّه يَحْرُم فيها العوضُ الماليُّ، ولا يُدْفَع فيها المالُ للفائز بسبب فوزه؛ لقوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «لَا سَبَقَ إِلَّا فِي خُفٍّ أَوْ فِي حَافِرٍ أَوْ نَصْلٍ»
هذا، وإذا الْتزم اللاعبون الحدودَ والقيود الشرعية الآنفةَ الذَّكرِ ودفعوا لصاحبِ المحلِّ والآلات مالًا؛ فلا أرى مانعًا مِنْ أخذه؛ لدخوله في باب الإجارات المُباحة.
من الفتوى رقم: ٧٤١: في مسابقات رمضان وحكمِ تخصيصها بالسابع والعشرين منه
فلا مانِعَ مِنَ المسابقات ـ في حدِّ ذاتها ـ على حِفْظِ القرآن الكريم ومعرفةِ معانيه وحفظِ الحديث النبويِّ ودراستِه، والفقهِ الإسلاميِّ وأصولِه، وغيرِها مِنَ العلوم النافعة؛ تقصُّدًا لمعرفة الصواب فيها مِنَ الخطإ في القضايا المطروحة في المسابقات، بل يُرَغَّبُ فيها، حيث تبعث المسابقاتُ العلميةُ في النَّفْسِ الهمَّةَ في البحث والتقصِّي في مسائله؛ نتيجةَ التنافس على الخير الذي تبعث عليه هذه المسابقاتُ، ويجوز ـ أيضًا على أرجحِ قولَيِ العلماء ـ بذلُ العِوَضِ الماليِّ فيها، وهو مذهبُ الحنفيةِ وَوَجْهٌ عند الحنابلة، واختاره ابنُ تيمية وابنُ القيِّم، لأنَّ المُستثنَيات في قوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «لَا سَبَقَ إِلَّا فِي خُفٍّ أَوْ فِي حَافِرٍ أَوْ نَصْلٍ» إنما ذُكِرَ بَذْلُ العِوَضِ منها على سبيل التمثيل لِمَا فيها مِنْ معنى إعداد العُدَّة المادِّية في الجهاد، وهذا المعنى موجودٌ فيما هو أَوْلى منه وهو إعدادُ العُدَّة الإيمانية؛ ذلك لأنَّ الدِّين قِوامُه بالحُجَّة والجهاد؛ فإذا جازَتِ المراهنةُ والمسابقةُ على آلات الجهاد فهي في العلم أَوْلى بالجواز.
أمَّا عقدُ المسابقات القرآنية والعلمية في ليلة السابع والعشرين مِنْ رمضان وتوزيعُ الجوائز فيها على وجه الاحتفال، فلا يُشْرَعُ هذا التخصيصُ لمخالفته لهدي النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، عِلْمًا بأنَّ الاحتفالَ بليلة القدر مِنْ مُحْدَثات الأمور، وكُلُّ مُحْدَثةٍ بدعةٌ، وإنما المشروعُ إحياؤها بقراءة القرآن والصلاةِ والصدقة والدعاء، وغيرِ ذلك مِنْ أنواع العبادات المشروعة فيها؛ فالإكثارُ مِنَ العبادات فيها كسائر العَشر الأواخر؛ لأنه كان صلَّى الله عليه وسلَّم يُوقِظُ أهلَه ويَشُدُّ مِئْزَرَه ويُحيي ليلَه…
في الشروط و الخيارات:
من الفتوى رقم: ٨٩: في الشروط الجائزة في البيع
إذا كان تعدُّدُ العقدِ مِنْ طَرَفٍ واحدٍ جاز، كأَنْ يقولَ له: «بِعْتُك السيَّارةَ وأجَّرْتُك البيتَ بكذا دينارًا»، وإذا كان اللفظُ الفاسدُ لا يُلْتَفَتُ إليه ـ عند الجمهورِ ـ إذا كان معلومًا حلالًا؛ فمِنْ بابٍ أَوْلى إذا كان فاسدًا أو رديئًا أو مَعيبًا.
أمَّا إذا اشترط أحَدُ الطرفين نفعًا معلومًا في البيعِ، سواءٌ كان الاشتراطُ مِنَ البائع كأَنْ يسكنَ الدارَ المَبيعةَ شهرًا، أو مِنَ المشتري كاشتراطِ إيصالِ المبيعِ إلى محلِّ إقامتِه ونحوِ ذلك، إذا كانَتْ تلك المنفعةُ ممَّا يجوز استبقاؤها في مِلْكِ غيرِه؛ فإنَّ البيعَ صحيحٌ مع الشروطِ العائدةِ للبائعِ أوِ المشتري مِنْ مَنَافِعَ معلومةٍ في المبيع، وهو مذهبُ المحقِّقين مِنْ أهل العلم، وبه قال ابنُ تيمية وتلميذُه ابنُ القيِّم وغيرُهما.
إذِ «الأَصْلُ فِي الْعُقُودِ وَالشُّرُوطِ الإِبَاحَةُ وَالْجَوَازُ»، ولا يُصْرَفُ عن هذا الأصلِ لغيرِ دليلٍ شرعيٍّ، والأدلَّةُ تُوافِق هذا الأصلَ ولا تُخالِفه، منها: «المُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ إِلَّا شَرْطًا حَرَّمَ حَلَالًا أَوْ أَحَلَّ حَرَامًا»، وحديثُ جابرٍ رضي الله عنه عند الشيخين في قوله: «…فَاسْتَثْنَيْتُ حُمْلَانَهُ إِلَى أَهْلِي»، وحديثُه أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم نَهَى «عَنِ الثُّنُيَا إِلَّا أَنْ تُعْلَمَ».
وعليه، فإنَّ مِثْلَ هذه الشروطِ التي لا تتضمَّن أيَّ محذورٍ، ولا مفسدةَ فيها مطلقًا، وليسَتْ وسيلةً إلى مفسدةٍ؛ فهي باقيةٌ على الأصل المقرَّرِ في المعاملات.
من الفتوى رقم: ٩٤٥
فالمعلومُ أنَّ كُلَّ شَرْطٍ لا يُخالِفُ حُكْمَه ولا يناقضُ كتابَه فهو لازمٌ بالشرط؛ إذ «الأَصْلُ فِي العُقُودِ وَالشُّرُوطِ الجَوَازُ وَالصِّحَةُ»، وكلُّ شرطٍ خالَفَ حُكم اللهِ وناقَضَ كتابَه فهو باطلٌ، كائنًا مَن كان سواءٌ وَضَعه الحاكمُ أو القاضي أو المفتي أو غيرُهم، لقوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم: «كُلُّ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللهِ فَهُوَ بَاطِلٌ، وَإِنْ كَانَ مِائَةَ شَرْطٍ، كِتَابُ اللهِ أَحَقُّ، وَشَرْطُ اللهِ أَوْثَقُ»، ولقوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم: «المُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ إِلاَّ شَرْطًا حَرَّمَ حَلاَلاً أَوْ أَحَلَّ حَرَامًا».
وعليه، فاشتراطُ البائع ـ بغضِّ النظر عن صفته ـ شرطًا يمنع المشتري مِن أحَدِ حقوق الملكية كحقِّ التصرُّف أو حقِّ الانتفاع كأَنْ يشترط أَنْ لا يبيع المَبِيعَ أو أَنْ لا يَهَبَهُ أو أن يَحُدَّ مِن الانتفاع به، يُعَدُّ شرطًا باطلاً مُنافيًا لمقتضى العقد، فليس للمشترِط أن يُبيحَ ما حَرَّم اللهُ، ولا يُحرِّمَ ما أباحه اللهُ، ولا أَنْ يشترط شرطًا مُخالِفًا لمقتضى العقد، فإِنِ اشترط فشرطُه باطلٌ والبيعُ صحيحٌ.
هذا كُلُّه في ملكية المنقول الذي لا يحتاج إلى توثيقٍ رسميٍّ لانتقال الملكية، أمَّا العقَارُ أو ما في حُكْمِه مِن سيَّاراتٍ ووسائلِ النقل التي تستوجب توثيقًا رسميًّا بالنظر لأهمِّية العقار وخطورته لئلاَّ يتعرَّض للنقض والإبطال مِن غيرِ سببٍ صحيحٍ فليس للمشتري ـ والحال هذه ـ الإقدامُ على شرائها لتَعذُّرِ نقلِ الملكية إليه، وبقائها عند البائع حتَّى تنقضيَ المدَّةُ المفروضة.
من الفتوى رقم: ٩٧٦
فإنِ اشترطه – الشرط الباطل– فوجودُه كعدمه، وحكمُه كمَنِ اشترطوا على عائشةَ رضي الله عنها لَمَّا اشترَتْ منهم بريرةَ رضي الله عنها أَنْ يكون الولاءُ لهم، فقال لها النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم: «ابْتَاعِيهَا وَاشْتَرِطِي لَهُمُ الوَلَاءَ؛ فَإِنَّ الوَلَاءَ لِمَنْ أَعْتَقَ»، أي: اقْبَلي شَرْطَهم وابْتَاعِيها منهم؛ فإنه شرطٌ باطلٌ غيرُ مؤثِّرٍ في مقتضى العقدِ الذي منه: أنَّ الولاء لِمَنْ أَعْتَق، وقد عَلِمَ مُشْتَرِطوه ذلك بعد أَنْ قام النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم فقال: «مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطًا لَيْسَتْ فِي كِتَابِ اللهِ؟ مَنِ اشْتَرَطَ شَرْطًا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللهِ فَلَيْسَ لَهُ وَإِنِ اشْتَرَطَ مِائَةَ شَرْطٍ».
وعليه، فإنَّ مقتضى الأصولِ والنصوصِ: أنَّ الشرطَ لازمٌ إلَّا إذا خالَفَ كتابَ الله، فعندئذٍ يصحُّ العقدُ ويَبْطُلُ الشرطُ.
في تبادل الأصناف الربوية – و ربا النسيئة في البيوع:
من الفتوى رقم: ٩٩ – في حكم بيع الذهب نسيئة
… فإنَّ شراءَ الذهبِ بالفضَّة أو العكس أو بيعَها بالورق النقديِّ يجوز التفاضلُ بينهما على اشتراط التقابض في المجلس الواحد، ويُعَدُّ عدمُ التقابض ـ إذا وَقَع ـ مِنْ رِبَا النسيئة في البيوع؛ ذلك لأنَّ الوصف الجامع بين الذهب والفضَّة والأوراق النقدية هو الثمنية، ومُستنَدُ تجويزِ التفاضل في بيع الذهب والفضَّة مع اشتراطِ اتِّحادِ مجلس العقد هو قولُه صلَّى الله عليه وسلَّم مِنْ حديثِ عبادة بنِ الصامت رضي الله عنه: «… فَإِذَا اخْتَلَفَتْ هَذِهِ الأَصْنَافُ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ إِذَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ»، وقولُه صلَّى الله عليه وسلَّم: «.. وَلَا تَبِيعُوا مِنْهَا غَائِبًا بِنَاجِزٍ»
من الفتوى رقم: ١١٨ – في حكم بيع الفول السوداني بالتمر
فإنَّ بيع الفول السودانيِّ بالتمر وهو غائبٌ لا تجوز هذه المعامَلةُ، لفقدانِ شرط التقابُض في المجلس الواحد وهو مِن ربا النسيئة في البيوع، ودليلُ المنع قولُه صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ، وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ، وَالْبُرُّ بِالْبُرِّ، وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ، وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ، وَالْمِلْحُ بِالْمِلْحِ، مِثْلًا بِمِثْلٍ، سَوَاءً بِسَوَاءٍ، يَدًا بِيَدٍ، فَإِذَا اخْتَلَفَتْ هَذِهِ الْأَصْنَافُ، فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ، إِذَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ» في روايةٍ أخرى: «وَأَمَرَنَا أَنْ نَبِيعَ الْبُرَّ بِالشَّعِيرِ وَالشَّعِيرَ بِالْبُرِّ يَدًا بِيَدٍ كَيْفَ شِئْنَا» مع العلم أنَّ الفول السودانيَّ تَشْمَله علَّةُ الربا مِن ناحيةِ كونه مطعومًا ومكيلًا وهي العلَّةُ المركَّبةُ مِن الطعم والكيل بالنسبة للأصناف الأربعة الواردةِ في حديث عُبادةَ بنِ الصامت رضي الله عنه.
من الفتوى رقم: ٨٣٣ – هل الذهب المصوغ أو الحليّ سلعة أو ثمن؟
فالسؤال الثاني فرعٌ مُترتِّبٌ عن السؤال الأوَّل المتمثِّل في حقيقة الحُلي والسبائك وأواني الذهب والفضَّة، هل هي من سلع عروض التجارة أم رؤوس أثمان يجري فيها حكم الربا؟
فالظاهرُ أنَّ الحلي والسبائكَ وأواني الذهب والفضة المعروضة للبيع لم تسقط عنها جوهريةُ الأثمان مهما تغيَّر شكلُها وصورتُها فهي بمَنْزِلة الدراهم المضروبة، ويدلُّ عليه حديثُ عُبادةَ بنِ الصامت رضي الله عنه مرفوعًا: «الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ، وَالفِضَّةُ بِالفِضَّةِ، وَالبُرُّ بِالبُرُّ وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ، وَالمِلْحُ بِالمِلْحِ، مِثْلاً بِمِثْلٍ، سَوَاءً بِسَوَاءٍ، يَدًا بِيَدٍ، فَإِذَا اخْتَلَفَتْ هَذِهِ الأَصْنَافُ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ إِذَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ» في إطلاقِ الأصناف السَّتَّة في الحديث من غير تقييدٍ يدلُّ على دخول -في كلِّ صنف- جميع أنواعه فهو عمومٌ شامِلٌ للجيِّدِ والرديءِ، والصحيحِ والمكسَّر، والخالِصِ والمغشوش، والمنقوش، والحُلي والتِّبْرِ، وقد نقل النوويُّ الإجماع على هذا («شرح صحيح مسلم» للنووي: (١١/ ١٠). قال ابن حجر في الفتح: (٤/ ٣٧٨): «والذهب يطلق على جميع أنواعه المضروبة وغيرها، والورق الفضة… والمراد هنا جميع أنواع الفضة مضروبة وغير مضروبة».
قلت: ولا يعلم من فرَّق بين أنواع الذهب والفضَّة -في حدود علمي- من جهة جريان أحكام الرِّبا فيها إلاَّ شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم رحمهما الله تعالى وقد سُبِقُوا بالإجماع المنقول عن ابن عبد البَرِّ والنووي، قال ابن حجر في «فتح الباري»: (٤/ ٣٨٠): «ونقل النووي تبعًا لغيره في ذلك الإجماع».)
ثمَّ إنَّ التفاضُلَ في الصفات سواء كان أثرًا لفعل الآدميِّ أو لم يكن لا اعتبار له في تجويز الزيادة والأجل لتبعية ربا النسيئة لربا الفضل فَكُلُّ مَا حَرُمَ فِيهِ التَّفَاضُلُ حَرُمَ فِيهِ النَّسَاءُ، فلو قوبل بها لجاز بيع الجيِّد من الذهب أو الفضَّة بالرديء منها، فلما أبطله الشرعُ دلَّ على مَنْعِ مقابلة الصفات بالزيادة فلا يتغيَّر حُكمُها بتغيُّرِ الصفة ولا الصنعة، ويدلُّ عليه حديثُ فَضَالة بن عُبيدِ رضي الله عنه قال: أُتِيَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم، وَهُوَ بِخَيْبَرَ، بِقِلاَدَةٍ فِيهَا خَرَزٌ وَذَهَبٌ -وَهِيَ مِنَ المَغَانِمِ- تُبَاعُ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللهِ بِالذَّهَبِ الَّذِي فِي القِلاَدَةِ فَنُزِعَ وَحْدَهُ. ثُمَّ قَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم: «الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ وَزْنًا بِوَزْنٍ» ولا يخفى أنَّ القِلادة من الحُلي وليست نقودًا مع ذلك أوجب النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم التماثلَ في الذَّهَب، فلو كان للصياغة اعتبارٌ لَمَا أبطلَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم عملَ الصائغ في القلادة.
ثمَّ إنَّه من جهةٍ أخرى لولا أنَّ صفةَ جوهريةِ الأثمان لا تفارقها لما حُرِّمَ اتخاذُها للاستعمال والزينة؛ ولأنَّ اتخاذ أواني الذهب والفضَّة يجب فيها الزكاة إن بلغ نِصابًا وكذلك ما اتخذته المرأةُ حُليَّا ليس لها اتخاذه كحلية السيف، أو ما ادخرته من سبائك وحلي لا على وجه الاقتناء فإن فيه الزكاة إجماعًا، أو كان حليَّا مباحًا على الأصحِّ من أقوال أهل العلم، فمتى بلغ مقدار المملوك منهما نصابًا، وحال عليه الحول، وكان مفرغًا عن الدَّين، والحاجات الأصلية وجب فيه الزكاة سواء أكانَا نقودًا أم سبائك أم تِبْرًا، لقوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ [التوبة: ٣٤] فدلَّ ذلك على أنَّ السبائك والأواني لا يُخرجها شكلُها وصورتُها عن جوهرية الأثمان التي تتَّصف بها الدنانير والدراهم المضروبة ولو كانت معروضة للبيع، ولذلك لا يجوز السَّلَمُ في السبائك والأواني والحلي بالدراهم والدنانير –على الأصحِّ- لأنَّ من شرط المُسْلَمْ فيه أن يكون مؤجَّلاً، وهذا الشرط ينافي شرطَ التقابض في المجلس الواحد في المسائل الربوية. وكذلك عقد الاستصناع سواء مَن جعله نوعًا من السلم وهم من عَدَا الأحناف أو ممَّن اعتبره بيعًا وهم الأحناف فإنَّ أحكام الرِّبا يجب مراعاتها بين الشيء المصنوع والثمن المقابل له.
هذا، ولو اعترض -على ما تقرَّر ذِكْرُهُ- من أنه يجوز الاستصناع في الذهب والفضَّة استدلالاً بفعله صَلَّى الله عليه وآله وسَلَّم من أنه: «اسْتَصْنَعَ خَاتَمًا مِنْ ذَهَبٍ ثُمَّ أَلْقَاهُ، وَاتَّخَذَ خَاتَمًا مِنْ فِضَّةٍ وَتَبِعَهُ الصَّحَابَةُ رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِمْ وَفَعَلُوا مَا فَعَلَ» فجوابه من جهتين:
الأولى: إنه يحتمل أن يكون حكم الإباحة بفعله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم كان قائمًا في جواز الاستصناع في حلي الذهب والفِضَّة قبل نزول آيات تحريم الرِّبا التي كانت من آخر الآيات التي نزل بها القرآن.
الثانية: إنَّ عقد الاستصناع –خلافًا لعقد السلم- لا يجب فيه تعجيل الثمن، بل يجوز تعجيله وتأخيره إلى وقت القبض أو بعد القبض كما يجوز فيه التقسيط فيحتمل أنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم أخَّر الثمن إلى وقت القبض، وأجرى التقابض بين الثمن والمثمن في مجلس واحد، فانتفت فيه صورة الرِّبا المنهي عنها، إذ لا لزوم لعقد الاستصناع إلاَّ بعد تحضير المصنوع على الصفة المشروطة.
والاحتمال الأخير أقرب الوجهين لدفع التعارض بين أقواله وأفعاله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم إذ الواجب درء التعارض بين أدلة الشرع ما أمكن وقد قال عليه الصلاة والسلام: «إِنَّ القُرْآنَ لَمْ يَنْزِلْ يُكَذِّبُ بَعْضُهُ بَعْضًا، بَلْ يُصَدِّقُ بَعْضُهُ بَعْضًا، فَمَا عَرَفْتُمْ مِنْهُ فَاعْمَلُوا بِهِ، وَمَا جَهِلْتُمْ مِنْهُ فَرُدُّوهُ إِلَى عَالِمِهِ».
وعليه، فإن تغير التِّبْرِ والفضَّة وانقلابهما إلى عروض التجارة أو أثمان قيم فإنَّ الرِّبا يجري فيهما ما دام كلٌّ منهما يتَّصف بجوهرية الأثمان أو رؤوس الأثمان ولا يَرِدُ حكم المنع إلاَّ بشرطه فيوجد الحكم كُلَّمَا وُجدت العِلة المتمثِّلة في النقدية أو الثمنية وينتفي بانتفائها على مسلك الطرد والعكس.
من الفتوى رقم: ٦٥٣ – فيها خلاصة شروط تبادل الأصناف الربوية و أنواع الربا
وإنما يُشْترَطُ التماثلُ والمُساواةُ مع حصول التقابضِ في مجلسِ العقدِ في الأصناف السِّتَّةِ المذكورةِ في حديث عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رضي الله عنه وما شاركَهَا في العِلَّةِ، في قولِه صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم: «الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ، وَالفِضَّةُ بِالفِضَّةِ، وَالبُرُّ بِالبُرِّ، وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ، وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ، وَالمِلْحُ بِالمِلْحِ، مِثْلاً بِمِثْلٍ، سَوَاءً بِسَوَاءٍ، يَدًا بِيَدٍ، فَإِذَا اخْتَلَفَتْ هَذِهِ الأَصْنَافُ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ إِذَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ».
والعلَّةُ في تحريم الرِّبا في النقدين: الثمنيةُ، فَيُلْحَقُ بالذَّهَب والفضَّةِ كُلُّ ما جُعِلَ أثمانًا كالأوراق النقدية، والعلَّةُ في بقيَّة الأصناف الأخرى (البُرُّ، والشعير، والتمر، والملح) هي الكيل والوزن مع الطَّعْمِ، فيُلْحَقُ بها كُلُّ ما جُعِل مَكيلاً أو مَوزونًا مطعومًا.
وعليه تَتَبَيَّنُ صورةُ رِبَا الفضل ورِبَا النسيئة فيما يأتي:
ـ إذا بِيعَ نَقْدٌ بِجِنسه كذهبٍ بذهبٍ، أو فضَّةٍ بفضَّةٍ أو وَرَقٍ نقديٍّ بمثله (كدولارٍ بدولارٍ مثلِهِ، أو دينارٍ جزائريٍّ بمثلِهِ، أو بِيعَتْ عينٌ بجنسها مِن بُرٍّ بمثله، وشعيرٍ بشعيرٍ، وجَبَتِ المساواةُ في المقدار مع اتِّحاد المجلس ـ أي: التقابض في مجلسٍ واحدٍ ـ، فإن حَصَل التفاضُلُ ولم تتحقَّقِ المساواةُ فهو رِبَا الفضل، وإِنْ لم يتمَّ التقابضُ في مجلسٍ واحدٍ فهو رِبَا النسيئةِ في البيوع.
ـ إذا بِيعَ نقدٌ بنقدٍ بغيرِ جِنْسِه مع اشتراكهما في العِلَّة كذهبٍ بفضَّةٍ، أو دولارٍ بدينارٍ جزائريٍّ مثلاً، أو يَنٍّ يابانيٍّ بدولارٍ، أو بِيعَ بُرٌّ بشعيرٍ، أو شعيرٌ بِبُرٍّ؛ فإنه يجوز التفاضلُ بينهما في المقدار، ولكِنْ يُشْتَرَطُ الحلولُ والتقابضُ في المجلس ولا يجوز فيهما التأجيلُ.
ـ إذا بِيعَ جنسٌ بغيرِ جنسه مع اختلافهما في علَّةِ التحريم كبيعِ ذهبٍ ببرٍّ، أو دولارٍ بشعيرٍ، أو دينارٍ جزائريٍّ بأرزٍ، فإنه يجوز التفاضلُ والتأجيلُ، ولا تُشْتَرَطُ المساواةُ والحلولُ عند اختلاف الجنس والتقدير عند جمهور العلماء لِمَا عُلِمَ مِن حديث عائشةَ رضي الله عنها قالت: «اشْتَرَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ يَهُودِيٍّ طَعَامًا بِنَسِيئَةٍ وَأَعْطَاهُ دِرْعًا لَهُ رَهْنًا»، وقد تُوُفِّيَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّمَ وبَقِيَتْ دِرعُهُ مرهونةً عند اليهوديِّ، فإنَّ هذا يخصِّص عمومَ ما أفاده حديثُ عُبادةَ بنِ الصامت رضي الله عنه في قوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم: «فَإِذَا اخْتَلَفَتْ هَذِهِ الأَصْنَافُ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ إِذَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ».
هذا، وإذا دَفَعَ المشتري الثمنَ مُقدَّمًا مع تأجيل تسليم البضاعة، وكان البَدَلاَنِ ممَّا يصحُّ فيهما التأخيرُ والنَّسَاء، فإنه يصحُّ هذا البيعُ ويدخل في بيع السَّلَم أو السَّلَف، فهو عقدٌ مَوْصوفٌ في الذِمَّة بِبَدَلٍ يُعْطَى عاجلاً، أي: بيعٌ عُجِّلَ ثَمَنُهُ وأُجِّل مُثْمَنُهُ.
في التخلص من المال المحرم و في طهارة المال المستخدم في بناء المساجد
من الفتوى رقم: ٩٤ – في بيع جلود الأضاحي
فينبغي أَنْ تُسْتَصْحَبَ طهارةُ المساجد في التعمير والبناء، وهي إحدى الطهارتين أُخْتُ الطهارةِ الإيمانية، بل هي وليدةٌ عنها.
من الفتوى رقم: ٨٢٥ –في حكم توزيع إنتاجٍ علميٍّ دعويٍّ بأموالٍ محرَّمةٍ
فالواجبُ على المسلم إذا أراد التخلُّصَ مِنَ المال الحرام إذا يَئِسَ مِنْ معرفة صاحِبِه أَنْ يَصْرِفَه على مصالح المسلمين أو على الفقراء والمساكين وَفْقَ ما يراه مُلائمًا ومُناسبًا، وله أَنْ يُقَدِّرَ الأنسبَ بحَسَبِ ما تَيَسَّرَ له، فإِنْ رأى أنه يصرفه على مصالح المسلمين أو إلى جهةٍ خيريةٍ تعمل على تحقيقِ مشروعٍ خيريٍّ عامٍّ غيرِ محصورٍ بفردٍ أو جماعةٍ معيَّنةٍ؛ جاز له ذلك كبناء مستشفًى أو بيتٍ للأيتام، أو يُصْرَف في بيوت الوضوء والخلاء في المساجد إِنْ كانَتْ مُنْفصِلةً عنها، ونحوِ ذلك ممَّا يحقِّق مصلحةً عامَّةً، أو رأى الأنسبَ أَنْ تُصْرَف للفقراء والمساكين لإخراجِ ما بيده مِنْ مالٍ حرامٍ، فيدفعه إليهم ليسدُّوا به حاجتَهم؛ فإنه يجوز له ذلك.
أمَّا توزيع المال الحرام على شكل أشرطةٍ ورسائلَ دعويةٍ فليس بِمَصْرِفٍ صحيحٍ للمال المحرَّم مِنْ جهتين:
الأولى: أنه لا ينتفع به المسلمون عامَّةً، وإنما هو محصورٌ في أفرادٍ معدودين لا على وجه العموم.
والجهة الثانية: أنَّ شأن الأشرطة القرآنية والوعظية والعلمية والرسائل الدعوية كشأن المسجد وعمارته: لا ينبغي أَنْ يكون المالُ الخبيث موضعَ إكرامٍ لها؛ لأنَّ «اللهَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا».
ولا يقاسُ على إعطاء المال المحرَّم للفقير؛ لأنَّ الله تعالى أَذِنَ له أَنْ يأخذ هذا المالَ حتَّى لا يبقى بغير مالكٍ؛ لكنَّه لم يأذن بالانتفاع بالمال المحرَّم في بناء المسجد أو عمارته، سواءٌ كانَتْ عمارةَ بُنيانٍ أو عمارةَ إيمانٍ على أصحِّ قَوْلَيِ العلماء.
التراضي بين خق الله و حق الأدمي
من الفتوى رقم: ٩٩ – في حكم بيع الذهب نسيئة
ثمَّ اعْلَمْ ـ وفَّقك الله ـ أنَّ حقَّ الله تعالى لا مَدْخَلَ للتراضي فيه أي: لا يكفي لجوازه رِضَا الآدميِّ؛ فرِضاهُ غيرُ مُعتبَرٍ فيه أصلًا، كالربا والزنا والمقامرة ونحوِها، وإنما الذي يقبل الصلحَ والإسقاطَ والمعاوضة عليها هو حقُّ الآدميِّ؛ فرِضاهُ مُعتبَرٌ في الجواز.
في بيع الوسائل و ما له من أحكام المقاصد، و قاعدة الأغلب، و معاملة صاحب المال الحرام
من الفتوى رقم: ١٠١ – في حكم بيع أدوات الحلاقة
أدواتُ الحلاقةِ ووسائلُها لها حكمُ مقاصدِها، فإذا استُعْمِلَتْ في معصيةٍ كحلق اللِّحى والوجهِ وما يُمْنَع مِنَ الجسد أخذُه، وكذلك المُثْلة بشعر الرأس والقزع وغيرها فإنَّ الحكم هو منعُ بيعِها وحرمةُ ثمنها لِمَا فيه مِنَ الإعانة على المعصية لقوله تعالى: ﴿وَلَا تَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلۡإِثۡمِ وَٱلۡعُدۡوَٰنِ﴾ [المائدة: ٢].
أمَّا إذا استُعْمِلَتْ في المواضع المُباحة على الوجه المطلوب والمشروع صحَّ البيعُ والثمنُ لِمَا فيه مِنَ التعاون على البِرِّ والتقوى.
غيرَ أنَّه لمَّا كان غالبُ استعمالِ الناس لهذه الأدواتِ على الوجه غيرِ الشرعيِّ كان حريًّا بالمسلم اتِّقاءُ المعصيةِ وتجنُّبُ الوقوعِ في الحرام؛ لأنَّ «مُعْظَمَ الشَّيْءِ يَقُومُ مَقَامَ كُلِّهِ» على ما تقرَّر في القواعد العامَّة.
هذا، ويجوز ـ في كُلِّ الأحوال ـ معاملةُ مَنْ عُلِم مِنْ حالِه على وجه التعيينِ استعمالُهَا بما لا يتنافى مع تعاليم الشريعة.
من الفتوى رقم: ٢٨١ – في بيع جهاز سكانر
فإنَّ جهاز «سكانير» يُعَدُّ وسيلةً لغايةٍ يتقصَّدها به مُستخدِمُه، فيختلف حكمُه باختلاف المقصد مِنِ استعماله، وكذلك القول في سائر الأجهزة والأدوات والوسائل، فإِنْ علم البائع أنَّ الجهة المُشتغِلة به تستخدمه على وجه الباطل والظلم كالبنوك الربوية، ومختلف المؤسَّسات الضريبية المُعتدِية على أموال الناس، أو مَنْ يستعملها للتزوير أو الغشِّ، وما إلى ذلك مِنْ وجوه التعدِّي والإثم؛ فإنَّ العلم بالمقصد الفاسد يستوجِبُ حرمةَ الإعانة على الوسيلة إليه؛ لأنَّ «الوَسَائِلَ لَهَا حُكْمُ المَقَاصِدِ»، و«إِدَارَةَ الأُمُورِ فِي الأَحْكَامِ عَلَى قَصْدِهَا» كما هو مقرَّرٌ في القواعد، والتعاون الأخويُّ مبنيٌّ على البرِّ والتقوى كما قال تعالى: ﴿وَتَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلۡبِرِّ وَٱلتَّقۡوَىٰۖ وَلَا تَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلۡإِثۡمِ وَٱلۡعُدۡوَٰنِ﴾ [المائدة: ٢].
أمَّا إذا تعدَّدَتْ وجوهُ استعماله ولم يُعْلَم قصدُ المُستخدِمين له، فيُنْظَر في غالب استعمالات الناس له مِنْ حيث الحِلُّ والحرمة؛ لأنَّ اشتراط الغلبة فيه هو ـ في الحقيقة ـ اشتراطٌ للأغلبية العملية فيه؛ لأجلِ اعتباره حاكمًا في الحوادث وما يجري عليه الناسُ؛ فإِنْ كان الأكثرُ استخدامَه في الحِلِّ جاز، وإِنْ كان الأكثرُ استخدامَه في الحرمة مُنِع؛ لأنَّ: «الأَكْثَرَ لَهُ حُكْمُ الكُلِّ»، و«مُعْظَمَ الشَّيْءِ يَقُومُ مَقَامَ كُلِّهِ» على ما تقتضيه قواعدُ الشريعة.
من الفتوى رقم: ١٦٧ – في حكم التجارة بالملابس المحرَّمة والأكل مِنْ مالها
فمِنَ المعلوم أنَّ الاتِّجار في المحرَّمات محرَّمٌ شرعًا، و«كُلُّ مَا حُرِّمَ لِذَاتِهِ حُرِّمَ عَلَى المُسْلِمِ المُتَاجَرَةُ بِهِ وَبَيْعُهُ»، وقد «نَهَى النَّبِيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم عَنْ ثَمَنِ الكَلْبِ وَمَهْرِ البَغِيِّ وَحُلْوَانِ الكَاهِنِ»، والحديثُ دلَّ على تحريمِ ما تأخذه الزانيةُ مُقابِلَ زِنَاها وهو مالٌ حرامٌ يَحْرُمُ أخذُه لحرمةِ وسيلةِ كَسْبِه، ويُلْحَق به المالُ المتحصَّلُ عليه مِنَ الغناء والرقص والمجون والمتاجرةِ بالأعراض والأجساد، ويُلحق بذلك التجارةُ في السِّلَع التي تدعو إلى الفاحشة وإثارةِ الشهوات وهي تُنافي الشرعَ والأخلاق؛ فإنَّ طريقَ هذا الكسبِ محرَّمٌ والتعاونَ عليه فيه إثمٌ وخطيئةٌ؛ لقوله تعالى: ﴿وَتَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلۡبِرِّ وَٱلتَّقۡوَىٰۖ وَلَا تَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلۡإِثۡمِ وَٱلۡعُدۡوَٰنِۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۖ إِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلۡعِقَابِ ٢﴾ [المائدة]، ولقوله تعالى: ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ ٱلۡفَٰحِشَةُ فِي ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَهُمۡ عَذَابٌ أَلِيمٞ فِي ٱلدُّنۡيَا وَٱلۡأٓخِرَةِۚ وَٱللَّهُ يَعۡلَمُ وَأَنتُمۡ لَا تَعۡلَمُونَ ١٩﴾ [النور]، والمالُ المأخوذ مِنْ هذه الأعمالِ محرَّمٌ لشبهِه بما يُؤْخَذ مِنْ مهر البغيِّ الذي يدخل في حكم النهي الذي تضمَّنه الحديثُ.
قال ابنُ تيمية ـ رحمه الله ـ: «والمال المأخوذ على هذا [أي: تعطيل الحدِّ بمالٍ يُؤْخَذ] يُشْبِه ما يُؤْخَذُ مِنْ مهر البغيِّ وحلوان الكاهن وثمنِ الكلب وأجرةِ المتوسِّط في الحرام الذي يُسمَّى القَوَّادَ… ليجمع بين اثنين على فاحشةٍ، وكان حالُه شبيهًا بحالِ عجوز السوء امرأةِ لوطٍ، التي كانَتْ تدلُّ الفُجَّارَ على ضيفه، التي قال اللهُ تعالى فيها: ﴿فَأَنجَيۡنَٰهُ وَأَهۡلَهُۥٓ إِلَّا ٱمۡرَأَتَهُۥ كَانَتۡ مِنَ ٱلۡغَٰبِرِينَ ٨٣﴾ [الأعراف]، وقال تعالى:﴿فَأَسۡرِ بِأَهۡلِكَ بِقِطۡعٖ مِّنَ ٱلَّيۡلِ وَلَا يَلۡتَفِتۡ مِنكُمۡ أَحَدٌ إِلَّا ٱمۡرَأَتَكَۖ إِنَّهُۥ مُصِيبُهَا مَآ أَصَابَهُمۡ﴾ [هود: ٨١]، فعذَّب اللهُ عجوزَ السوء القَوَّادةَ بمثلِ ما عذَّب قومَ السوءِ الذين كانوا يعملون الخبائثَ، وهذا لأنَّ هذا جميعَه أخذُ مالٍ للإعانة على الإثم والعدوان» «مجموع الفتاوى» لابن تيمية (٢٨/ ٣٠٥ ـ ٣٠٦).
هذا، وقد اتَّفق العلماءُ على أنَّ المال المُكتسَب بطريقٍ محظورٍ ـ شرعًا ـ يَحْرُمُ على المسلم تملُّكُه، ولا تجوز مُعامَلتُه فيما عنده مِنْ مالٍ متحصَّلٍ عليه بهذا الطريق، ويَحْرُمُ إجابةُ دعوتِه إلى الطعام، وكذلك يَحْرُم قَبولُ هديَّته؛ لأنَّ العوض المدفوعَ ثمنًا لهذا الطعام ولهذه الهديَّة مالٌ خبيثٌ جاء عن طريقِ كسبٍ محرَّمٍ.
الفتوى رقم: ٩٩٦ – في حكم بيع الملابس الداخلية للنساء
فلا حرجَ في التعاملِ بيعًا بهذه الملابسِ من حيثيتين:
– من حيثُ الملابسُ في ذاتها، فهي ملابسُ داخليةٌ تلِي العورةَ، وموضوعةٌ في الغالبِ لغرضٍ صحيحٍ لا يَطلِّع عليها الناس إلاّ الزوجانِ.
– ومن حيثُ المعاملةُ: فلا مانعَ من أنْ يبيعَ الرجلُ الملابسَ الداخليةَ للنساءِ إذا تقيَّدتِ المعاملةُ بالضوابطِ الشرعيةِ منْ كلا الجانبينِ كانتفاءِ الخلوةِ، والنظرِ المحرَّمِ، وعدمِ اللَّمسِ، وعدمِ المباسطةِ، والخضوعِ في القولِ، والاحتجابِ والتسترِ، وأن يكونَ الكلامُ فصلاً غير مسترسلٍ، وفي حدودِ ما تدعُو الحاجةُ، ونحو ذلكَ من القيودِ والضوابطِ.
والأفضلُ -عندي- أن يمارِسَ الرجلُ نشاطًا تجاريًا آخرَ تجنبًا للفتنةِ وقطعًا للشهوةِ بالنظرِ إلى كثرةِ الفتنِ وانتشارِ الشهواتِ، وزيادةِ الانحرافِ الخلُقِي.
وممَّا يجدرُ التنبيهُ له أنَّه إذَا كانَ يجوزُ بيعُ الملابسِ الداخليةِ للنساءِ فلا يجوزُ عرضُ تلكَ الملابسِ علَى المجسَّمَاتِ النسَائيةِ عَلَى واجهةِ المحلاَّتِ بمرأَى منَ الناسِ.
من الفتوى رقم: ١٠٢٣ – في حكم بيع العطور وأدوات التجميل والزينة (المساحيق)
ولا يخفى أنَّ بيع أدوات الزينة والتجميلِ لمن يَعْلَم استعمالَها في التبرُّج أو في نوع الخروج المنهيِّ عنه لا يجوز لِما فيه من التعاون على الإثم والعدوان، لقوله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «مَا تَرَكْتُ بَعْدِي فِتْنَةً أَضَرَّ عَلَى الرِّجَالِ مِنَ النِّسَاءِ»، ولقوله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «فَاتَّقُوا الدُّنْيَا وَاتَّقُوا النِّسَاءَ فَإِنَّ أَوَّلَ فِتْنَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَتْ فِي النِّسَاءِ».
أمَّا بيع المساحيق لمن يعلم استعمالَها في الزينة والتجميل المباح فلا حرج في بيعه، وأمَّا إذا خَفِي عليه حالُ المشتري فحكمُ الجواز متوقِّفٌ على المظاهر الشائعة في استعمال المساحيق في عُرف بلده، فإن كانت أكثرية أهلِ بلده تستعملها في الزينة المباحة فلا مانع في بيعها، وإن كانت غالبيَّتُهم تستعملها في الرذيلة والفتنة فلا يجوز بيعُها؛ لأنَّ «الحُكْمَ لِلْغاَلبِ،ِ وَالنَّادِرُ لاَ حُكْمَ لَهُ»، و«مُعْظَمُ الشَّيْءِ يَقُومُ مَقَامَ كُلِّهِ»، قال القرافيُّ -رحمه الله-: «الأصل اعتبار الغالب وتقديمُه على النادر، وهو شأن الشريعة، كما يُقَدَّم الغالب في طهارة المياه وعقودِ المسلمين، .. ويُمنع شهادةُ الأعداء والخصوم لأنَّ الغالب منهم الحيفُ وهو كثيرٌ في الشريعة لا يُحصى كثرةً»، والأَوْلى بالبائع -والحالُ هذه- أن يغيِّر نشاطَه التجاريَّ إلى نشاطٍ آخر أسلمَ لدينهِ وعِرضه.
أمَّا إن كانت مظاهر التبرُّج قليلةً غير متفشِّيةٍ، وخَفِيَ عليه الأمر؛ فله أن يبيع هذه الأدواتِ التزيينيةَ حملاً لحال الناس على الصلاح، فإن شكَّ في ظاهر حال المشتري فيمتنِع عن البيع عملاً بقوله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لاَ يَرِيبُكَ»، ولقوله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الحَرَامِ».
هذا، ولا يصحُّ بيعُ هذه المساحيق والعطور المباحة لمن يستعينُ بها على معصية الله تعالى، أو يستخدمها فيما حرَّم اللهُ تعالى ولو مع تقديم النصح له بعدم استعمالها في الرذيلة والهتيكة؛ لأنَّ الأصلَ استصحابُ الحال حتى يُثْبَتَ العكسُ، ولا يخفى أنَّ النصيحة متردِّدةٌ بين القَبول والردِّ، ولا يمكنُ إجراءُ التعامل التجاريِّ الصحيح إلاَّ بعد أن يُثبِت عَكْسَ حاله بقَبول النصيحة والعملِ بمقتضاها.
من الفتوى رقم:٤٨١ – في بيع الأدوات المدرسية لمن يستعملها في المحاذير الشرعية
اعْلَمْ ـ وفَّقك الله للخير ـ أنَّ الوسائل التي تُفْضِي إلى المفسدة حتمًا على وجه القطع لا خلافَ بين أهل العلم في اعتبارِ سدِّ الذرائع فيها، كما أنَّ الوسائل التي تُفْضي إلى مفسدةٍ نادرةٍ لا خلافَ في إلغاءِ مبدإ سدِّ الذرائع، لكنَّ الخلاف فيما يؤدِّي إلى مفسدةٍ غالبًا أي: كثيرًا أو مع التساوي فيه، والتمسُّك بمبدإ سدِّ الذرائع فيها الذي هو مذهبُ مالكٍ وأحمدَ وأكثرِ أصحابهما أَوْلى بالمراعاة والعمل، والأخذُ به لا يخرج عن مُراعاة المصلحة الملائِمةِ في الجملة لمَقاصِدِ الشريعة، غير أنه لا يصحُّ التوسُّعُ فيه مِن غيرِ تحقيق المَناط في حدوث المفسدة الغالبةِ أو المساويةِ لئلَّا يُفْضِيَ إلى المنع ممَّا هو حلالٌ أو إلى حملِ الناس على التهمة.
وعليه، فإنَّ ما ذُكِر في السؤال إِنْ كان يحقِّق مفسدةً غالبةً أو مساوِيةً فينبغي اجتنابُ التعامل به سدًّا لذريعة المحرَّم، واحتياطًا للدين والعِرْض، لقوله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتِبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الحرَامِ»
من الفتوى رقم: ٤٩٠ – في حكم بيع أدوات الزينة
لا يلحق المنعُ أدواتِ الزينة مِن حيث ذاتُها، وإنما حكمُها باعتبارِ مآلها، وذلك يختلف باختلاف البلد الذي تجري فيه المُعامَلاتُ المذكورة مِن جهةِ فساد مجتمعه فيه أخلاقيًّا وتربويًّا مِن صلاحه.
فإِنْ كان المجتمعُ في طابعه العام مُنْحَلاًّ أخلاقيًّا تُسْتَعْمَلُ فيه أدواتُ الزينة لإثارة الشهوات فإنَّه يُمْنَع بيعُها خشيةَ ترويج الفتنة وإشاعتها عملاً بمبدإ سدِّ الذرائع لقوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ﴾ [النور: ١٩]، ولقوله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «مَا تَرَكْتُ بَعْدِي فِتْنَةً أَضَرَّ عَلَى الرِّجَالِ مِنَ النِّسَاءِ»(١)، ولقوله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «…فَاتَّقُوا الدُّنْيَا وَاتَّقُوا النِّسَاءَ، فَإِنَّ أَوَّلَ فِتْنَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَتْ فِي النِّسَاءِ»(٢)، ومنه يظهر التعاونُ الآثم الذي نهى عنه المولى عزَّ وجلَّ في قوله تعالى: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾ [المائدة: ٢]، بخلاف ما لو كان المجتمعُ في مُجْمَله صالحًا، والنساءُ ماكثاتٍ في البيوت لا يخرجن إلاَّ للحاجة الشرعية وبالضوابط الشرعية فإنَّ بيع مثلِ هذه الأدواتِ جائزٌ واقتناءَها مثلُه في الجواز لانتفاء ظهور الفتنة والبعد عن الإثارة.
من الفتوى رقم: ١١ – في حكم العمل بشركات الطيران مع وجود بعض المنكرات
فاعْلَمْ أنَّ المسلمَ ـ ما دام قادرًا على أداءِ واجباتِه وتحمُّلِ تَبِعاتِ عملِه ـ يجوز له أَنْ يَكْسِبَ رِزْقَه عن طريقِ الوظيفةِ التي أُسْنِدَتْ إليه أو العملِ الذي أُوكِلَ إليه إذا كان أهلًا له، شريطةَ أَنْ لا تتضمَّنَ الوظيفةُ أو العملُ ضررًا على المسلمين أو ظلمًا كالعملِ الربويِّ، أو حرامًا كالعملِ في مَلْهًى يَشتمِلُ على محرَّماتٍ كالرقصِ والرِّهانِ وبيعِ الخمرِ ونحوِ ذلك، سواءٌ باشَرَه العاملُ أو شارَكَ فيه بجهدٍ ماديٍّ أو أدبيٍّ عمليٍّ أو قوليٍّ؛ فإنه يُعتبَرُ مُعينًا على المعصيةِ شريكًا في الإثمِ على ما تَقرَّرَ مِنْ أنَّ: «مَا أَدَّى إِلَى حَرَامٍ فَهُوَ حَرَامٌ»، على أنَّ الإثمَ تختلف درجاتُه بين الجميعِ باختلافِ قَدْرِ مشاركتهم؛ ولذلك لمَّا حرَّم الشرعُ الزِّنَا حرَّم كُلَّ ما يُفْضي إليه مِنْ وسائلَ وَسَدَّ الذرائعَ والمقدِّماتِ والدواعِيَ المُوصِلةَ إليه مِنْ صُوَرٍ خليعةٍ، وتبرُّجٍ جاهليٍّ، واختلاطٍ مذمومٍ، وخلوةٍ غيرِ آمنةٍ وآثمةٍ، وغناءٍ فاحشٍ يحرِّك الشهواتِ ونحوِه، وكذلك لَعَنَ النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم المُسْهِمين في أكلِ الرِّبَا مِنْ كاتبِه وشاهدَيْه، والمشارِكين في الرشوةِ مِنَ الراشي والمرتشي والرائشِ، ومِنْ هذا القبيلِ ورَدَتِ اللعنةُ على عاصرِ الخمرِ ومُعتصِرِها وشارِبِها وحامِلِها والمحمولةِ إليه وساقيها وبائعِها وآكلِ ثمنِها والمشتري لها والمشتراةِ له، وكُلُّهم تلحقه اللعنةُ على قَدْرِ مشارَكتِه؛ إذ كُلُّ إعانةٍ على الإثمِ إثمٌ، وقد قال تعالى: ﴿وَتَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلۡبِرِّ وَٱلتَّقۡوَىٰۖ وَلَا تَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلۡإِثۡمِ وَٱلۡعُدۡوَٰنِ﴾ [المائدة: ٢].
هذا، وفيما يظهر لي أنَّ الأصلَ في شركتَيِ النقلِ الجوِّيِّ والبحريِّ عدمُ التحريم بذاتها؛ لأنَّ أصل العمل صحيحٌ، وإنما اعترى الأصلَ بعضُ المحرَّمات، وهذا لا يُبْطِلُ الأصلَ لأنَّ «الْحَرَامَ لَا يُحَرِّمُ الْحَلَالَ» و«الْفَرْعَ لَا يُلْغِي الأَصْلَ»؛ لذلك فمَنِ اشتغل بعيدًا عن أوزارِ الحرامِ في كِلْتَا الشركتين فلا بأسَ به مع عدمِ الرِّضَا عن الوضعِ الكُلِّيِّ؛ لقوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «إِذَا عُمِلَتِ الخَطِيئَةُ فِي الأَرْضِ كَانَ مَنْ شَهِدَهَا فَكَرِهَهَا ـ وَقَالَ مَرَّةً: «أَنْكَرَهَا» ـ كَانَ كَمَنْ غَابَ عَنْهَا، وَمَنْ غَابَ عَنْهَا فَرَضِيَهَا كَانَ كَمَنْ شَهِدَهَا»؛ فعليه أَنْ يُغيِّرَ المُنْكَراتِ والمآثمَ والمحرَّماتِ التي تُفْعَل جهارًا على درجاتِ الإنكار؛ لئلَّا يرتكبَ مِثْلَ الذي ارتكبوه، فضلًا عن هجرةِ أهلِ الفجورِ والعصيان، والابتعادِ عنِ الفَسَقَةِ خشيةَ الميلِ إليهم، إلَّا ما دَعَتِ الضرورةُ أو الحاجةُ إليه؛ عملًا بالآيتين المذكورتين في السؤال، قال القرطبيُّ ـ رحمه الله ـ في قولِه تعالى: ﴿وَلَا تَرۡكَنُوٓاْ إِلَى ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ ٱلنَّارُ﴾ [هود: ١١٣]: «وأنها دالَّةٌ على هجرانِ أهلِ الكفرِ والمعاصي مِنْ أهلِ البِدَعِ وغيرِهم؛ فإنَّ صُحْبَتَهم كفرٌ أو معصيةٌ؛ إذِ الصحبةُ لا تكون إلَّا عن مودَّةٍ، وقد قال حكيمٌ: عَنِ الْمَرْءِ لَا تَسْأَلْ وَسَلْ عَنْ قَرِينِهِ * فَكُلُّ قَرِينٍ بِالْمُقَارَنِ يَقْتَدِي ، وصحبةُ الظالمِ على التقيَّةِ مستثناةٌ مِنَ النهيِ بحالِ الاضطرار».
علمًا أنه إِنْ كان في استطاعته التَّحوُّلُ إلى مؤسَّسةٍ مُباحةٍ أخرى خاليةٍ مِنَ الآثام والمُنْكَراتِ فالانتقالُ إليها أَوْلى؛ تبرئةً لدِينِه وعِرْضه.
من الفتوى رقم: ٨٦ – في حكم العمل في مطبعةٍ تابعةٍ للبنك
فاعْلَمْ ـ وفَّقك اللهُ تعالى وأرشدك إلى طاعته ـ أنَّ تركيبَ النظامِ الاقتصاديِّ الحاليِّ وجهازَه الحاليَّ عمومًا مبنيٌّ على التعامُل بالرِّبا المحرَّم. والبنك المركزيُّ لا يخرج عن هذا الحكم؛ فهو قمَّةُ الجهازِ المَصْرِفيِّ، بمعنَى أنه بنكُ البنوكِ التجارية وأعلاها، وهو ـ وإِنْ كان له وظائفُ متعدِّدةٌ تزيد عن وظائفِ البنوك التجارية: مِنْ إصدار النقود، ومراقَبتِه للبنوك المرخَّصة، والاحتفاظِ باحتياطيِّ البلد مِنَ الذهب والعملات الأجنبية ونحوِ ذلك ـ إلَّا أنَّ البنك المركزيَّ يتَّفِق مع البنوك التجارية في الإقراض والاقتراض بالزيادة الربوية، وكذا الضمان وإصدار السندات بفائدةٍ. والمعلومُ أنَّ الأصل أنَّ كُلَّ عملٍ تَضمَّنَ ضررًا على المسلمين أو ظلمًا أو تحريمًا فلا يجوز مباشَرةُ العملِ فيه ولا المُشارَكةُ فيه بأيِّ جهدٍ مادِّيٍّ أو معنويٍّ عمليٍّ أو قوليٍّ؛ فإنَّ المُعِينَ على المعصية يُعَدُّ شريكًا مُسْهِمًا في الإثم، وكُلُّ وسيلةٍ إلى الحرام تُحَرَّمُ، وهو معنى التقعيد القائل: «مَا أَدَّى إِلَى حَرَامٍ فَهُوَ حَرَامٌ»، والكُلُّ تلحقُه اللعنةُ بقَدْرِ المشارَكةِ في الإثم والذنب؛ لذلك حرَّم الشارعُ مشارَكةَ آكِلِ الرِّبا والإسهامَ معه؛ فقَدْ: «لَعَنَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آكِلَ الرِّبَا وَمُؤْكِلَهُ وَكَاتِبَهُ وَشَاهِدَيْهِ، وَقَالَ: «هُمْ سَوَاءٌ»»، وفي حديثِ ابنِ مسعودٍ رضي الله عنه مرفوعًا: «آكِلُ الرِّبَا وَمُوكِلُهُ وَكَاتِبُهُ وَشَاهِدَاهُ إِذَا عَلِمُوا بِهِ، وَالوَاشِمَةُ وَالمُسْتَوْشِمَةُ لِلْحُسْنِ، وَلَاوِي الصَّدَقَةِ، وَالمُرْتَدُّ أَعْرَابِيًّا بَعْدَ هِجْرَتِهِ: مَلْعُونُونَ عَلَى لِسَانِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ القِيَامَةِ»؛ إذ إنَّ كُلَّ إعانةٍ على الظلمِ ظلمٌ والتعاون على الإثمِ إثمٌ؛ مصداقًا لقوله تعالى: ﴿وَلَا تَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلۡإِثۡمِ وَٱلۡعُدۡوَٰنِ﴾ [المائدة: ٢].
وما كان في حكمِ التابعِ ـ كالمطبعة التابعة للبنك المركزيِّ ـ فهو فرعٌ يُلْحَقُ بالأصل؛ لأنَّ التابعَ تابعٌ لمتبوعِه؛ عملًا بمقتضى القاعدةِ الفقهية: «التَّابِعُ لَا يُفْرَدُ بِالْحُكْمِ مَا لَمْ يَصِرْ مَقْصُودًا».
هذا، ويذهب بعضُ العلماء المُحْدَثِين إلى جواز العمل في البنوك الرِّبوية والمصارف المالية الحالية؛ لأنَّ أعمالَ البنوكِ أقلُّها هو الحرامُ وأغلبُها حلالٌ طيِّبٌ؛ بحجَّةِ أنَّ العدولَ عن ذلك يُلْحِقُ بالإسلام والمسلمين ضررًا ويُفْضي إلى سيطرةِ غيرِ المسلمين عليه؛ الأمرُ الذي تترتَّب عليه عواقبُ وخيمةٌ وبلاءٌ على الأمَّة.
ولا يخفى أنَّ كُلَّ هذا التعليلِ لا يقوى على القول بحِلِّيَّةِ العملِ في البنوك ولواحِقِها وضروريَّاتِها؛ لأنَّ هذا التعليلَ فاسدُ الاعتبار؛ لمُقابَلتِه للإجماع الواردِ في تحريم رِبَا الديون، فهو مِنْ رِبَا نسيئة الجاهلية ـ مِنْ جهةٍ ـ وكذا للنصوص الشرعية المحرِّمة له نحو قوله تعالى: ﴿وَأَحَلَّ ٱللَّهُ ٱلۡبَيۡعَ وَحَرَّمَ ٱلرِّبَوٰاْ﴾ [البقرة: ٢٧٥]، وقولِه تعالى: ﴿يَمۡحَقُ ٱللَّهُ ٱلرِّبَوٰاْ وَيُرۡبِي ٱلصَّدَقَٰتِ﴾ [البقرة: ٢٧٦]، وقولِه تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَأۡكُلُواْ ٱلرِّبَوٰٓاْ أَضۡعَٰفٗا مُّضَٰعَفَةٗ﴾ [آل عمران: ١٣٠]، ومِنْ جهةٍ أخرى فإنَّ البنك المركزيَّ والبنوك التجارية قائمةٌ على أصلٍ محرَّمٍ مُوجِبٍ لحرب الله ورسوله صلَّى الله عليه وسلَّم، وهو: الإقراض والاقتراض والضمانُ وغيرُها، المبنيَّةُ على التعامل الربويِّ، ولواحقُها تابعةٌ لها في الحكم لقوله تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ ٱلرِّبَوٰٓاْ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَ ٢٧٨ فَإِن لَّمۡ تَفۡعَلُواْ فَأۡذَنُواْ بِحَرۡبٖ مِّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦۖ وَإِن تُبۡتُمۡ فَلَكُمۡ رُءُوسُ أَمۡوَٰلِكُمۡ لَا تَظۡلِمُونَ وَلَا تُظۡلَمُونَ ٢٧٩﴾ [البقرة]؛ وهذا بخلافِ ما كان أصلُه غيرَ محرَّمٍ لكنَّه شابَتْه شائبةُ التحريم في أحَدِ لواحقِه فإنه يَمتنِعُ العملُ في اللواحق المحرَّمة دون الأصل المُباح.
من الفتوى رقم: ١٠٨ – في حكم بيع المحلَّات أو إيجارها للبنوك (الإسلامية)
الذي ينبغي أَنْ يُعْلَم أنَّ المصارف المالية الحاليَّة تُمارِس بعضَ الأعمال المشروعة في نظامها العرفيِّ، متمثِّلةً في تقديمِ خدماتٍ وتسهيلِ قضاء الحاجات، وهي المعروفة بأعمال الخدمات، وأخرى غير مشروعةٍ وهي الغالبةُ في أعمالها، حيث يقترن بها الفوائدُ الربوية المنهيُّ عنها شرعًا بالنصوص الصريحة، التي تتمُّ عن طريق القروض، أو الدخول في مشروعاتٍ محرَّمةٍ، أو إبرام عقودٍ فاسدةٍ، ولا يخفى أنَّه إذا اجتمع الحلالُ والحرامُ غَلَب الحرامُ على الحلال، والعبرةُ بالغالب؛ إذ «مُعْظَمُ الشَّيْءِ يَقُومُ مَقَامَ كُلِّهِ»، كما تقرَّر في القواعد.
هذا، والبنوك الإسلامية ـ وإِنِ اقترنَتْ بها صفةُ الإسلام ـ إلَّا أنها ـ في حقيقة الأمر ـ لا تخرج عمَّا عليه سائرُ البنوك والمصارف المالية ـ في الجملة ـ عند التحقيق، وما يجري في البنوك الإسلامية مِنْ بيوع المرابحة القائمة مَقامَ الإقراض الربويِّ في البنوك الربوية الأخرى ما هو سِوى حيلةٍ مُقنَّعةٍ تخفي ـ مِنْ ورائها ـ عمليةَ الإقراض بفائدةٍ ربويةٍ؛ لأنَّ نشاط البنوك ـ ولو كانَتْ إسلاميةً ـ فهو مصرفيٌّ غيرُ تجاريٍّ ـ هذا مِنْ جهةٍ ـ ويرتبط بالعقود المُبْرَمة ـ مِنْ جهةٍ أخرى ـ جملةٌ مِنَ المناهي: كبيعِ ما ليس عنده وهو: بيعُ ما لم يملك، وبيع التعليق، فضلًا عن أخذِها للفوائد الربوية على عقود الإرفاق كالضمان، وغيرها مِنَ المسائل التي لا تخرج البنوكُ الإسلامية فيها عن التشريعات الوضعية المُطبَّقة التي تحدِّد كيانَها ونشاطها المصرفيَّ، وعمومَ تعاملاتها.
وعليه، فالتعاونُ في بيع عقَارٍ أو غيرِه لمَنْ يعلم أنَّه يستخدمه فيما لا يُرْضي اللهَ تعالى فهو تعاونٌ على الإثم والعدوان؛ ذلك لأنَّ المؤسَّسة البنكية ـ مهما كانَتْ صِفَتُها ـ شخصٌ اعتباريٌّ أو كيانٌ معنويٌّ قائمٌ على أصلٍ ربويٍّ مقنَّنٍ وضعيًّا؛ لذلك لا يجوز إعانتُه على أعماله المُنافِية لأحكام الشريعة ونظامِ مؤسَّساتها، ولا استبقاؤه واستدامتُه، ولا إقرارُه أو الاشتراك معه.
ونظيرُ ذلك في التحريم: بيعُ العنب لمَنْ يتَّخِذُه خمرًا، أو بيع السلاح لمَنْ يُثيرُ الفتنةَ؛ إذ لا يقتصر الحرامُ على فاعلِه المُباشِر، بل يتعدَّى إلى كُلِّ مَنْ يُشارِكه فيه بأيِّ جهدٍ مادِّيٍّ أو أدبيٍّ؛ لذلك «لَعَنَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آكِلَ الرِّبَا وَمُؤْكِلَهُ وَكَاتِبَهُ وَشَاهِدَيْهِ، وَقَالَ: «هُمْ سَوَاءٌ»»، فهؤلاء ينالون مِنَ الإثم على قَدْرِ مُشارَكتهم؛ ﻓ «كُلُّ مَا أَدَّى إِلَى حَرَامٍ فَهُوَ حَرَامٌ»، وكُلُّ مَنْ أعان على الحرام فهو حرامٌ، وكُلُّ مَنْ أعان على الحرام فهو شريكٌ في الإثم؛ قال تعالى: ﴿وَتَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلۡبِرِّ وَٱلتَّقۡوَىٰۖ وَلَا تَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلۡإِثۡمِ وَٱلۡعُدۡوَٰنِ﴾[المائدة:٢].
من الفتوى رقم: ١١٧ – في حكم مالٍ مُكتسَبٍ مِنْ شركةٍ إشهاريةٍ فيها اختلاطٌ
المردود المادِّيُّ يختلف حكمُه باختلافِ نوع الإشهار أوَّلًا:
ـ فإِنْ كان الإشهارُ قائمًا على نشرِ الرذيلة والفساد كإشهار لوحات الخمور، والخدودِ والخصور، والملابسِ الكاشفة، وغيرِها ممَّا يُشيعُ الفاحشةَ في الذين آمنوا؛ فالمالُ المتقاضى مِنْ أجله باطلٌ لا يجوز اكتسابُه؛ لقوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «إِنَّ اللهَ إِذَا حَرَّمَ شَيْئًا حَرَّمَ ثَمَنَهُ».
ـ أمَّا إذا كان الإشهارُ قائمًا على الفضيلة ـ في الجملة ـ أو نشرِ المُباحات ممَّا هو سبيلٌ إلى اقتنائها وتلبيةِ حاجةِ الناس إليها؛ فإنَّ المال المأخوذَ جائزٌ، ولا يعكِّرُ عليه أمرُ الاختلاط إذا كان لا يستطيع التخلُّصَ منه؛ لعموم البلوى ولندرةِ خُلُوِّ أماكنِ العمل منه؛ ذلك لأنَّ الاختلاط عارضٌ على العمل، وعوارضُ الشيءِ لا تُبْطِلُ الأصلَ، لكنَّ فاعِلَه آثمٌ إذا لم يَسُدَّ بابَ الفتنة.
وبناءً عليه، إذا كانَتْ هذه المؤسَّسةُ الإشهارية لا تخدم الرذيلةَ والفساد، لكِنْ يُوجَدُ فيها اختلاطٌ لا يؤثِّر في أخلاق العامل وسلوكِه، ولا يُخْشى عليه التأثُّرُ؛ فإنه يجوز العملُ مع الحيطة لدِينه، ويحاوِلُ اجتنابَ النساء قَدْرَ الإمكان؛ لقوله تعالى: ﴿فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ مَا ٱسۡتَطَعۡتُمۡ﴾ [التغابن: ١٦]، ولأنَّ الأصل انتيابُ الرجلِ أماكنَ العمل، وهو مأمورٌ بالاكتساب والنفقة، والمرأةُ ـ حالَ اختلاطها به ـ آثمةٌ؛ لأنها خالفَتْ أصلَها في القرار في البيت والمكوثِ فيه؛ لقوله تعالى: ﴿وَقَرۡنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجۡنَ تَبَرُّجَ ٱلۡجَٰهِلِيَّةِ ٱلۡأُولَىٰ﴾ [الأحزاب: ٣٣]، فإِنْ خَشِيَ على نفسِه مَيْلَ قلبه والتأثُّرَ بالاختلاط المُفْضي إلى الفحشاء فالواجبُ عليه أَنْ ينتقل إلى عملٍ آخَرَ بعيدًا عن فتنة النساء والشهواتِ أو التقليلُ منها ـ إِنْ أمكن ـ عملًا بقوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «مَا تَرَكْتُ بَعْدِي فِتْنَةً أَضَرَّ عَلَى الرِّجَالِ مِنَ النِّسَاءِ»، ولقوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «إِنَّ الدُّنْيَا حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ، وَإِنَّ اللهَ مُسْتَخْلِفُكُمْ فِيهَا، فَيَنْظُرُ كَيْفَ تَعْمَلُونَ؛ فَاتَّقُوا الدُّنْيَا وَاتَّقُوا النِّسَاءَ؛ فَإِنَّ أَوَّلَ فِتْنَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَتْ فِي النِّسَاءِ».
هذا، ونسأل اللهَ لنا ولكم حُسْنَ العونِ والسداد، والتوفيقَ لِمَا يحبُّ ويرضى، وأَنْ يبعِّدَنا عن الزلل والفساد والفتن، ما ظَهَر منها وما بَطَن.
من الفتوى رقم: ٢٣١ – في حكم العمل في بناء فندقٍ يحتوي على حانة خمرٍ
اعلَمْ -وفَّقك الله للخير وجَعَلك مِن أهل الطاعة- أنَّ كلَّ عملٍ اقتضى شرطُه إعانةً على ظلمٍ أو تعاونًا على باطلٍ ومساعدةً على فعل محرَّماتٍ؛ فحكمُه المنعُ والتحريم لقوله تعالى: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾ [المائدة: ٢]، والإعانةُ على الظلم ظلمٌ، والتآزرُ على المعصية معصيةٌ، ولا يخفاك أنَّ الفنادق الفاخرة ذاتَ النجوم الكثيرة لا تحتوي على حاناتٍ فحَسْبُ، بل ـ زيادةً على ذلك ـ فيها أماكنُ للرقص والدعارة، بل قد توجد بها بنوكٌ وأعمالٌ محرَّمةٌ أخرى، وهذا أمرٌ معهودٌ في سائر الفنادق في الجزائر وفي غيرها مِن البلدان الأخرى. لذلك ينبغي على المرء أن يحرص على أن لا يكون أداةَ هدمٍ للقِيَم والدين ولا مِعْوَلَ تحطيمٍ للأخلاق بتعاوُنه مع غيره على نشر الرذائل، فإن فعل أخذ مع كلِّ صاحب رذيلةٍ نصيبًا من الإثم مِن غيرِ أن يَنْقُص مِن ذنوب العاصي شيئًا لقوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «مَنْ دَعَا إِلَى ضَلَالَةٍ كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الْإِثْمِ مِثْلُ آثَامِ مَنْ تَبِعَهُ، لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ آثَامِهِمْ شَيْئًا»، فعلى الكيِّس أن يسعى جاهدًا على أن يكون مالُه حلالاً ليُنفقه في مجاري الحلال، وهو الشكر العمليُّ لنِعَمِ الله تعالى، فإنَّ التقوى والعمل الصالح سببُ كسب المال الطيِّب لقوله سبحانه وتعالى: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [النحل: ٩٧]، والحياةُ الطيِّبة في الدنيا هي الرزق الحلال، وكذلك في قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا﴾ [الطلاق: ٤]، فكان سببُ اليسر عليه تقوى الله.
من الفتوى رقم: ٢٥٥- في حكم العمل في شركاتٍ لها تعاملٌ مع البنوك الربوية
إذا كانَتْ هذه الشركاتُ فروعًا عن البنوك الربوية أو مؤسَّسةً ابتداءً على القروض الربوية، وتُجْرِي تَعامُلَها الربويَّ مع البنوك بشكلٍ دائمٍ ومُستمِرٍّ؛ فلا يجوز العملُ فيها ولا معها؛ لأنَّ في ذلك مساعَدةً لها على المُضِيِّ في مُعامَلاتها الربوية المحرَّمة مع البنوك، وبخاصَّةٍ إذا كان العاملُ مُحاسِبًا فيها يطلب لشركتِه القروضَ الربوية، أمَّا إذا لم تَتَّخِذْ هذه الشركاتُ البنوكَ الربوية مَلْجأً لها ولا وجهةً دائمةً: فإِنْ وَجَدَ غيرَها احتاط لدِينِه، وإِنْ لم يَجِدْ سواها جاز له ذلك ـ اضطرارًا؛ لعموم البلوى والحاجة الأكيدة ـ ما دام أصلُ عملِ الشركات مُباحًا، وإذا أقبل على العمل فلا يرضى بما تَعامَلَتْ به شركتُه مع البنوك مِنَ القروض الربوية، بل يُنْكِر ويكرهُ مِنْ غيرِ أَنْ يكون باغيًا ولا عاديًا حتَّى لا يلحقه الإثمُ بالتبعية؛ لقوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «إِذَا عُمِلَتِ الخَطِيئَةُ فِي الأَرْضِ كَانَ مَنْ شَهِدَهَا فَكَرِهَهَا ـ وَقَالَ مَرَّةً: «أَنْكَرَهَا» ـ كَانَ كَمَنْ غَابَ عَنْهَا، وَمَنْ غَابَ عَنْهَا فَرَضِيَهَا كَانَ كَمَنْ شَهِدَهَا»
في حكم بيع المزايدة و ضوابطه – و هو المناقصات التجارية:
من الفتوى رقم: ١٠٢ – في حكم بيع السمك مزايدةً
فمِنْ حيث حكمُ بيعِ المزايدة فإنَّ ما عليه جمهورُ أهلِ العلم جوازُه؛ خلافًا لمَنْ حَصَره في الغنائم والمواريث، وهو مذهبُ عطاءٍ ومجاهدٍ والأوزاعيِّ وإسحاق، وخلافًا ـ أيضًا ـ لمَنْ كَرِهه مطلقًا، وهو مذهبُ إبراهيم النَّخَعيِّ.
ويظهر أنَّ منشأ الخلاف ـ في هذه المسألة ـ يعود إلى النهي الوارد عن سَوْمِ الرجل على سومِ أخيه: هل يُحْمَلُ على جميع الأحوال أو على حالةٍ دون حالةٍ؟ على ما أفاده ابنُ رشدٍ ـ رحمه الله ـ.
هذا، وبالنظر إلى أنَّ الأحاديث المُجيزةَ لبيع المزايدةِ والمانعةَ لها لا تصلحان للاحتجاج مِنْ حيث ضعفُ سندِها ـ مِنْ جهةٍ ـ وتَقابُلِها المُفضي إلى تساقُطِها ـ مِنْ جهةٍ أخرى ـ فإنَّ الرأي المختارَ في ذلك هو مذهبُ الجمهور في جوازِ بيع المزايدة؛ لأنَّ صورتها غيرُ مشمولةٍ بالنهي عن سَوْم الرجل على سَوْمِ أخيه؛ للفرق بينهما مِنْ ناحيةِ أنَّ بيع المُستامِ المنهيَّ عنه إنَّما يتفرَّد بعد التراضي الأوَّليِّ على الثمن وركونِ البائع إلى المشتري، أمَّا بيع المزايدة فهو دعوةٌ إلى التعاقد، وليس ثمَّةَ تراضٍ على الثمن ولا ركونُ البائع إلى المشتري؛ فافترقا.
ولو سلَّمْنا شموليةَ النهي عن بيع المُستام لبيع المزايدة فإنَّ صورةَ بيعِ المزايدة تخرج عن عموم النهي؛ للإجماع الذي نَقَله ابنُ قدامة ـ رحمه الله ـ بقوله: «وهذا ـ أيضًا ـ إجماعُ المسلمين، يبيعون في أسواقهم بالمزايدة» ، وقد أخرج ابنُ أبي شيبة ـ بسنده ـ إلى عمر بنِ الخطَّاب رضي الله عنه أنَّه «بَاعَ إِبِلًا مِنْ إِبِلِ الصَّدَقَةِ فِيمَنْ يَزِيدُ» ، واشتهر ولم يُنْقَلْ له مُخالِفٌ ولا مُنْكِرٌ مِنَ الصحابة رضي الله عنهم؛ فكان ذلك حجَّةً وإجماعًا منهم على تسويغه، كما أنَّ الحكمة تقتضيهِ؛ لأنَّ في تركه إلحاقَ ضررٍ بالباعة، وخاصَّةً للمحتاجين الذين كَسَدَتْ تجارتُهم فلا يملكون وسيلةً للوصول إلى تغطيةِ مُتطلَّباتهم المعيشية إلَّا بمثلِ هذه الطُّرُق؛ فالحاجةُ داعيةٌ وماسَّةٌ إليه.
هذا، والمزايدة السرِّيَّة كالعلنيَّة، سواءٌ كان السرُّ عن طريق الهمس في الأُذُن أو عن طريقِ عَرْضٍ مكتوبٍ ومُغْلَقٍ في رسائلَ ومظاريفَ موجَّهةٍ إلى البائع لفتحِها في يومٍ محدَّدٍ؛ فإنَّ حُكْمَها لا يخرج عن حكم عقدِ بيع المزايدة، وهي لا تتنافى ونصوصَ الشرع في عمومها، بل الشريعةُ تُراعِي أعرافَ الناسِ وتُقرِّر مبدأَ: «المَعْرُوفُ عُرْفًا كَالمَشْرُوطِ شَرْطًا».
وجديرٌ بالتنبيه والبيان: أنَّه يُشترَط في بيع المزايدة شروطٌ على ما هو جارٍ في سائر العقود، غيرَ أنَّه يُشترَطُ في بيع المزايدة ـ على وجه التأكيد والوضوح ـ:
ـ التعريف بالسلعة المرادِ بيعُها تعريفًا تامًّا وصادقًا للابتعاد عن التغرير والتدليس.
ـ كما يُشترَط خُلُوُّ البيع مِنَ النَّجَش – وهو تَواطُؤُ البائعِ مع غيره قَصْدَ الزيادةِ في ثمن السلعة لنفعِ البائع وإضرارِ المشتري.
ـ كما يُشترَط خُلُوُّه مِنَ الصورة العكسية للنَّجَش -هو تَواطُؤُ المشتري مع المُنافِسين معه قَصْدَ إرساءِ المَزاد على سعرٍ قليلٍ.
وعليه، فإنَّ الإخلال بمثلِ هذه الشروطِ يجعل عقدَ بيعِ المزايدة غيرَ جائزٍ شرعًا؛ لِمَا فيه مِنِ انتفاءِ حكمة التشريع في دفع المفاسد وجلبِ المصالح.
في نزع الملكية للمصلحة العامة:
من الفتوى رقم: ١٠٩
ولا يَحِلُّ لأيِّ شخصٍ ـ طبيعيًّا كان أو معنويًّا ـ أَنْ يعتديَ على مالِ غيره أو ينزع مِلْكيَّتَه ويتصرَّف فيها إلَّا برِضاهُ، إلَّا في حالاتٍ استثنائيةٍ يُنْزَع فيها المِلكُ مِنْ صاحبه على سبيل الجبر، وذلك طبقًا لقرارِ وليِّ الأمر أو نائبه أو القاضي الذي يقضي بذلك تحقيقًا للمصلحة العامَّةٍ وتقديمًا لها على المصلحة الخاصَّة إِنْ وُجِدَتْ أسبابُها ودواعيها. على أَنْ يُعوَّض مالكُ العقَار المنزوعِ تعويضًا عادلًا …
في حكم بدل الخِلِوِّ مِنْ مستأجرٍ لآخَرَ:
من الفتوى رقم: ١٠٩
غير أنَّ صورة السؤال المطروحِ إنَّما تتعلَّق بأخذِ بدل الخِلِوِّ مِنْ مستأجرٍ لآخَرَ، أي: يأخذ المستأجرُ الأوَّل مالًا في مُقابِلِ إخلائه المحلَّ لمستأجرٍ جديدٍ يَحُلُّ مكانَه.
وفي تقرير الحكم، فالمسألةُ تحتاج إلى تفصيلٍ، وبيانُه: إمَّا أَنْ يكون عقدُ الإيجار محدَّدًا بوقتٍ بين المالك والمستأجر أو لا؟
فإِنْ كان محدَّدًا وبقي جزءٌ مِنْ مدَّة التعاقد بين المالك والمستأجر، جاز للمستأجر الأوَّل أخذُ مالٍ مِنْ مستأجرٍ جديدٍ مُقابِلَ إخلائه المحلَّ له ليحلَّ مكانه، وهو ما يُسمَّى ببدل الخِلِوِّ، ومشروعيتُه مُستمَدَّةٌ ـ في حقيقة الأمر ـ مِنْ جوازِ بيع المدَّة الباقية مِنَ المنفعة المُستحَقَّة بعقد الإيجار.
أمَّا إذا كانت المدَّةُ طويلةَ الأجل أو غيرَ محدَّدةٍ أصلًا على ما هو جارٍ في بعض القوانين؛ خلافًا لنصِّ عقد الإجارة الشرعية، فإنَّه ـ في هذه الحالة ـ لا يسوغ بيعُ المدَّة أو استئجارُ العين، ولا يصحُّ أخذُ البدل الماليِّ إلَّا بموافقة المالك، فإِنْ رضي استحقَّ بدلَ الخِلِوِّ وأخذَه، وإِنْ سَخِط فالأصلُ أَنْ يعود المستأجِرُ الأوَّلُ والجديد إلى ما كانا عليه قبل التعاقد.
في أحكام العملة الورقية:
من الفتوى رقم: ٩٩ – في حكم بيع الذهب نسيئة
فالعملة الورقية هي عملةٌ نقديةٌ قائمةٌ بذاتها، لها صفةُ الثمنية كاملة، وتجري فيها الأحكامُ الشرعية المقرَّرة للذهب والفضَّة مِنْ جهةِ الرِّبَا والسَّلَم والزكاة وما إلى ذلك مِنْ بقيَّة الأحكام، وهذا القول هو السائد ـ حاليًّا ـ ودَرَج عليه غالبيةُ المسلمين المُلتزِمين بالشريعة في معاملاتهم المالية، وصدَرَتْ بمُوجَبه قراراتٌ في مجامعَ فقهيةٍ، كما صدَرَتْ على وَفْقِه كثيرٌ مِنَ الفتاوى الشرعية.
من الفتوى رقم: ١١٥ – في حكم المتاجرة بالعملات الورقية (الصرف)
فاعلم أنَّ علة العملات الورقية النقدية كعلة الذهب والفضة ترجع إلى الثمنية، والأثمان ليس لها قيمة ذاتية مقصودة، وإنما قيمتها اعتبارية، فلا غرض في عينها قال أبو حامد الغزالي -رحمه الله-: «وكل من عامل معاملة الربا على الدراهم والدنانير فقد كفر النعمة وظلم، لأنهما خلقا لغيرهما لا لنفسهما، إذ لا غرض في عينها، فإذا اتجر في عينهما فقد اتخذهما مقصودًا على خلاف وضع الحكمة» إحياء علوم الدين للغزالي: ٤/ ٩٢.
فالأوراق النقدية -إذن- مقياس للأموال لا تقصد لعينها وإنما يتوسل بها إلى السلع وسد الحاجيات، فهي تدخل في باب الوسائل لتحصيل المطالب والمقاصد ولا ينتفع بذاتها، وفي هذا المعنى يقول ابن تيمية-رحمه الله-: «فإن المقصود من الأثمان أن تكون معيارًا للأموال يتوسل بها إلى معرفة مقادير الأموال، ولا يقصد الانتفاع بعينها، فمتى بيع بعضها ببعض إلى أجل قصد بها التجارة التي تناقض مقصود الثمنية» مجموع الفتاوى لابن تيمية: ٢٩/ ٤٧١-٤٧٢.
وعليه، فالاتجار بما جُعل ثمنًا للسلع والمبيعات خروج عن الحكمة الموضوعة لهما، فضلاً عن إضرار الناس وإفساد لمعاملاتهم، و «الضَّرَرُ يُزَالُ» كما تقرر في القواعد، لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «لاَ ضَرَرَ وَلاَ ضِرَارَ» وفي معرض ذكر مفاسد التجارة فيها قال ابن القيم -رحمه الله-: «ويمنع -أي الحاكم- من إفساد نقود الناس وتغييرها، ويمنع من جعل النقود متجرًا، فإنه يدخل على الناس من الفساد مالا يعلمه إلاَّ الله، بل الواجب أن تكون النقود رؤوس أموال يتجر بها ولا يتجر فيها، وإذا حرم السلطان سكة أو نقدًا منع من الاختلاط بما أذن في المعاملة به» الطرق الحكمية لابن القيم: ٢١٩-٢٢٠.
أما الأصناف الربوية الأخرى الواردة في حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه كالبر والشعير والتمر والملح وما يلحق بها فإنّه يجوز الاتجار فيها لأنهما ليست أثمانًا، وإنما هي عروض، والعروض يجوز الانتفاع بعينها، بخلاف الأثمان، فإنه يجوز الاتجار بها ولا يجوز الاتجار فيها بعملية الصرف إلا في حدود الحاجة، وبشرط اتحاد المجلس إذا اختلفت أجناسها، وأن يتم الصرف بسعر يومه وهو السعر العام المتعارف عليه غالبً.
معنى لا يبع بعضكم على بيع بعض ، و مذاهب العلماء في خيار المجلس
من الفتوى رقم: ١٨٦ : في معنَى قولِه صلَّى الله عليه وسلَّم: «لَا يَبِعْ عَلَى بَيْعِ أخيه»
ففي قوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «لَا يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ»، وفي روايةٍ: «لَا يَسُمِ الْمُسْلِمُ عَلَى سَوْمِ أَخِيهِ»، فإنَّ صورةَ هذا البيعِ المنهيِّ عنه عند المُثْبِتين لخيار المجلس كالشافعيِّ وأحمد وغيرِهما ـ رحمهم الله ـ: أَنْ يبتاع الرَّجلُ سلعةً ـ وهو مُغتبِطٌ بها غيرُ نادمٍ عليها ـ إلَّا أنه لم يَقْبِضها ولم يتفرَّقا، فيأتيه قبل الافتراق مَنْ يعرض عليه مِثْلَ سلعتِه أو خيرًا منها؛ فيفسخ المشتري بخيار المجلس.
أمَّا عند النافين لخيار المجلس كمالكٍ وأبي حنيفة وغيرِهما ـ رحمهم الله ـ فصورتُه: أَنْ يَستحسِنَ المشتري السلعةَ ويهواها، ويركنَ البائعُ ويميلَ إليه، ويذكرا الثمنَ، ولم يَبْقَ إلَّا العقدُ والرِّضا الذي يتمُّ به البيعُ، فإذا كان البائعُ على هذه الحالِ لم يَجُزْ لأحَدٍ أَنْ يعترضهما.
فالحاصل: أنَّ مذاهب العلماء متقارِبةٌ، وكُلُّهم يجعلون بيعَ المُستامِ المنهيَّ عنه بعد التراضي المبدئيِّ على الثمن واستقرارِه، ولا يكون إلَّا بعد ركون البائع إلى المشتري، ويلحق الإثمُ الفاعلَ، والبيعُ صحيحٌ على أرجحِ قولَيِ العلماء؛ لأنَّ النهي عن السوم لم يقع على ذاتِ المنهيِّ عنه ولا على شرطٍ مِنْ شروطه ولا على مُجاوِرٍ لازمٍ.
أمَّا قبل استقرار الثمن أو قبل التراكن فتجوز المساوَمةُ والمزايَدةُ على السلعة المعروضة؛ لأنَّ الضررَ يَلْحَقُ بالباعة على سِلَعهم إذا ما مُنِع التساومُ بهذا الاعتبار، ويُفضي إلى بَخْسِها وبيعِها بالنقص.
أمَّا مَنْ تصرَّف في النهي بنوعِ تخصيصٍ بحديثِ: «الدِّينُ النَّصِيحَةُ» كما هو صنيعُ ابنِ حزمٍ ـ رحمه الله ـ(فإنه لا يقوى دليلُه على تخصيص النهي؛ لكون النصيحة إنما تُؤدَّى بالقول، وذلك بتعريف البائع بأنه مغبونٌ، مِنْ غيرِ إرادةِ أَنْ يبيعه شيئًا بأرخصَ منه.
في البيع المباح الأصل المحرم للضرر – بغض النظر عن النية
الفتوى رقم: ١٨٧ – في حكمِ مَنْ يبيع بسعرٍ أَدْنى ممَّنْ يشتري منه
فالأصل المقرَّر أنه متى مَلَك إنسانٌ سلعةً أو غيرَها مِنَ الأعيان مِلْكًا تامًّا بسبب البيع أو غيرِه مِنَ الأسباب المُثبِتة للملكية أو الناقلة لها فإنَّ للمالك لها مُطْلَقَ حُرِّيَّة التصرُّف في سلعته ومنافعِها بمختلف التصرُّفات المشروعة، مِنْ بيعٍ أو إجارةٍ أو هِبَةٍ وغيرها، غيرَ أنَّ هذه الحُرِّيَّةَ مُقيَّدةٌ بعدم الإضرار بغيره فردًا كان أو جماعةً، ولو صَفَتْ نيَّتُه وحَسُنَ قصدُه.
هذا، ويشتدُّ الضررُ على الباعة مثلِه، خاصَّةً إذا جَمَعهم مكانٌ واحدٌ وهُمْ ـ في ذلك ـ يُراعون ـ في البيع ـ قيمةَ السلعة على حقيقتها في السوق؛ ويدلُّ على المنع عن الإضرار قولُه صلَّى الله عليه وسلَّم مِنْ حديثِ عبادة بنِ الصامت وابنِ عبَّاسٍ وغيرهما رضي الله عنهم: «لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ».
وعليه، فإنه متى حَصَل الضررُ وتَحقَّق فلا يُلتفَتُ إلى ما يرمي إليه البائعُ بنيَّته وغرضِه، ما لم يُعارِضه ضررٌ أقوى أو مصلحةٌ راجحةٌ؛ جريًا على قاعدتين وهما:
ـ الأولى: إنَّ «التَّحْرِيمَ يَتْبَعُ الخُبْثَ وَالضَّرَرَ».
ـ والثانية: إنَّ «النِّيَّةَ الحَسَنَةَ لَا تُبَرِّرُ الحَرَامَ».
وممَّا يجدر التنبيهُ له أنَّ كُلَّ الطُّرُق والتصرُّفاتِ المؤثِّرةِ على الأخوَّةِ الإيمانية بالسَّلب والتصدُّع، المُوقِعةِ في البغضاء، المُوغِرةِ للصدور، المُثيرةِ للفتنة، المُفسِدةِ للعلاقة الأخوية، تُمْنَع سدًّا للوقوع في الفُرْقة المنهيِّ عنها، وقد جاء في التنزيل في شأن الخمر والميسر قولُه تعالى: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ ٱلشَّيۡطَٰنُ أَن يُوقِعَ بَيۡنَكُمُ ٱلۡعَدَٰوَةَ وَٱلۡبَغۡضَآءَ فِي ٱلۡخَمۡرِ وَٱلۡمَيۡسِرِ وَيَصُدَّكُمۡ عَن ذِكۡرِ ٱللَّهِ وَعَنِ ٱلصَّلَوٰةِۖ فَهَلۡ أَنتُم مُّنتَهُونَ ٩١﴾ [المائدة]، وشبيهُه بيعُ النجش المنهيُّ عنه، وهو أَنْ يزيد في ثمن السلعة مَنْ لا يريد شراءَها ليُغْرِيَ المشتريَ، فهو مصدرُ نزاعٍ مؤثِّرٌ على جانب الأخوَّة الإسلامية؛ لذلك مَنَعه الشارعُ بقوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «لَا تَنَاجَشُوا [وَلَا تَحَاسَدُوا] وَلَا تَبَاغَضُوا وَلَا تَدَابَرُوا، [وَلَا يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ]، وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إِخْوَانًا»؛ فمَنْ أَفْسدَ العلاقةَ الأخوية بمثلِ هذا التصرُّف أو تسبَّب فيه أو شجَّع عليه أو رضي به فهو آثمٌ بفعله أو بنيَّته، لكنَّ ذلك لا يؤثِّر على صحَّةِ بيعه و لا يعكِّر على حِلِّيةِ أرباحه.
في صورة بيع حاضر لباد المنهي عنها
الفتوى رقم: ١٨٨
فصورةُ بيعِ الحاضر للبادي المنهيُّ عنها: أَنْ يحمل البدويُّ متاعَه إلى البلد ليبيعه بسعرِ يومه ويرجع، فيأتيه البلديُّ فيقول: «ضَعْه عندي لأبيعه على التدريج بزيادةِ سعرٍ».
وإنما مَنَع الشرعُ هذه المعاملةَ لأنها تعود على أهل البلد بالضرر؛ لذلك قُدِّمَتْ مصلحةُ أهلِ السوق مِنْ أهلِ البلد المتمثِّلةُ في شراء المتاع رخيصًا على مصلحة الجالب في بيعِ متاعه غاليًا؛ تقديمًا للمصلحة العامَّة على المصلحة الخاصَّة.
وقد ذَكَر أهلُ العلم شروطًا استنبطوها مِنْ معنَى نصِّ حديثِ النهي عن بيع الحاضر للبادي، وخصَّصوا بها الحديثَ، وفي مُقابِلِ ذلك امتنع آخَرون عن اشتراطها، منها:
ـ البداوة: هل هي قيدٌ في الحديث فلا يلتحق بالبادي إلَّا مَنْ كان يشبهه كما هو مذهبُ مالكٍ ـ رحمه الله ـ؛ وعليه فلا يدخل أهلُ القرى والمدن الذين يعرفون أثمانَ السِّلَع والأسواق، أم أنَّ «الباديَ» في الحديث خَرَج مخرجَ الغالب الأعمِّ فلا مفهومَ له؛ وعليه يلتحق به مَنْ شاركه في عدمِ معرفة السعر مِنْ أهل القرى والمدن لعلَّةِ إضرارِ أهل البلد، وهي علَّةُ الحكم المُستنبَطةُ مِنْ نصِّ الحديث، وهذا تفسير الشافعية والحنابلة؟
ـ ومِنَ القيود الأخرى المُختلَف فيها: قيدُ زمنِ الغلاء، وما يحتاج أهلُ البلد إليه، وقيدُ كونِ الممنوع محصورًا في البيع بالتدريج بأغلَى مِنْ سعر الحال، وغيرها مِنَ الشرائط والقيود التي تدور ـ في أغلبها ـ بين اعتبار المعنى واتِّباع اللفظ، الوارد بناؤُه على قاعدةٍ أصوليةٍ مُختلَفٍ فيها وهي: «النصُّ إذا استُنبِط منه معنًى: هل يعود عليه بالتخصيص أم لا؟» وقد أجاب عنه ابنُ دقيق العيد ـ رحمه الله ـ بما نصُّه: «ولكِنْ ينبغي أَنْ يُنْظَر في المعنى إلى الظهور والخفاء، فحيث يظهر ظهورًا كثيرًا فلا بأسَ باتِّباعه وتخصيصِ النصِّ به أو تعميمه على قواعد القياسيين، وحيث يخفى ولا يظهر ظهورًا قويًّا فاتِّباعُ اللفظ أَوْلى» «الإحكام» لابن دقيق العيد (٣/ ١١٥).
الفتوى رقم: ١١٠٦ – في حكم تلقِّي السلع
إنه لا يجوز تلقِّي البيوع في الشارعِ قبل دخولِهم إلى المحلاَّتِ والأماكنِ المخصَّصةِ للعرضِ والبيعِ، ذلك لأنَّ هذه الصورةَ من المعاملةِ تدخل فيما يسمِّيه المالكيَّةُ ﺑ«تلقِّي السلع»، ويعبِّر عنه الحنفيَّةُ ﺑ«تلقِّي الجلب»، والشافعيَّةُ والحنابلةُ ﺑ«تلقِّي الركبان»، وقد ثبت النهيُ عنه في أحاديثَ كثيرةٍ منها: قولُه صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «… وَلاَ تَلَقَّوْا السِّلَعَ حَتَّى يُهْبَطَ بِهَا إِلَى السُّوقِ»، وقولُه صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «لاَ تَلَقَّوْا الْجَلَبَ، فَمَنْ تَلَقَّاهُ فَاشْتَرَى مِنْهُ، فَإِذَا أَتَى سَيِّدُهُ السُّوقَ، فَهُوَ بِالْخِيَارِ»، وقولُه صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «لاَ تَلَقَّوُا الرُّكْبَانَ، وَلاَ يَبِعْ حَاضِرٌ لِبَادٍ»، وفي حديث ابن عُمَرَ رضي الله عنهما قال: «كُنَّا نَتَلَقَّى الرُّكْبَانَ، فَنَشْتَرِي مِنْهُمُ الطَّعَامَ فَنَهَانَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ نَبِيعَهُ حَتَّى يُبْلَغَ بِهِ سُوقُ الطَّعَامِ»، وعنه رضي الله عنهما قال: «كَانُوا يَبْتَاعُونَ الطَّعَامَ فِي أَعْلَى السُّوقِ، فَيَبِيعُونَهُ فِي مَكَانِهِ، فَنَهَاهُمْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَبِيعُوهُ فِي مَكَانِهِ حَتَّى يَنْقُلُوهُ».
فهذه المناهي الثابتةُ بهذه الأحاديثِ المتقدِّمة تدلُّ على تحريم التلقِّي، وأنَّ صاحبه -إن كان عالمًا بالنهي- آثمٌ وعاصٍ بفعله؛ لِمَا تتضمَّنه صورةُ هذه المعاملةِ من تغريرٍ وخداعٍ بالبائع من جهةٍ، وإضرارٍ بأهل السوق أو أهل البلد من جهةٍ أخرى، فكانت علَّةُ النهي حاصلةً في أمرين وهما: إزالةُ الضرر عن الجالب وصيانتُه ممَّن يخدعه من جهةٍ، وإزالةُ الضرر عن أهل السوق وتحقيقُ النفع لهم تقديمًا للمصالح العامَّةِ على المصالح الخاصَّة من جهةٍ أخرى، فمُنِعَتْ مصلحةُ المتلقِّي الخاصَّةُ نظرًا لتعارُضِها مع مصلحة أهل السوق العامَّة، مع ما فيه من إزالةِ الغَبْنِ والضرر عن الجالب ودفعِه عنه.
هذا، وتقريرُ حُرمةِ التلقِّي وإثمِ فاعله لا يَلْزَمُ منه بطلانُ عقدِ البيع، بل هو عقدٌ صحيحٌ عند الجمهور، خلافًا لبعض المالكيَّة وبعضِ الحنابلة والبخاريِّ، فإنهم يذهبون إلى بطلان العقد أخذًا بظاهر النهي المقتضي للفساد ( انظر «بداية المجتهد» لابن رشد (٢/ ١٦٦)، «المهذّب» للشيرازي (١/ ٢٩٩)، «فتح الباري» لابن حجر (٤/ ٣٧٤)، «شرح السنّة» للبغوي (٨/ ١١٧)، «المحلّى» لابن حزم (٨/ ٤٤٩)، «نيل الأوطار» للشوكاني (٦/ ٣٠٧).)، ومذهبُ الجمهور أصحُّ لأنَّ النهي توجَّه لأمرٍ خارجٍ عن العقد لا يرجع إلى ذاتِ المنهيِّ عنه، ولا يُخِلُّ بأركان العقد وشروطه، وإنما هو لدفع الإضرار بالركبان وأهل السوق، فلا يقتضي النهيُ -على هذا الوجه- فسادًا، ولأنَّ ثبوتَ الخيار في حديث أبي هريرة رضي الله عنه: «فَإِذَا أَتَى سَيِّدُهُ السُّوقَ، فَهُوَ بِالْخِيَارِ» قاضٍ بصحَّةِ العقد، إذِ الخيارُ فرعٌ من صحَّة العقد، وما شُرع للبائع الخيارُ إلا ليكونَ العقدُ من تمام رضاه، ويؤيِّد صحَّةَ العقدِ حديثُ حكيمِ بنِ حِزَامٍ رضي الله عنه مرفوعًا: «البَيِّعَانِ بِالخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا -أَوْ قَالَ: حَتَّى يَتَفَرَّقَا–، فَإِنْ صَدَقَا وَبَيَّنَا بُورِكَ لَهُمَا فِي بَيْعِهِمَا، وَإِنْ كَتَمَا وَكَذَبَا مُحِقَتْ بَرَكَةُ بَيْعِهِمَا»، فإنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم لم يُبطل بيْعَهما بالكذب والكتمان للعيب، وكذلك في بيعِ المُصَرَّاة في قوله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «وَلاَ تُصَرُّوا الإِبِلَ وَالْغَنَمَ، فَمَنِ ابْتَاعَهَا بَعْدَ ذَلِكَ فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ بَعْدَ أَنْ يَحْلُبَهَا، فَإِنْ رَضِيَهَا أَمْسَكَهَا، وَإِنْ سَخِطَهَا رَدَّهَا وَصَاعًا مِنْ تَمْرٍ»، فإنَّ في صورةِ هذه المعاملة خداعًا وتغريرًا وتدليسًا، ومع ذلك لم يُبْطِلِ النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم أصْلَ البيع، وإنما جعله قابلاً للإبطال موقوفًا على خيار المشتري بين الإمساك والردِّ، فثبوتُ الخيار فيه يقتضي صحَّةَ بيع المُصَرَّاة.
وإذا تقرَّر صحَّةُ البيع؛ فإنَّ للبائع الجالبِ الخيارَ بين إمضاء العقد وفسخِه إذا ما حصل له غَبْنٌ فاحشٌ أو لم تَجْرِ العادةُ بمثله، ويشهد لخيارِ الغَبْنِ فيه حديثُ أبي هريرةَ رضي الله عنه المتقدِّم.
فتوى جامعة في الرشوة (المصانعة بالمال عند الاضطرار)
الفتوى رقم: ٢٠٧
الرِّشْوةُ ـ في الأصل ـ حرامٌ وهي مِنَ الكبائر؛ فقَدْ ثَبَتَ أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال: «لَعَنَ اللهُ الرَّاشِيَ وَالمُرْتَشِيَ»(١)، غير أنَّ العلماء يَسْتثنون مِنْ حكم التحريم مَنْ صانَعَ بمالِه عند اضطراره، ويُؤثِّمون الآخذَ المرتشيَ دون الراشي؛ ذلك لأنَّ الرِّشْوة إنَّما هي: ما يُعْطى لإبطالِ حقٍّ أو لإحقاقِ باطلٍ(٢)، ويخرج مِنْ مفهوم هذا الضابطِ مَنْ سَلَكَ طريقَها للوصول إلى حقٍّ مُهدَّدٍ أو رفعِ عدوانِ ظالمٍ أو دفعِه قبل حصوله، ويدلُّ عليه ما أخرجه أحمد وأبو يعلى وغيرُهما بسندٍ صحيحٍ وأورده الهيتميُّ(٣) عن عمر رضي الله عنه قال: «دَخَلَ رَجُلَانِ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَاهُ فِي شَيْءٍ فَدَعَا لَهُمَا بِدِينَارَيْنِ فَإِذَا هُمَا يُثْنِيَانِ خَيْرًا؛ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَكِنْ فُلَانٌ مَا يَقُولُ ذَلِكَ، وَلَقَدْ أَعْطَيْتُهُ مَا بَيْنَ عَشَرَةٍ إِلَى مِائَةٍ فَمَا يَقُولُ ذَلِكَ، فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَخْرُجُ بِصَدَقَةٍ مِنْ عِنْدِي مُتَأَبِّطَهَا (أي: يحملها تحت إبطه) وَإِنَّمَا هِيَ لَهُ نَارٌ»، فَقُلْتُ: «يَا رَسُولَ اللهِ، كَيْفَ تُعْطِيهِ وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّهُ لَهُ نَارٌ؟» قَالَ: «فَمَا أَصْنَعُ؟ يَأْبَوْنَ إِلَّا أَنْ يَسْأَلُونِي وَيَأْبَى اللهُ لِيَ البُخْلَ»»(٤)، وإذا كان النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم يعطي السائلَ المُلِحَّ في طلبه مالًا وهو يعلم عَدَمَ استحقاقِه له، وهو له نارٌ، وكان عطاؤُهُ نتيجةَ الإلحاح في المسألة؛ فمِنْ بابٍ أَوْلى ما تكون الحاجةُ داعيةً إليه مِنِ استرجاعِ حقٍّ مُضيَّعٍ، أو دفعِ جَوْرِ ظالمٍ أو رفعِه. وقد روى أهلُ الحديث أنَّ عبد الله بنَ مسعودٍ رضي الله عنه لمَّا كان بالحبشة رَشَا بدينارين وقال: «إِنَّمَا الإِثْمُ عَلَى القَابِضِ دُونَ الدَّافِعِ»(٥).
هذا، وقد نَقَلَ ابنُ العربيِّ ـ رحمه الله ـ في «العارضة»(٦) ما يَتَّفِقُ مع هذا المعنى، وجاء في «التحفة» وفي «المغني» عن جماعةٍ مِنْ أئمَّة التابعين قولُهم: «لَا بَأْسَ أَنْ يُصَانِعَ الرَّجُلُ عَنْ نَفْسِهِ وَمَالِهِ إِذَا خَافَ الظُّلْمَ»(٧)، وقال جابر بنُ زيدٍ: «مَا رَأَيْنَا فِي زَمَنِ زِيَادٍ أَنْفَعَ لَنَا مِنَ الرِّشَا»(٨)، وقد قال القرطبيُّ ـ رحمه الله ـ: «ورُوِيَ عن وهب بنِ مُنبِّهٍ أنه قِيلَ له: «الرِّشْوَةُ حَرَامٌ فِي كُلِّ شيءٍ»؛ فقال: «لا، إنَّما يُكْرَهُ مِنَ الرِّشْوَةِ أَنْ تَرْشِيَ لِتُعْطَى مَا لَيْسَ لَكَ أَوْ تَدْفَعَ حَقًّا قَدْ لَزِمَكَ، فَأَمَّا أَنْ تَرْشِيَ لِتَدْفَعَ عَنْ دِينِكَ وَدَمِكَ وَمَالِكَ فَلَيْسَ بِحَرَامٍ»، قال أبو الليث السمرقنديُّ الفقيه: وبهذا نأخذ: لا بأسَ بأَنْ يدفع الرجلُ عن نَفْسِه ومالِه بالرِّشْوة»(٩)، ولأنَّ المُعْطيَ كالمُكْرَهِ على إعطائه يَسْتنقِذُ مالَه كما يَسْتنقِذُ الرجلُ أسيرَه. وضِمْنَ هذا المنظورِ أيَّد شيخُ الإسلام ابنُ تيمية رحمه الله ـ بعد تفصيلٍ طويلٍ في «المجموع» ـ ما سَبَقَ تقريرُه في المضطرِّ إلى المُصانَعةِ بماله، وقد بيَّن ـ في سياق الاستدلال ـ قاعدةً فقهيةً مُهِمَّةً مقتضاها: «أَنَّ التَّحْرِيمَ ـ فِي حَقِّ الآدَمِيِّينَ ـ إِذَا كَانَ مِنْ أَحَدِ الجَانِبَيْنِ لَمْ يَثْبُتْ فِي الجَانِبِ الآخَرِ»(١٠)، وقد أَوْرَدَ لهذه المسألةِ جملةً مِنَ الأمثلة منها:
ـ شراءُ الرجلِ مِلْكَه المغصوبَ مِنَ الغاصب؛ فإنَّ البائع يَحْرُمُ عليه الثمنُ، والمشتري لا يَحْرُمُ عليه أَخْذُ مِلْكِه ولا بَذْلُ ما بَذَلَه مِنَ الثمن.
ـ وكذلك الأسيرُ والعبدُ المُعْتَقُ إذا أَنْكَرَ سيِّدُه عِتْقَه.
ـ والزوجة يُطلِّقُها زوجُها ثمَّ يُنْكِرُ طلاقَها؛ فكُلٌّ منهما يَفْدِي نَفْسَه بالمال ليُحِقَّ حقًّا وهو العتقُ والطلاق، ومعلومٌ أنَّهما حقٌّ لله تعالى، وإلَّا بَقِيَتِ الزوجةُ على غير عصمةٍ(١١).
هذا، ونختم الجوابَ بما جاء في «الزواجر» قوله: «فمَنْ أعطى قاضيًا أو حاكمًا رِشْوةً أو أهدى إليه هديَّةً: فإِنْ كان لِيَحْكُمَ له بباطلٍ أو ليتوصَّلَ بها إلى نيلِ ما لا يَسْتحِقُّ أو إلى أذيَّةِ مسلمٍ فُسِّقَ الراشي والمهدي بالإعطاء، والمرتشي والمُهْدى إليه بالأخذ، والرائشُ (أي: الساعي بين الراشي والمرتشي) بالسعي، وإِنْ لم يَقَعْ حُكْمٌ منه بعد ذلك؛ أو ليَحْكُمَ له بحقٍّ أو لدَفْعِ ظلمٍ عنه أو لينالَ ما يَسْتحِقُّه فُسِّقَ الآخذُ فقط ولم يأثم المعطي لاضطراره إلى التوصُّلِ إلى حقِّه بأيِّ طريقٍ كان، وأمَّا الرائش.. فتابعٌ للراشي في قصدِه: إِنْ قَصَدَ خيرًا لم تلحقه اللعنةُ وإلَّا لَحِقَتْه»(١٢).
هذا، وجديرٌ بالتنبيه والملاحظة أنَّ الذي يُصانِعُ بماله ينبغي عليه أَنْ يكره الفعلَ ويُنْكِرَ على الفاعل ـ ولو بقلبه ـ مِنْ غيرِ أَنْ يكون راضيًا أو باغيًا له.
هذا، والحريص على دِينه ـ إِنْ لم يكن مضطرًّا لمِثْلِ هذه الأعمال التجارية ـ فإنَّ عليه أَنْ يهجرها إلى أعمالٍ أخرى تجنُّبًا للمعصية ومُخالَطةِ أهل المعاصي والظلم والعدوان، وابتعادًا عن الآثام؛ لئلَّا تهون عنده المعصيةُ فيتعاملَ بها ويرضى ويحثَّ الناسَ عليها؛ فقَدْ جاء في الحديث: «المُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللهُ عَنْهُ»(١٣)، وما نَهَى عنه رجسٌ، والمسلمُ مأمورٌ باجتناب الرجس، قال تعالى: ﴿وَٱلرُّجۡزَ فَٱهۡجُرۡ) [المدَّثِّر].
والعلم عند الله تعالى، وآخِرُ دعوانا أنِ الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله على محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسلَّم تسليمًا.
الجزائر في: ٢٠ ذي القعدة ١٤١٨ﻫالموافق ﻟ: ١٩ مارس ١٩٩٨م
(١) أخرجه أحمد (٩٠٢٣)، وابنُ حبَّان (٥٠٧٦)، مِنْ حديثِ أبي هريرة رضي الله عنه. وصحَّحه الألبانيُّ في «صحيح الجامع» (٥٠٩٣).
(٢) انظر: «التعريفات» للجرجاني (١١١).
(٣) انظر: «الزواجر» للهيتمي (٢٤٨).
(٤) أخرجه أحمد (١١١٢٣)، وابنُ حبَّان (٣٤١٤)، والحاكم (١٤٤)، وأبو يعلى في «مسنده» (١٣٢٧)، مِنْ حديثِ عمر رضي الله عنه. وصحَّحه الألبانيُّ في «صحيح الترغيب والترهيب» (٨٤٤) وفي «غاية المرام» (٤٦٣).
(٥) أخرجه البيهقيُّ في «السنن الكبرى» (٢٠٤٨٢)، وانظر: «شرح السنَّة» للبغوي (١٠/ ٨٨) و«تفسير القرطبي» (٦/ ١٨٤).
(٦) «عارضة الأحوذي» لابن العربي (٦/ ٨٠).
(٧) «تحفة الأحوذي» للمباركفوري (٤/ ٥٦٥).
(٨) «المغني» لابن قدامة (٣/ ٢١٩، ٩/ ٧٧ ـ ٢٧٨).
(٩) «تفسير القرطبي» (٦/ ١٨٣).
(١٠) «مجموع الفتاوى» لابن تيمية (٢٩/ ٢٥٨).
(١١) انظر: المصدر السابق، الجزء والصفحة نفسهما.
(١٢) «الزواجر» للهيتمي (٦٣٠).
(١٣) أخرجه البخاريُّ في «الإيمان» باب: المُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ المُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ (١٠) مِنْ حديثِ عبد الله بنِ عمرو بنِ العاص رضي الله عنهما.
في حالات بيع التقسيط – و المرابحة البنكية مع التأمين و عدم نقل الملكية
من الفتوى رقم: ٢٣٧
اعْلَمْ أنَّ بيع التقسيطِ له ثلاثُ حالاتٍ:
ـ فإِنِ اتَّفق المُتبايِعان على ثمنٍ واحدٍ يُدْفَع على أقساطٍ دوريةٍ بحيث يمتلك المشتري السيَّارةَ ـ ابتداءً ـ وتبقى ذِمَّتُه مشغولةً بديون الأقساط الأخرى يدفعها بحسَبِ ما جَرَى عليه التعاقدُ، مِنْ غيرِ قيدٍ مُخالِفٍ لمقتضى العقد ولا شرطٍ منهيٍّ عنه؛ فإنه يجوز البيعُ بالتقسيط على هذا الوجه، لا أعلمُ فيه اختلافًا.
ـ وإِنْ كان بهذه الصفةِ وعلى أساسِ الاختيار بين ثمنين: ثمنِ الحال وثمنِ الآجل، فهذا محلُّ خلافٍ، وما عليه أكثرُ العلماءِ جوازُه، وبهذا أفتَتْ هيئةُ كبار العلماء بالسعودية.
ـ والحالة الثالثة: أَنْ يكون على أساسِ بيع المرابحة، أي: تشتري له الشركةُ سيَّارةً وتبقى مِلْكيَّتُها لها، ثمَّ تبيعها له بأقساطٍ يدفعها تدريجيًّا إلى أَنْ ينتهيَ الأجل، فهذا ـ في حقيقة الأمر ـ عبارةٌ عن قرضٍ ربويٍّ في صورةِ بيعٍ، علمًا أنَّ مِثْلَ هذه القروضِ المقنَّعة بالبيع تجري عليها البنوكُ الحالية في تعامُلِها مع زبائنها، وبيعُ المرابحة البنكيُّ أسوأُ حالًا مِنْ بيع المرابحة الفقهيِّ الذي لم يُجِزْه الجمهورُ لعدمِ انتقال المِلْكية في البيع أوَّلًا، ولإجبار المشتري على التأمين على كُلِّ الأخطار كشرطٍ في أصل المعاملة، فضلًا عمَّا تقدَّم مِنْ أنه ليس بيعًا حقيقيًّا لعدمِ حاجة البنك ابتداءً لِمَا يحتاجه المشتري، وإنما غرضُ البنك في الزيادات الربوية المُعطاةِ بقرضٍ مُحلًّى بالبيع.
وعليه، إذا كانَتْ هذه الشركةُ تتعامل بنفس أسلوب البنك فذلك غيرُ جائزٍ شرعًا، أمَّا على الصورة الأولى والثانية فظاهرُهما الجوازُ.
من الفتوى رقم: ٤٦٧ – فيها سبب منع الشيخ من المرابحة المصرفية (إلزامية الوعد)
إنَّ ما يُجْريهِ ديوانُ تشغيل الشباب مِنْ مُعامَلاتٍ لفائدة الشباب عن طريق البنك حيث يحصلون على آلات العمل ويُسدِّدونها بالتقسيط بواسطةِ بيعِ المُرابَحةِ الذي يقوم مَقامَ الإقراضِ الربويِّ الجاري في البنوك الربوية، حيث يَعِدُ البنكُ بأَنْ يَشْترِيَ البضاعةَ، على أَنْ يبيعَها بربحٍ معلومٍ للمشتري، الذي يَلْتزِمُ بشرائها منه بمجرَّدِ الوعد بالبيع ويُسدِّدها له بالتقسيط ضِمْنَ آجالٍ محدَّدةٍ، هذا التعاملُ الذي يرى فيه بعضُ المُفْتين الفُضَلاءِ إلزاميةَ الوفاءِ بالوعد بالبيع ويجعلونه في مَقامِ العقد؛ بناءً على ظواهِرِ بعضِ الآيات القرآنية والسنَّةِ النبوية، منها: قولُه تعالى: ﴿إِنَّ وَعۡدَ ٱللَّهِ حَقّ ﴾ [يونس: ٥٥]، وقولُه تعالى: ﴿وَٱذۡكُرۡ فِي ٱلۡكِتَٰبِ إِسۡمَٰعِيلَۚ إِنَّهُۥ كَانَ صَادِقَ ٱلۡوَعۡدِ وَكَانَ رَسُولٗا نَّبِيّٗا ٥٤﴾ [مريم]، وقولُه تعالى: ﴿فَأَعۡقَبَهُمۡ نِفَاقٗا فِي قُلُوبِهِمۡ إِلَىٰ يَوۡمِ يَلۡقَوۡنَهُۥ بِمَآ أَخۡلَفُواْ ٱللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكۡذِبُونَ ٧٧﴾ [التوبة]، وقولُه تعالى: ﴿وَعۡدَ ٱلصِّدۡقِ ٱلَّذِي كَانُواْ يُوعَدُونَ ١٦﴾ [الأحقاف]، ومِنَ السنَّةِ: قولُه صلَّى الله عليه وسلَّم: «آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ»(١)، ولا يخفى أنه ليس في هذه النصوصِ الشرعيَّةِ ما يدلُّ على تحريمِ إخلافِ الوعدِ ولزومِ الوفاءِ به؛ ذلك لأنَّ الوعد في سورة التوبة إنما المقصودُ به: العهدُ الذي هو الميثاقُ والالتزامُ والنذرُ على نحوِ ما بيَّنَتْه الآيةُ التي قبلها، وهو خارجٌ عن مَحَلِّ النزاع، كما أنَّ الوعد للمُسْتَقْبَلِ فلا يَنْطبِقُ عليه الصدقُ والكذبُ كما بيَّنَهُ صاحِبُ «الفروق» في «الفرق: ٢١٤ »: «بين قاعدةِ الكذب وقاعدةِ الوعد وما يجب الوفاءُ به منه وما لا يجب» حيث يقول: «إنَّ المُسْتقبَلَ زمانٌ يقبل الوجودَ والعدم، ولم يَقَعْ فيه ـ بعدُ ـ وجودٌ ولا عدمٌ؛ فلا يُوصَفُ الخبرُ عند الإطلاقِ بعدَمِ المُطابَقةِ ولا بالمُطابَقةِ لأنه لم يَقَعْ ـ بعدُ ـ ما يقتضي أَحَدَهما، وحيث قلنا: «الصدقُ: القولُ المُطابِقُ، والكذبُ: القولُ الذي ليس بمُطابِقٍ»: ظاهرٌ في وقوعِ وصفِ المُطابَقةِ أو عدَمِها بالفعل، وذلك مختصٌّ بالحال والماضي، وأمَّا المُسْتقبَلُ فليس فيه إلَّا قَبولُ المُطابَقةِ وعَدَمِها»(٢). وأمَّا الإخلافُ في صفةِ المُنافِقِ في الحديث، فليس فيه دليلٌ على لزومِ الوفاء بالوعد؛ لأنَّ غايةَ ما يدلُّ عليه هو أنه يُذَمُّ به فيما إذا كان الإخلافُ بالوعد على وَفْقِ مُقْتضى حالِه، وكان سجيَّةً له وطبعًا، وما كان كذلك فلا يَغيبُ عن بالٍ أنه يَحْسُنُ الذمُّ بها.
فالحاصل: أنَّ العُلَماءَ أجمعوا على أنَّ مَنْ وَعَدَ إنسانًا شيئًا ليس بمنهيٍّ عنه فينبغي أَنْ يَفِيَ بوعده، وأنَّ ذلك معدودٌ مِنْ مَكارِمِ الأخلاق(٣)، لكنَّ الوفاء به ـ على مذهب الجمهور ـ غيرُ لازمٍ، وإنما يُسْتَحَبُّ له ذلك؛ فلو تَرَكَهُ فاتَهُ الفضلُ وارتكب المكروهَ كراهةً شديدةً، ولكنَّه لا يأثم، وبهذا قال أبو حنيفة ومالكٌ ـ في روايةٍ ـ والشافعيُّ وأحمدُ وابنُ حزمٍ وغيرُهم(٤).
وإذا تَقرَّرَ عدَمُ لزومِ الوفاء بالوعد ظَهَرَ الفرقُ بينه وبين العقد؛ فالعقدُ هو تَطابُقُ إرادتين وارتباطُهما على وجه التحقُّقِ والإنجاز، بينما الوعدُ هو إبداءُ الرغبةِ في تحقيقِ أمرٍ ما للغير على وجهِ الإحسان والمعروف؛ فمَنْ وَعَدَ بالوفاء به وهو عاقِدٌ العزمَ على تحقيقه له، لكِنْ حالَتِ الظروفُ دون ذلك فأَخْلَفَ فلا حَرَجَ عليه، وإنما الحَرَجُ والضيقُ على مَنْ عَزْمُه على الإخلاف بالوعد معقودٌ؛ فهو واقعٌ في المكروه ولا يَلْحَقُه إثمٌ، ولا يَلْزَمُه الوفاءُ بوعده.
ومِنْ هنا يظهر أنَّ بيع المُرابَحةِ الذي يجري في البنوكِ القائمة على الإلزام بالمُواعَدةِ إنما هي طريقةٌ قائمةٌ مَقامَ الإقراضِ الربويِّ، وخاصَّةً وأنَّ البنك ـ في كُلِّ الأحوال ـ يَضْمَنُ الربحَ، ويَشْتَرِطُ على المُتعامِلِ معه التأمينَ على كُلِّ الأخطار على حساب المُتعامِل. وبغضِّ النظر عن ممنوعيَّةِ التأمين، فإنَّ البنك يجعل لنَفْسِه مأمنًا تعويضيًّا عن أيِّ خسارةٍ قد تنجرُّ عن هذه المُعامَلةِ المالية.
وحريٌّ بالتنبيه أنَّ مَوانِعَ البنوكِ الحاليةِ مِنِ اتِّخاذِ مَحَلاَّتٍ لقَبْضِ المَبيعِ أو فضاءاتٍ لحيازته إنما هي مَوانِعُ قانونيةٌ بحتةٌ؛ ذلك لأنَّ أساسَ تقنينِ البنوك في نشأتها وعَمَلِها: كونُها مَصْرِفيةً تَتعامَلُ بالقروض الربوية وليسَتْ صفتُها تجاريةً حتَّى يتسنَّى لها التعاملُ التجاريُّ باتِّخاذِ مَحَلاَّتٍ للقبض ومَحَطَّاتٍ للبيع.
وعليه، فإنَّ ديوان تشغيلِ الشباب إِنْ كان يطمح إلى توفيرِ اليد المهنيَّةِ وامتصاصِ البطالة وتقويةِ الاقتصاد؛ فالواجب عليه أَنْ يسعى إلى توفيرِ مَناصِبِ شُغْلٍ بقروضٍ حَسَنةٍ خاليةٍ مِنْ أيِّ عوائدَ مادِّيَّةٍ، وذلك بإبعادِ التدخُّلِ المُفْتعَلِ للبنوك التي مَدارُ تَعامُلِها على أَكْلِ أموال الناس بالباطل، ولا يَهُمُّها تشغيلُ الشباب مِنْ تضييعه، وهي لا تزيد الشبابَ العاطل إلَّا محقًا وفقرًا وتهوينًا. واللهُ المستعان.
ولا يُفَكُّ عن الشباب العاطل ما أُغْلِقَ عليه مِنْ آفاق العمل بإسعافه بقروضٍ ربويةٍ تَتَكفَّلُ الدولةُ بتسديدِ فوائدها؛ إذ المعلومُ أنَّ القرض لا يَفْقِدُ صفةَ رِبويَّته إذا قام غيرُ المُقْتَرِضِ بتسديده، سواءٌ كان المُتكفِّلُ بالتسديد شخصًا طبيعيًّا كأحَدِ أقاربه أو شخصًا معنويًّا اعتباريًّا كإحدى الهيئات الإدارية أو المؤسَّسات الحكومية؛ لأنَّ الزيادة الربوية اشْتُرِطَتْ عند عقدِ القرض؛ فهي تَنْدرِجُ ضِمْنَ قاعدةِ: «كُلُّ قَرْضٍ جَرَّ مَنْفَعَةً فَهُوَ رِبًا» بِغَضِّ النظرِ عن مُسدِّدِه.
هذا، وعلى المسلم أَنْ يَحْذَرَ الرِّبَا في مُعامَلاتِه، ويتجنَّبَ اختلاطَه بأمواله، ويعملَ على دَفْعِه أو رَفْعِه متى عَلِمَ به في حدود الطاقة والإمكان؛ ذلك لأنَّ أَكْل الرِّبَا والتعاملَ به وتَعاطِيَه مِنَ المُوبِقاتِ العِظام، يَضَعُ صاحِبَه في مَوْقِفِ مُحارَبةِ الله ورسوله؛ الأمرُ الذي يُوجِبُ مِنَ الله عقوبتَه في الدنيا بإتلافِ المال ومَحْقِ البركة، وعقوبةً في الآخرة هي أَشَدُّ وأَبْقَى، قال تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ ٱلرِّبَوٰٓاْ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَ ٢٧٨ فَإِن لَّمۡ تَفۡعَلُواْ فَأۡذَنُواْ بِحَرۡبٖ مِّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦۖ وَإِن تُبۡتُمۡ فَلَكُمۡ رُءُوسُ أَمۡوَٰلِكُمۡ لَا تَظۡلِمُونَ وَلَا تُظۡلَمُونَ ٢٧٩﴾ [البقرة]، فما ظَهَرَ الزِّنَا والرِّبا في قومٍ إلَّا استفحلَتْ فيهم الأمراضُ المُسْتَعْصِيَةُ وظَهَرَ فيهم الفقرُ وظُلْمُ السلطان، واللهُ المستعان.
والعلم عند الله تعالى، وآخِرُ دعوانا أنِ الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبِه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسلَّم تسليمًا.
من الفتوى رقم: ٤٦٥
فالصفات والأسماء التي تُعْطَى للبنوك لا يَلزم مطابقتُها للموصوفات وللمسمَّيات، فالعبرة بالمسمَّيات لا بالأسماء، فالبنوكُ الإسلامية الحاليَّة لا تختلف في جوهرها وحقيقتها عن البنوك الربوية، حيث تتعامل تحايلاً على الشرع ضمن ما يسمَّى ببيع المرابحة الذي هو في حقيقته قرضٌ ربويٌّ مقنَّعٌ بالبيع، حيث يقوم البنك بشراء سلعةٍ للتاجر التي لا يمتلكها البنك، وليس له حاجةٌ إليها، وإنما حاجتُه وقصدُه هو تحقيق نسبة المرابحة، فيقصد مع التاجر بيعًا لا حقيقة له في الواقع، وإنما هو عقدٌ صوريٌّ أُخفي فيه القرض الربويُّ المحرَّم بنصوص الوعيد، وأُظهر فيه البيع، وفي الحديث: «يَأْتِي زَمَانٌ عَلَى أُمَّتِي يَسْتَحِلُّونَ الرِّبَا بِالبَيْعِ»
في حقوق الملكية الفكرية، و التأليف و التسجيل بشقيها الأدبي و المالي
من الفتوى رقم: ٣٥٤
بعد الاطِّلاع على سؤالكم المفصَّل بمراحلِ قضيَّةِ حقوقِ أشرطة الشيخ الألبانيِّ ـ رحمه الله ـ والاستظهارِ بآراء المذكورين في السؤال المُنتِسبين للشيخ الألباني ـ رحمه الله ـ ففي اعتقادي أنَّ الطرح ليس على مسألةِ ما اصطُلِح عليه بحقِّ الإنتاج الذهني، أو الحقِّ الفكريِّ أو حقِّ الابتكار بشِقَّيْه الأدبيِّ والماليِّ، هذا نوعٌ مِنَ الحقِّ الذي لم يكن معروفًا في الشرائع القديمة، تَولَّد مِنَ العوامل والوسائل المدنية والاقتصادية الحديثة، وفرَضَ نفسَه كمبدإٍ شرعيٍّ مخرَّجٍ على قاعدةِ المصالح المُرْسَلة في مجال الحقوق الخاصَّة، فإنَّ المنظور المقاصديَّ في إقرارِ مثلِ هذه الحقوقِ مبنيٌّ على تشجيع الاختراع والإبداع بحمايته مِنْ سطو الغير على حصيلة الجهد وثمرة الابتكار والتفكير، ولا شكَّ أنَّ حرمة هذا الحقِّ مِنْ جهته الأدبية يبقى لصاحب الحقِّ خالصًا مِنْ غيرِ مُنازِعٍ، وهو ما تقتضيه الديانةُ وتحمُّلُ الأمانة، لكنَّ الطرح الذي يفرض نَفْسَه يكمن في التساؤل عن حرمةِ هذا الحقِّ مِنْ جانبه الماليِّ بعد انتشار الإنتاج الذهنيِّ على وجه العموم واستفادةِ الناس منه مِنْ غيرِ مطالبةِ صاحب الحقِّ ـ مبدئيًّا ـ بحقِّ الاحتفاظ به، فهل ينقلب الحقُّ الخاصُّ مِنْ هذا الجانبِ إلى حقٍّ عامٍّ يفقد صاحبُه حمايةَ الحقِّ الماليِّ أم لا؟؟
وفي تقديري أنَّ حقَّه الخاصَّ صار مِنْ حقِّ الأمَّةِ في الاستفادة مِنْ تلك العلوم والمعارف الشرعية لسَدِّ حاجاتها وتنميةِ مواهبها وتعميمِ نفعها، ويتبلور ذلك في حلقاته العامة التي أجاز فيها لمبتغي العلم التسجيل، لذلك لا يَسَعُ صاحبَ دار المعارف المطالبةُ بحماية الحقِّ الماليِّ ما دام أن الألباني رحمه الله لم يشترطِ ابتداءً حمايتَه، وإنَّما أَطْلَقه للنفع العامِّ، مع آكَدِيَّة الاحتفاظ بحقِّه الأدبيِّ، ومراعاةِ شروطه وآدابه والأحكام المتعلِّقة به، شأنُه في ذلك كالمؤلَّفات القديمة والكُتُب التراثية.
من الفتوى رقم: ٥٠٩
فإنَّ الأقراص التي تحمل إنتاجًا ذهنيًّا تدخل في حقِّ الابتكار، أو في الحقِّ الفكريِّ بشقَّيْه الأدبيِّ والماليِّ، وهي معدودةٌ مِن الإنتاجات العلمية والفكرية والأدبية، لا تختلف عن حقوق التأليف والابتكار الذي هو حقٌّ ذهنيٌّ مخرَّجٌ على قاعدة المَصالِح المُرْسَلة في مجال الحقوق الخاصَّة، والغايةُ مِن هذا الحقِّ تشجيعُ الاختراع والإبداعِ بحمايته مِن كُلِّ اعتداءٍ على حصيلةِ جُهْدِ الغير وثمرةِ أتعابه، والذي تقتضيه أحكامُ الشريعة وتحمُّلُ الأمانةِ أنَّ حرمة هذا الحقِّ يبقى خالصًا لصاحب الحقِّ مِن جهته الأدبية فلا يجوز تغييرُ اسمه وإحلالُ غيره مَحَلَّه، أو تزويرُ ما أنتجه أو السطوُ على ما حقَّقه لأنه مِن الغشِّ والكذب والخيانة والإخلالِ بالأمانة، أمَّا مِن حيث جهتُه الماليةُ فلا يجوز ـ أيضًا ـ الاعتداءُ على مالِه لأنَّ «الأَصْلَ فِي الأَمْوَالِ الحُرْمَةُ»، وتحصيلُ الأرباحِ والأموالِ على حقِّ الغير مِن غير طِيبِ نفسٍ منه ظلمٌ، وفي الحديث: قال الله تعالى: «يَا عِبَادِي، إِنِّي حَرَّمْتُ الظَّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلاَ تَظَالَمُوا»، وفي قوله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «لاَ يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلاَّ بِطِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ»، وقد يُستثنى ممَّا تقدَّم ـ مِن الجهة المالية ـ نسخُ قرصٍ أصليٍّ أو شراؤه للحاجة إليه في الاستعمال الشخصيِّ إذا لم يجد إلاَّ القرصَ المنسوخ في السوق، أو وَجَد الأصليَّ لكن بثمنٍ يعجز عليه وحاجتُه إليه ضروريةٌ ولا تكفيه استعارتُه، وعلى كُلِّ حالٍ لا يجوز له الانتفاعُ به في التعامل التجاريِّ إلاَّ بإذن صاحِبِه، سواءٌ بإذنٍ خاصٍّ أو عامٍّ، ويجوز الانتفاعُ به في الاستعمال الشخصيِّ عند الحاجة وبشرطها المتقدِّم.
أثار البيع المحرم لذاته و المحرم لغيره – و قاعدة ثبوت الخيار قاضٍ بصحَّة البيع
من الفتوى رقم: ٣٥٩
قال الشيخ في بيع بضائع مقلدة “… وهذا البيع صحيحٌ مع أنه حرامٌ لغيره؛ لِمَا فيه مِنَ الاعتداء على مال الآخرين بغير إذنهم، والكذبِ على الناس وغِشِّهم، ومخالفةِ وليِّ الأمر، وهذه صفاتٌ قبيحةٌ وإذايةٌ للمسلمين، والقبحُ وأذى المسلمين لا يكون خُلُقًا للمسلم ولا وصفًا له بحالٍ؛ قال تعالى: ﴿وَٱلَّذِينَ يُؤۡذُونَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ وَٱلۡمُؤۡمِنَٰتِ بِغَيۡرِ مَا ٱكۡتَسَبُواْ فَقَدِ ٱحۡتَمَلُواْ بُهۡتَٰنٗا وَإِثۡمٗا مُّبِينٗا ٥٨﴾ [الأحزاب]، وقال تعالى: ﴿وَلَا يَحِيقُ ٱلۡمَكۡرُ ٱلسَّيِّئُ إِلَّا بِأَهۡلِهِۦ﴾ [فاطر: ٤٣]، وقال صلَّى الله عليه وسلَّم: «مَنْ غَشَّ فَلَيْسَ مِنِّي»…
ويلحقه الإثمُ، ويبقى البيعُ موقوفًا على رأي المشتري في التخيير بين الإمساك والردِّ، وذلك بعد علمه، وربحُ البائع ليس محرَّمًا لذاته؛ لذلك يصحُّ له أَنْ ينتفع به، وعليه أَنْ يتوب مِنْ معاملته، وما بقي عنده مِنْ تلك البضاعةِ فعليه تعريفُ المشتري بحالها إِنْ رَغِب في شرائها منه، ويمتنِع ـ بعد التخلُّص منها ـ أَنْ يعود إليها أو يعين عليها.
علمًا أنَّ النهي عن الكذب والغشِّ والتدليس وكتمانِ العيب ونحوِها في المعاملات أو في حقِّ العبد لا يُفْسِد أصلَ البيع، ويدلُّ عليه حديثُ حكيم بنِ حزامٍ رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال: «البَيِّعَانِ بِالخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا ـ أَوْ قَالَ: حَتَّى يَتَفَرَّقَا ـ فَإِنْ صَدَقَا وَبَيَّنَا بُورِكَ لَهُمَا فِي بَيْعِهِمَا، وَإِنْ كَتَمَا وَكَذَبَا مُحِقَتْ بَرَكَةُ بَيْعِهِمَا» وحديثُ أبي هريرة رضي الله عنه في قوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «لَا تُصَرُّوا الإِبِلَ وَالغَنَمَ، فَمَنِ ابْتَاعَهَا بَعْدُ فَإِنَّهُ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ بَعْدَ أَنْ يَحْتَلِبَهَا: إِنْ شَاءَ أَمْسَكَ، وَإِنْ شَاءَ رَدَّهَا وَصَاعَ تَمْرٍ» ولا يخفى أنَّ ثبوت الخيار قاضٍ بصحَّة البيع.
من الفتوى رقم: ٦٥١ – في حكم المتاجرة بموادَّ تحمل علاماتٍ تجاريةً مزوَّرةً
فإِنْ كانت هذه البضاعةُ المعروضةُ للبيع تحملُ علاماتٍ تجاريةً لشركاتٍ أخرى لم تُرخِّصْ فيها فإنَّ ذلك يُعَدُّ اعتداءً على حقِّ الابتكارِ الصناعيِّ وعلى العنوان التجاريِّ، وهي داخلةٌ في الحقوق المالية، والأصلُ في الأموال التحريمُ إلاَّ ما كان بطيبِ نَفْسٍ مِن أصحابها، لقوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وَسَلَّم: «لاَ يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلاَّ بِطِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ»(١)، والشأنُ في ذلك كشأنِ كُلِّ الحقوقِ الذِّهنية والعينية والتبعية.
وعليه، إن كانت له هذه البضائعُ التي لم يَعْلَمْ حقيقتَها أو حُكْمَها فإنّه يتخلَّص منها ثمَّ لا يرجع إلى المُتاجَرةِ فيها، أمَّا إذا لم يقبضها بعدُ فينبغي التخلِّي عن التعامل بها، علمًا أنَّ أبوابَ الرِّزق واسعةٌ، وليتخَيَّرْ منها ما ينشر به الفضيلةَ، ويُحقِّق به الرزقَ الطيبَ الحلالَ.
أمَّا المشتري إذا أضحى مُعطَّلاً لفقدان بعض اللوازم التي يحتاجها لأدواته وآلاته وسيَّارته، ولم يجد الأصليَّ مِن الموادِّ المصنَّعة وقِطَعِ الغيار إلاَّ ما راج مغشوشًا مِن الموادِّ ذاتِ الحاجة الأكيدة فيجوز ـ برضاه ـ أَنْ يشتريَ المغشوشَ والمَعيبَ، ولو اطَّلع عليه وعَلِمَ به للحاجة، و«الحَاجَةُ تُنَزَّلُ مَنِْزَلَةَ الضَّرُورَةِ عَامَّةً كَانَتْ أَوْ خَاصَّةً».
في تجارة النجاسات:
من الفتوى رقم: ١٠٢٣ – في حكم بيع العطور وأدوات التجميل والزينة (المساحيق)
وقد اتَّفق العلماء على تحريم الانتفاع بشحوم الميتة والخنزيرِ والأدهان المتنجِّسة في أكل الآدميِّ ودَهْنِ بدنه، فيحرمان كحرمة أكلِ الميتة والترطُّب بالنجاسة، لقوله تعالى: ﴿قُلْ لاَ أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ﴾[الأنعام: ١٤٥].
من الفتوى رقم: ٢١٨ – في حكم بيع دم الآدمي
فدَمُ الآدميِّ لا يجوز بيعُه؛ لدخوله في عموم النهي في قوله تعالى: ﴿حُرِّمَتۡ عَلَيۡكُمُ ٱلۡمَيۡتَةُ وَٱلدَّمُ﴾ [المائدة: ٣]، ونهيِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم «عَنْ ثَمَنِ الدَّمِ، وَثَمَنِ الكَلْبِ، وَكَسْبِ الأَمَةِ»(١)، وبيعُ الدم كبيع الميتة والخنزيرِ إجماعًا انظر: «الإجماع» لابن المنذر (١٠١).
في حكم البيع بثمن المثل (المجهول) عند العقد، و حالاته
من الفتوى رقم: ١٠٥٢ – في حكم البيع بقيمة النظير في السوق
فالمقرَّر –فقهًا- أنَّ معلوميةَ قدرِ الثمن للطَّرفين في وقت العقد شرطٌ مُتَّفقٌ عليه، غيرَ أنَّ الفقهاء يختلفون في الغرر الحاصل في صورة البيع المذكور أعلاه، أهو غررٌ يُفْسِد البَيْعَ لاحتمال الوقوعِ في الغبن أم أنّه غررٌ معلَّق بما يُزِيل الجهالة؟ ومذهب جمهور العلماء: أنّهم يقرِّرون عدمَ صحّة البيع بثمنٍ مجهولٍ للطّرفين لعدم علمهما بما يرسُو عليه السّعر في المستقبل، ذلك لأنَّ البائع قد يقدّر ثمنًا، ويكون الثّمَنُ الذي بَذَلَه المشتري دون تقديره فيحصل له الغبن، وكذلك المشتري قد يقدّر ثمنًا، ويكون الثّمَنُ الذي يريدُه البائع أزْيدَ مما قدّره، فالجهالةُ في قدر الثّمن تُفْضي إلى الغرر والنّزاع، ذلك لأنّ العلمَ بما يَثْبُتُ به السّعرُ مجهولٌ وقتَ العقدِ، وقد صحَّ عنه صلَّى الله عليه وآله وسلم أنّه نهى عن الغرر.
يذهب الإمامُ أحمدُ -رحمه الله- في روايةٍ عنه إلى جوازِ البيع بما ينقطع به السّعرُ، وهي روايةٌ رجَّحها ابنُ تيميّةَ وابنُ القيّم -رحمهما الله-، لأنَّ البيع بقيمةِ النّظير في السّوق بَيْعٌ بثمن المثل، فيجوز قياسًا على ثمن المثل في النّكاح أو الإجارة بأجرة المثل كالمُكاري وقيّم الحمّام ونحو ذلك، ولو كان الثّمنُ عند العقد مجهولاً، إلاَّ أنّه معلَّقٌ بشيءٍ يزيلُ الجهالة، وينتفي الغبنُ إذا علم المشتري بأنَّه اشتراها بسعرِ أشباهها، علمًا أنّ هذه المعاملةَ تدفع المشقّة عن النّاس وتُحَقِّق مصالِحَهم مصداقًا لقوله تعالى: ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾ [الحج: ٧٨]، قال ابنُ القيم –رحمه الله-: «والصّوابُ المقطوعُ به –وهو عملُ النّاس في كلِّ عصرٍ ومصرٍ- جوازُ البيعِ بما ينقطعُ به السّعرُ، وهو منصوصُ الإمام أحمدَ، واختاره شيخُنا، وسمعتُه يقول: «هو أطْيبُ لقلبِ المشتري من المساومة، يقول: «لي أسوةٌ بالنّاس، آخُذُ بما يأخذُ به غيري»، قال: والذين يمنعون من ذلك لا يمكنهم تَرْكُه، بل هم واقعون فيه، وليس في كتابِ الله ولا سنّةِ رسوله ولا إجماعِ الأمَّة ولا قولِ صاحبٍ ولا قياسٍ صحيحٍ ما يحرّمه. وقد أجمعت الأمَّة على صحّة النّكاح بمهر المثل، وأكثرُهم يجوّزون عقْدَ الإجارة بأجرة المثل كالنّكاح والغسَّال والخبَّاز والملاَّح وقيِّم الحمَّامِ والمُكاري والبيعِ بثمن المثلِ كبيعِ ماء الحمَّام، فغايةُ البيعِ بالسعرِ أن يكونَ بيعُه بثمنِ المثل فيجوز كما تجوزُ المعاوضةُ بثمنِ المثلِ في هذه الصّورة وغيرِها، فهذا هو القياسُ الصّحيح، ولا تقوم مَصالِحُ النّاس إلاَّ بهِ» «أعلام الموقعين» لابن القيم: (٤/ ٦).
في حكم البيع بشرط الإعفاء من الضمان ، و أحكام الرد بالعيب، و ضابط العيب المعتبر
من الفتوى رقم: ١٠٦٤ – في حكم البيع بشرط الإعفاء من الضمان
فإذا اشترط البائعُ على المشتري إعفاءَه مِنْ ضمانِ العيبِ وبراءتَه مِن مسئوليّتِه عما يمكن أن يظهرَ مِنْ عيوبٍ في المبيعِ، وبناءً على سلامةِ المبيعِ الظّاهرةِ قَبِلَ المشتري بهذا الشّرطِ، ثمّ ظهر فيه عيبٌ قديمٌ معتبرٌ سابقٌ للبيعِ قبل انتقالِ الملكيّةِ إلى المشتري أو عند انتقالِها كحدٍّ أقصى، فإنْ كان البائعُ سيِّئَ النّيّةِ يعلم بالعيبِ ويُخفيه فلا يصحّ شرطُ البراءةِ مِنْ عيبٍ عَلِمَه، ويبقى الضّمانُ على عهدةِ البائعِ في ردِّ قيمةِ المبيعِ، لأنّه مدلّسٌ يدخل تحت الذّمِّ والنّهيِ في قولِه صلّى الله عليه وآلِه وسلّم: «الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ وَلاَ يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ بَاعَ مِنْ أَخِيهِ بَيْعًا فِيهِ عَيْبٌ إِلاَّ بَيَّنَهُ لَهُ»، وفي قولِه صلّى الله عليه وآلِه وسلّم: «مَنْ غَشَّ فَلَيْسَ مِنَّا»، وعليه فلا يسقط عنه الضّمانُ إلاّ إذا أعفاه المشتري منه، وبهذا قال الجمهورُ، وهو مذهبُ مالكٍ والشّافعيِّ وروايةٌ عن أحمدَ خلافًا للأحنافِ فإنّه يصحّ البيعُ بشرطِ البراءةِ مِنْ كلِّ عيبٍ مطلقًا سواء كان البائعُ عالمًا بالعيبِ أو جاهلاً به.
أمّا إذا كان البائعُ حَسَنَ النّيّةِ أي لا يعلم بالعيبِ فيصحّ عند مالكٍ وفي رواية عن أحمدَ، وهو قولُ الشّافعيِّ في الحيوانِ خاصّةً، لعدمِ ارتكابِه الذّمَّ، وتمهّد عذرُه في ذلك، وبهذا قضى عثمانُ رضي اللهُ عنه لِمَا روى مالكٌ وغيرُه أَنَّ «عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ بَاعَ غُلاَمًا لَهُ بِثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ، وَبَاعَهُ بِالْبَرَاءَةِ، فَقَالَ الَّذِي ابْتَاعَهُ لِعَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ: «بِالْغُلاَمِ دَاءٌ لَمْ تُسَمِّهِ لِي»، فَاخْتَصَمَا إِلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، فَقَالَ الرَّجُلُ: «بَاعَنِي عَبْدًا وَبِهِ دَاءٌ لَمْ يُسَمِّهِ»، وَقَالَ عَبْدُ اللهِ: «بِعْتُهُ بِالْبَرَاءَةِ»، فَقَضَى عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ عَلَى عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ أَنْ يَحْلِفَ لَهُ لَقَدْ بَاعَهُ الْعَبْدَ وَمَا بِهِ دَاءٌ يَعْلَمُهُ، فَأَبَى عَبْدُ اللهِ أَنْ يَحْلِفَ وَارْتَجَعَ الْعَبْدَ، فَصَحَّ عِنْدَهُ فَبَاعَهُ عَبْدُ اللهِ بَعْدَ ذَلِكَ بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةِ دِرْهَمٍ»
والصّحيحُ المختارُ أنّه لا تبرأ ذمّةُ البائعِ مِنْ ضمانِ العيبِ مطلقًا وأنّ شرْطَه يقع لاغيًا سواء عَلِمَ به البائعُ أو لم يعلمْ، لأنّ خيارَ العيبِ ثبت شرعًا بمطلقِ العقدِ فلَمْ يسقطْ بشرطِ الإسقاطِ، ولأنّ في شرطِ البراءةِ مِنْ كلِّ عيبٍ خطرًا وغررًا وهما منتفيان شرعًا، وقد صحّ نهيُه صلّى اللهُ عليه وآلِه وسلّم عن الغررِ، وعليه فلا يصحّ شرطُ البراءةِ مِنَ العيوبِ، وشرطُه لا يُفْسِدُ البيعَ، ويبقى للمشتري حقُّ الخيارِ بين الإمساكِ والرّدِّ، أمّا قضاءُ عثمانَ رضي اللهُ عنه فقدْ خالفه ابنُ عُمَرَ رضي اللهُ عنهما، وقولُ الصّحابيِّ المخالَفِ لا يبقى حُجّةً، وخاصّةً إذا عارضتْه سنّةٌ ثابتةٌ تنهى عن المخاطرةِ والغررِ.
وتقريرُ هذا الجوابِ إنّما هو في العيبِ الخفيِّ أو غيرِ المعلومِ مِنَ المشتري، أمّا العيبُ الظّاهرُ وقْتَ انتقالِ الملكيّةِ فلا يخضع لضمانِ البائعِ إذا لم يَعْتَرِضْ عليه المشتري وقْتَ شرائِه له، ومِنْ بابٍ أَوْلَى إذا كان المشتري يعلم بالعيبِ ورَضِيَه، واتّفق مع البائعِ على إسقاطِ الضّمانِ عليه، أو وقع العيبُ عند المشتري، فإنّ البائعَ -في هذه الصُّوَرِ- يُعفى مِنْ مسئوليّةِ ردِّ قيمةِ المبيعِ.
علمًا أنّ ضابطَ العيبِ المعتبَرِ هو ما تنقص بسببِه قيمةُ المبيعِ عادةً أو تنقصُ به عينُه، ويرجع تقديرُه إلى عرفِ التّجارِ المعتبَرين.
في حكم التورق و العينة:
من الفتوى رقم: ١١٦٩ – في حكم مسألتي بيع التورُّق والعِينة
الأولى: التورُّق: وهي أن يشتريَ سلعةً تساوي ألفَ دينارٍ -مثلاً- حالاًّ، بألفٍ وعشرين دينارًا نسيئةً، لغير قصدِ الانتفاع بالسلعة، وإنما ليبيعَها المشتري مِن آخَرَ بما يساويها حالاًّ (أي: بألف دينارٍ)، فينتفعُ بثمنها لأنَّ غرضَه الورِقُ أي: الدراهم أو المال لا السلعة.
وحكم بيع التورُّق -بالصورة المذكورة-: على الكراهة التحريمية على أرجح قولَيِ العلماء، وهذا الحكم مرويٌّ عن ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما وعمر بن عبد العزيز وهو قول مالكٍ(١) ونصره ابن تيمية(٢)، قال عمر بن عبدِ العزيز: «التورُّق آخِيَة الربا» أي: أصل الربا(٣)، ذلك لأنَّ المقصود مِن هذه المعاملة -في الظاهر- الوصولُ إلى الربا المحرَّم عن طريق هذه المعاملة، وهي صورةٌ تتحقَّق -غالبًا- عند الحاجة إلى النقود مع تعذُّر الاقتراض، لذلك يُمنع التحايل على الربا بهذا الوجه أو بغيره سدًّا لذريعة المحرَّم.
فإن خَلَتْ هذه المعامَلةُ مِن التحيُّل على الربا، كأن تكون السلعةُ عند الدائن وقتَ العقد، ويقبضَها المدينُ قبضًا تامًّا، ويبيعَها -بسعر السوق- لغيرِ مَن اشتراها منه بدون سابقِ تواطؤٍ؛ فإنَّ هذه المعاملةَ -بهذا الاعتبار- جائزةٌ لعموم النصوص الدالَّة على جواز البيع، ولأنه لا فرق في مقصود المشتري بين الانتفاع بالسلعة مِن استهلاكٍ أو استعمالٍ أو تجارةٍ، وبين أن يشتريَها لينتفعَ بثمنها لانتفاء المحذور الشرعيِّ -السالف البيان- مِن التحايل على الربا.
وجديرٌ بالملاحظة والتنبيه أنَّ قول السائل عن الشركة بأنها «تشتري سِلَعًا مباحةً بجميع أنواعها إلى أجلٍ» مرادُه أن يكون البدلان ممَّا يصحُّ فيهما الأجلُ، لأنَّ ثَمَّةَ بعضَ المعاملات التي لا تقبل النَّساءَ، وشرطُها التقابض في الحالِ كالذهب مع الفضَّة، أو النقود الورقية مع الذهب أو مع الفضَّة، وإلاَّ كانت المعاملةُ ربويةً مِن قسم ربا النسيئة في البيوع أو الربا الخفيِّ، لأنَّ شرط التقابض في المجلس الواحد فيها متَّفقٌ عليه لقوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «وَلاَ تَبِيعُوا غَائِبًا بِنَاجِزٍ»(٤)، ولقوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ، وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ، وَالْبُرُّ بِالْبُرِّ، وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ، وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ، وَالْمِلْحُ بِالْمِلْحِ، مِثْلاً بِمِثْلٍ، سَوَاءً بِسَوَاءٍ، يَدًا بِيَدٍ، فَإِذَا اخْتَلَفَتْ هَذِهِ الأَصْنَافُ، فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ إِذَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ»(٥).
الصورة الثانية: -في شقِّها الأوَّل- بيعُ العِينة: وهي أن يبيع رجلٌ سلعةً بثمن «ألف دينارٍ» -مثلاً- إلى أجلٍ معلومٍ كشهرٍ، ثمَّ يبيعَ المشتري السلعةَ نفْسَها لبائعها الأوَّل في الحالِ بأقلَّ مِن الثمن الذي باعها به كخمسمائة دينارٍ، وترجع السلعةُ إلى بائعها الأوَّل، وفي نهاية الأجل المحدَّد لدفع الثمن في العقد الأوَّل يدفع المشتري كاملَ الثمن، فيكونُ الفرق بين الثمنين لصاحب المتاع الذي باع بيعًا صوريًّا، والغرض مِن هذه المعاملة كلِّها هو التحايل على القرض بالربا عن طريق البيع والشراء.
وحكم بيع العِينة: التحريمُ على أرجح قولَيِ العلماء، وهو مذهب الجمهور، وبه قال أبو حنيفة ومالكٌ وأحمد وأتباعُهم، وهو مرويٌّ عن ابن عبَّاسٍ وعائشةَ وأنسٍ رضي الله عنهم، والحسنِ وابن سيرينَ والشعبيِّ والنخعيِّ، وهو مذهب الثوريِّ والأوزاعيِّ(٦).
ويدلُّ على تحريم بيع العِينة: قولُه صلَّى الله عليه وسلَّم: «إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ، وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ، وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ، وَتَرَكْتُمُ الْجِهَادَ؛ سَلَّطَ اللهُ عَلَيْكُمْ ذُلاًّ لاَ يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ»(٧)، وقولُه صلَّى الله عليه وسلَّم: «مَنْ بَاعَ بَيْعَتَيْنِ فِي بَيْعَةٍ فَلَهُ أَوْكَسُهُمَا أَوِ الرِّبَا»(٨)، وما ثبت عن ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما أنه سئل عن رجلٍ باع مِن رجلٍ حَريرةً بمائةٍ ثمَّ اشتراها بخمسين فقال: «دَرَاهِمُ بِدَرَاهِمَ مُتَفَاضِلَةٍ دَخَلَتْ بَيْنَهَا حَرِيرَةٌ»(٩)، وعنه رضي الله عنهما أَنَّهُ قَالَ: «اتَّقُوا هَذِهِ العِينَة، لاَ تَبِيعُوا دَرَاهِمَ بِدَرَاهِمَ بَيْنَهُمَا حَرِيرَةٌ»(١٠)، وعن أنسٍ رضي الله عنه أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الْعِينَة –يَعْنِي: بَيْعَ الحَرِيرَةِ- فَقَالَ: «إِنَّ اللهَ لاَ يُخْدَعُ، هَذَا مِمَّا حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ»(١١).
ولا يخفى أنَّ تحريم بيع العِينة مبنيٌّ على أصل سدِّ الذرائع، لأنه ذريعةٌ إلى الربا، وبه يُتوصَّل إلى إباحةِ ما حرَّم اللهُ تعالى، و«الوسيلة إلى الحرامِ حرامٌ».
أمَّا شقُّها الثاني: وهي كونُ بيعِ السلعة -في العقد الثاني- بثمن المثل أو أكثرَ فجائزٌ، وكذا يجوز شراؤها بأيِّ ثمنٍ شاء ولو بأقلَّ مِن ثمنها في حالة نقصان المبيع عن قيمته، وقد أفصح عن هذه الملاحظة والتنبيه ابنُ قدامةَ المقدسيُّ -رحمه الله- حيث قال: «.. فأمَّا بيعُها بمثل الثمن أو أكثرَ فيجوز لأنه لا يكون ذريعةً، وهذا إذا كانت السلعةُ لم تنقص عن حالة البيع، فإن نقصت… جاز له شراؤها بما شاء، لأنَّ نَقْصَ الثمن لنقص المبيع لا للتوسُّل إلى الربا، وإن نقص سعرُها أو زاد لذلك أو لمعنًى حدث فيها لم يَجُزْ بيعُها بأقلَّ مِن ثمنها كما لو كانت بحالها»(١٢) بتصرُّف.
(١) انظر: «بداية المجتهد» لابن رشد (٢/ ١٦٢).
(٢) انظر: «مجموع الفتاوى» لابن تيمية (٢٩/ ٤٤٢)، «الاختيارات الفقهية لابن تيمية» للبعلي (١٢٩).
(٣) المصدر السابق.
(٤) أخرجه البخاري في «البيوع» باب بيع الفضة بالفضة (٢١٧٧)، ومسلم في «المساقاة» (١٥٨٤) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
(٥) أخرجه مسلم في «المساقاة» (١٥٨٧)، من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه.
(٦) انظر: «بداية المجتهد» لابن رشد (٢/ ١٤٢)، «المغني» لابن قدامة (٤/ ١٩٣)، «نيل الأوطار» للشوكاني (٦/ ٣٦٣).
(٧) أخرجه أبو داود في «أبواب الإجارة» باب في النهي عن العينة (٣٤٦٢)، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. وصححه الألباني في «السلسلة الصحيحة» (١/ ٤٢).
(٨) أخرجه أبو داود في «أبواب الإجارة» باب فيمن باع بيعتين في بيعة (٣٤٦١)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وحسنه الألباني في «الإرواء» (٥/ ١٥٠)
(٩) انظر: «حاشية ابن القيِّم» مع «عون المعبود» (٩/ ٢٤١).
(١٠) المرجع والصفحة نفسهما.
(١١) «تهذيب السنن» (٩/ ٢٤٢)، وروي مثلُه عن ابن عبَّاسٍ كما في المرجع السابق.
(١٢) «المغني» (٤/ ١٩٤) و«الكافي» (٢/ ٢٦) كلاهما لابن قدامة.
من الفتوى رقم: ٩٠٧
فصورةُ مسألة بيع التورُّق هي عند قيام الحاجة إلى مالٍ وتعذُّر الاقتراض يقوم المحتاج بشراء سلعةٍ تساوي ألفَ دينارٍ حالاً بألفٍ وعشرين دينارًا نسيئةً لغير قصد الانتفاع بها، وإنَّما ليبيعَها المشتري مِن آخرَ بما يساويها حالاً، (أي: بألف دينارٍ)، فينتفعَ بثمنها؛ لأنَّ غرضه الوَرِق أي: الدراهم لا السلعة.
وقد اختلف العلماء في حكم بيع التورُّق بين مجيزٍ ومانعٍ، والجواز هي الرواية الأولى عن الإمام أحمد، مستدلِّين بحديث أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: «جَاءَ بِلاَلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّم بِتَمْرٍ بَرْنِيٍّ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّم: «مِنْ أَيْنَ هَذَا»؟ قَالَ بِلاَلٌ: كَانَ عِنْدَنَا تَمْرٌ رَدِيءٌ، فَبِعْتُ مِنْهَ صَاعَيْنِ بِصَاعٍ لِمَطْعَمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّم، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّم عِنْدَ ذَلِكَ: «أَوِّهٍ أَوِّهٍ، عَيْنُ الرِّبَا، عَيْنُ الرِّبَا، لاَ تَفْعَلْ، وَلَكِنْ إِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَشْتَرِيَ فَبِعِ التَّمْرَ بِبَيْعٍ آخَرَ، ثُمَّ اشْتَرِ بِهِ»(١)، خلافًا للرواية الأخرى القائلة بأنَّ بيع التورُّق مكروهٌ، وهذا الحكم مرويٌّّ عن ابن عبَّاسٍ وعمر بن عبد العزيز، وهو قول مالكٍ(٢)، ونَصَرَهُ ابنُ تيمية(٣)، والمراد بالمكروه في بيع التورُّق إنما هو الكراهة التحريمية، لِما نقله ابن تيمية عن عمر بن عبد العزيز مِن أنَّ التورُّق آخِيَّةُ الرِّبا، أي: أصل الربا. ويمكن ترجيحُ القولِ بالمنع إذا ما تقيَّد البيعُ بمقصود المتعاقد للوصول إلى الرِّبا عن طريق هذه المعاملة سدًّا لذريعة المحرَّم، وهي صورةٌ تتحقَّق غالبًا عند الحاجة إلى الدراهم مع تعذُّر الاقتراض، فإن خلت من التحايل على الربا فالظاهرُ أنَّ الرواية الأولى أقوى؛ لأنَّ عموم النصوص تدلُّ على الجواز؛ ولأنَّه لا فرق في مقصود المشتري بين أن ينتفع بالسلعة من استهلاكٍ أو استعمالٍ أو تجارةٍ وبين أن يشتريَها لينتفع بثمنها، وليس فيه محذورٌ شرعيٌّ قائمٌ، ولا تحيُّلٌ على الرِّبا بوجهٍ من الوجوه، لذلك وجب الرجوعُ إلى الأصل وهو الحلُّ والإباحة، الذي تقتضيه النصوص العامَّة والاعتبار.
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: ١٤ جمادى الأولى ١٤٢٩ﻫ
الموافق ﻟ: ١٩ مـاي ٢٠٠٨م
(١) متفق عليه: أخرجه البخاري في «صحيحه» كتاب الوكالة، باب إذا باع الوكيل شيئًا فاسدًا فبيعه مردود: (٢١٨٨)، ومسلم في «صحيحه» كتاب المساقاة، باب بيع الطعام مثلاً بمثلٍ: (٤٠٨٣)، من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
(٢) «بداية المجتهد» لابن رشد: (٢/ ١٦٢).
(٣) «مجموع الفتاوى»: (٢٩/ ٤٤٢-٤٤٦)، «الاختيارات الفقهية»: (١٢٩).
في حكم التعامل مع مَنْ مقبوضُه فاسدٌ
الفتوى رقم: ١١٨٠ – في حكم التعامل مع مَنْ مقبوضُه فاسدٌ
ما حكمُ التعامل مع مَنْ حَصَل على آلاتٍ عن طريق ديوان تشغيل الشباب بواسطة البنوك الربوية؟ وجزاكم الله خيرًا.
الجواب:
الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلام على مَنْ أرسله الله رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبِه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:
فإذا قَبَضَ المتعامِلُ آلاتٍ مع البنك الربويِّ بعقدٍ فاسدٍ(١) يَعتقد صِحَّتَه باجتهادٍ أو بتقليدِ غيرِه ممَّنْ يَثِقُ في فتواهُ، أو يتعامل بجهلٍ: لا يَعلم أنَّ ذلك رِبًا محرَّمٌ؛ فإنَّ صاحِبَ العقد الفاسد إذا عَلِمَ بتحريمه ثمَّ تاب بعد حصول التقابض فيه واعتقادِ صِحَّتِه فإنَّه يملك ما قَبَضه، والأصلُ فيه قولُه تعالى: ﴿فَمَن جَآءَهُۥ مَوۡعِظَةٞ مِّن رَّبِّهِۦ فَٱنتَهَىٰ فَلَهُۥ مَا سَلَفَ وَأَمۡرُهُۥٓ إِلَى ٱللَّهِ﴾ [البقرة: ٢٧٥]، أي: فمَنِ انتهى عن تَعاطي الرِّبَا وانزجر عن فِعْلِه بعدما جاءه وعظٌ وتذكيرٌ وترهيبٌ فإنَّه يُباحُ له ما قَبَضَهُ مِنَ المُعامَلاتِ التي أَجْرَاها قبل أَنْ تبلغه الموعظةُ؛ جزاءً على الْتزامِه بتركِ مقتضى النهي وقَبولِه للنصيحة.
أمَّا إذا قَبَضَ الآلاتِ مع البنك بعقدٍ ربويٍّ فاسدٍ مُجْمَعٍ على تحريمه أو مُخْتَلَفٍ فيه، وتَعمَّدَ التعاملَ بالرِّبَا وهو يعلم حُرْمتَه؛ فما قَبَضه بمُوجَبِ ذلك العقدِ ـ بعد توبته ـ لا يملكه القابضُ لبطلان العقد ـ شرعًا ـ ووَجَبَ على المتبايِعَيْنِ فسخُه والتَّرادُّ، أي: يرجع المتعاقِدان إلى حالةِ ما قبل التعاقد عند الإمكان؛ لقوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ»(٢)، ويَبْطُلُ كُلُّ ما تَضمَّنَه العقدُ مِنْ شروطٍ وقيودٍ حكمًا؛ عملًا بقاعدةِ: «إِذَا بَطَلَ الشَّيْءُ بَطَلَ مَا فِي ضِمْنِهِ».
وشرط إمكان الفسخ: بقاءُ المعقود عليه على ما كان قبل القبض، ويَمْتنِعُ الفسخُ إذا تغيَّرَ ـ مثلًا ـ شكلُ المعقود عليه أو هلك أو استُهْلِك بحيث لم يَبْقَ على حالته الأولى، ومِنْ شرط إمكان الفسخ ـ أيضًا ـ: عدمُ تعلُّقِ حقِّ الغير به؛ فلو تَصرَّفَ فيه المشتري بالبيع أو بالهِبَة وتمَّ قبضُه مِنَ الموهوب له امتنع الفسخُ.
ومِنْ جهةٍ ثالثةٍ: إذا تَعذَّرَ فسخُ العقد الفاسد عن طريقِ أحَدِ المتعاقِدَيْن أو بحكم القاضي كما في صورة إباحة القوانين الوضعية السارية المفعولِ العقودَ الربوية وإجبارِ المتعاقِدَيْن على الوفاء بها؛ فليس ـ والحال هذه ـ للمتعاقِدِ التائب مِنَ العقد الفاسد إمكانيةُ إلغاء العقد أو فسخِه، وليس له القيامُ بإتلافِ ما بيده ممَّا قَبَضه؛ لنهي النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم عن إضاعة المال(٣)، وليس له مِنْ سبيلٍ في التخلِّي عنه أو التصدُّق به؛ لحاجته إليه أوَّلًا، ولمطالَبة البنك له بتسديد الزيادة أو التهديد له ثانيًا؛ فلم يَبْقَ ـ في تقديري ـ إلَّا القولُ بأنَّ ما قَبَضه عالمًا بحرمته ثمَّ تاب منه: فإنَّه يتملَّكه ضرورةً لا دِينًا؛ بالنظر لغياب السلطة الشرعية الكفيلة بفسخ العقود الربوية.
أمَّا ما قَبَضه البنكُ بمُوجَبِ العقد الربويِّ مع إقراره بتحريمه فهو فيه فاسقٌ مُتَعَدٍّ على مالِ غيرِه؛ حيث يَعلم أنَّ ما قَبَضه لا يملكه؛ فتجري ـ في حقِّه ـ أحكامُ الغصب في ظِلِّ شريعة الإسلام.
وبناءً على ما تَقدَّمَ فإنه يصحُّ التعاملُ مع مَنْ حَصَلَ على الآلات عن طريق تشغيل الشباب إذا ما انتهى عن فِعْلِه وتاب منه؛ لامتلاكه ما قَبَضه ـ على التفصيل السابق ـ بخلافِ مَنْ لم تَنفع معه الموعظةُ وبقي مِنْ غيرِ توبةٍ فلا يصحُّ التعاملُ معه ولا التعاون ولا المصاحبة لقوله تعالى: ﴿وَتَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلۡبِرِّ وَٱلتَّقۡوَىٰۖ وَلَا تَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلۡإِثۡمِ وَٱلۡعُدۡوَٰنِۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۖ إِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلۡعِقَابِ ٢﴾ [المائدة]، ولقوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «لَا تُصَاحِبْ إِلَّا مُؤْمِنًا، وَلَا يَأْكُلْ طَعَامَكَ إِلَّا تَقِيٌّ»(٤).
والعلم عند الله تعالى، وآخِرُ دعوانا أنِ الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسلَّم تسليمًا.
الجزائر في: ١٢ المحرَّم ١٤٣٧ﻫ
الموافق ﻟ: ٢٦ أكتوبر ٢٠١٥م
(١) انظر: «قاعدةً في المقبوض بعقدٍ فاسدٍ» في «مجموع الفتاوى» لابن تيمية (٢٩/ ٤١١)، و«كسب الزانية إذا قبضَتْهُ ثمَّ تابَتْ» في: «زاد المَعاد» لابن القيِّم (٥/ ٧٧٨).
(٢) أخرجه مسلمٌ في «الأقضية» (١٧١٨) مِنْ حديثِ عائشة رضي الله عنها.
(٣) انظر الحديثَ الذي أخرجه البخاريُّ في «الاستقراض وأداء الديون» بابُ ما يُنْهى عن إضاعة المال (٢٤٠٨)، ومسلمٌ في «الأقضية» (٥٩٣)، مِنْ حديثِ المغيرة بنِ شعبة رضي الله عنه.
(٤) أخرجه أبو داود في «الأدب» بابُ مَنْ يُؤمَرُ أَنْ يجالِس (٤٨٣٢)، والترمذيُّ في «الزهد» بابُ ما جاء في صحبة المؤمن (٢٣٩٥)، مِنْ حديثِ أبي سعيدٍ الخدريِّ رضي الله عنه. والحديث حسَّنه البغويُّ في «شرح السنَّة» (٦/ ٤٦٨)، والألبانيُّ في «صحيح الجامع» (٧٣٤١).
مسألة وحوب قبض المبيع قبل بيعه في المعاوضات، و عدم اشتراط القبض في التبرعات
الفتوى رقم: ٨٩١
فاعلم أنًَّ مِنْ شروط المبيع المعقودِ عليه أن يكون مقبوضًا إن كان قد استفاده بمعاوضة؛ لأنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم: «نَهَى أَنْ تُبَاعَ السِّلَعُ حَيْثُ تُبْتَاعُ حَتَّى يَحُوزَهَا التُّجَارُ إِلَى رِحَالِهِمْ»(١)، ولما روى ابن عباس رضي الله عنهما أنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم قال: «مَنِ ابْتَاعَ طَعَامًا فَلاَ يَبِعْهُ حَتَّى يَسْتَوْفِيَهُ»، قال ابن عباس: «لا أحسب كُلَّ شيء إلاَّ مثله»(٢)، فهذه الأحاديث وغيرُها عامَّةٌ في النهي، وهي شاملة لكلِّ السلع المعقود عليها، وتدلُّ على فساد المنهي عنه، وهو مذهب الجمهور.
هذا، ولا يصلح قصر النهي على الطعام قبل قبضه وإباحته فيما عداه عملاً بتخصيص عموم النهي بحديث ابن عمر رضي الله عنهما أنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم: «اشترى من عمر بَكْرًا كان ابنه راكبًا عليه، ثمَّ وهبه لابنه قبل قبضه»(٣)، أو بحديث جابرٍ بن عبد الله رضي الله عنهما أنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم اشترى من جابرٍ رضي الله عنهما جَمَله، وقال: «فَلَمَّا بَلَغْتُ أَتَيْتُهُ بِالجَمَلِ فَنَقَدَنِي ثَمَنَهُ، ثُمَّ رَجَعْتُ فَأَرْسَلَ فِي أَثَرِي فَقَالَ: «أَتُرَانِي مَاكَسْتُكَ لآخُذَ جَمَلَكَ، خُذْ جَمَلَكَ وَدَرَاهِمَكَ فَهُوَ لَكَ»(٤)، فالظاهرُ من كِلا الحديثين أنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم قد تصرَّف في المبيع بالهبة قبل قبضه.
فجوابه: أنَّ غايةَ ما في الحديثين جواز التصرُّف في المبيع قبل قبضه بالهبة بغير عِوض، ولا يصلح إلحاقه بالبيع وسائر التصرُّفات؛ لأنَّ البيع معاوضة بعِوض، وكذا الهبة بعِوض، أمَّا الهبة الواقعة من النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم فليست على عِوض فافترق الأمران، وإنما يمكن إلحاق كُلِّ التصرفات التي لا عوض فيها بالهبة، وجواز التصرُّف فيها قبل قبضها وحيازتها دون التصرفات بعوض كالبيع، وبذلك تجتمع الأدلة وتتَّفق ولا تختلف، ويشهد لذلك: الإجماعُ على صِحَّة الوقف والعِتق قبل القبض، لكونهما من التصرفات التي لا عوض فيها.
وأجود تعليلٍ للنهي عن البيع قبل القبض هو إفضاء التصرُّف إلى الرِّبا، ووجهُهُ: أنه إذا باع المشتري قبل القبض، وتأخَّر المبيع في يد البائع يكون قد باع دراهم بدراهم متفاضلة، ولهذا قال ابن عباس رضي الله عنهما: «دَرَاهِمُ بِدَرَاهِمَ وَالطَّعَامُ مُرْجَأٌ»(٥)، وبيَّن ذلك فيما أخرجه مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: لما سأله طاوس: ألا تراهم يتبايعون بالذهب والطعام مرجَأٌ؟(٦) قال الشوكاني: «وذلك لأنه إذا اشترى طعامًا بمائة دينار ودفعها للبائع ولم يقبض منه الطعام، ثمَّ باع الطعام إلى آخر بمائة وعشرين مثلاً فكأنه اشترى بذهبه ذهبًا أكثر منه، ولا يخفى أنَّ مثل هذه العِلة لا تنطبق على ما كان من التصرفات بغير عوض.. لأنَّ الصحابة أعرف بمقاصد الرسول صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم»(٧).
هذا، وإن كان مذهب بعض أهل العلم عدم اشتراط الإيواء إلى الرحال -كما ذكره ابن حجر- بل يكفي عندهم- فيه القبض؛ لأنَّ الحديث خرج مخرج الغالب الأعمِّ فلا مفهومَ له، إلاَّ أنَّ هذا القولَ يخالف ظاهرَ الحديث الذي يدلُّ على أنه لا يكفي مجرَّد القبض بل لا بُدَّ من تحويله إلى المكان الخاصِّ به، وتدلُّ عليه الرواية الأخرى: «حَتَّى يُحَوِّلُوهُ»(٨)، وكذلك رواية ابن عمر: «حَتَّى يَنْقُلُوهُ»(٩)، والأحوط التمسُّك بهذه النصوص الصريحة لمكان التعليل السابق.
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: ١٧ ربيع الثاني ١٤٢٩ﻫ
الموافق ﻟ: ٢٣/ ٠٤/ ٢٠٠٨م
(١) أخرجه أبو داود في «سننه» كتاب الإجارة، باب في بيع الطعام قبل أن يستوفي: (٣٤٩٩)، والحاكم في «المستدرك»: (٢٢٧١)، والبيهقي في «السنن الكبرى»: (١٠٨٣٢)، من حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه. والحديث صحَّحه ابن الملقَِّن في «البدر المنير» (٦/ ٥٥٩).
(٢) أخرجه البخاري في «صحيحه» كتاب البيوع، باب بيع الطعام قبل أن يقبض وبيع ما ليس عندك:(٢٠٢٨)، ومسلم في «صحيحه» كتاب البيوع، باب بطلان بيع المبيع قبل القبض: (٣٨٣٨)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
(٣) أخرجه البخاري في «صحيحه» كتاب البيوع، باب إذا اشترى شيئا فوهب من ساعته قبل أن يتفرقا…(٢٠٠٩)، وابن حبان في «صحيحه»: (٧٠٧٣)، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
(٤) أخرجه مسلم في «صحيحه» كتاب المساقاة، باب بيع البعير واستثناء ركوبه: (٤٩٨)، وأبو داود في «سننه» كتاب الإجارة، باب في شرط في بيع: (٣٥٠٥)، والنسائي في «سننه» كتاب البيوع، باب البيع يكون فيه الشرط فيصح البيع والشرط: (٤٦٣٧)، من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.
(٥) أخرجه البخاري في «صحيحه» كتاب البيوع، باب ما يذكر في بيع الطعام والحكرة: (٢٠٢٥)، وأحمد في «مسنده»: (٢٢٧٥)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
(٦) أخرجه مسلم في «صحيحه» كتاب البيوع، باب بطلان بيع المبيع قبل القبض: (٣٨٣٩)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
(٧) «نيل الأوطار» للشوكاني: (٦/ ٢٩٨).
(٨) أخرجه مسلم في «صحيحه» كتاب البيوع، باب بطلان بيع المبيع قبل القبض: (٣٨٤٦)، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
(٩) أخرجه البخاري في «صحيحه» كتاب البيوع، باب ما ذكر في الأسواق: (٢٠١٧)، وأبو داود في «سننه» كتاب الإجارة، باب في بيع الطعام قبل أن يستوفي: (٣٤٩٤)، والنسائي في «سننه» كتاب البيوع، باب بيع ما يشترى من الطعام جزافا قبل أن ينقل: (٤٦٠٧)، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
من الفتوى رقم: ٦٧٢
وقَبْضُ المبيعِ إِنْ كان منقولًا فَبِحِيازته ونَقْلِهِ إلى مكان المشتري، وإن كان عقارًا كالأراضي والبيوت ونحوِهما فبالتَّخْلِيَةِ بأَنْ يمكِّن البائعُ المشتري منها، ويخلِّيَ بينه وبين العَقارِ ليتصرَّفَ فيه المشترِي تصرُّفَ المالك، وليكون الضمانُ على المشتري بالقبضِ، وفي زماننا هذا قد تكون التخليةُ بتسليم مفاتيح البيت أو على الأقلِّ يُؤكَّدُ عقدُ البيع بورقةٍ ولو عُرفيةٍ لتَثْبُتَ ملكيتُهُ عليها، حَسْمًا للنِّزَاع وقَطْعًا للخصوماتِ؛ لأنَّ بقاءَ السلعةِ في يد البائعِ قد يَتَصَرَّفُ فيها على وجهٍ يُحْدِثُ خصومةً ومنازَعةً بسبب تصرُّفِ البائعِ فيه؛ لذلك نهى النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم عن بيعه إلاَّ بعد القبضِ الشرعيِّ.
مسألة العلامة التجارية ذات الشعار الكفري
من الفتوى رقم: ٤٤٥ – في التعامل مع علامةٍ تجاريةٍ ذات شعارٍ معيَّنٍ
فاعلم- رحمك الله- أن القاعدة العامة في التعامل مع مثل هذه العلامات والأسماء التجارية أنه يفرق فيها بين ما إذا كانت مجردَ علامةٍ تجارية، أو كانت تحمل شعارا معينا، سواء كانت هذه العلامة تعبّر عن شعار ديني أو عرقي أو حزبي أو طائفي.
فإن كانت هذه العلامات تجارية وضعها صاحب المصنع أو البلد لتعرف سلعته وتميز جودتها عن غيرها، فالظاهر أنه لا حرج في ذلك إن شاء الله تعالى بيعا وشراء.
وأما إن كانت هذه العلامة تعبِّر عن شعار أو فكر يناهض مبادئ الشريعة الإسلامية سواء كان الشعار لمبدأ معين، أو عقيدة، أو حضارة، أو طائفة، أو عرق، أو حزب، وذلك مثل شعار الشيوعية المتمثل في المِنجل والمطرقة، وشعار اليهود المتمثل في نجمة داوود، وشعار الصليب بالنسبة للنصارى، فإنه يمنع منه شرعا ولا يجوز أينما كانت سواء في المأكولات أو المشروبات أو الملبوسات بيعا وشراء واتخاذا، وذلك لأن اتخاذه يدل على المساندة والموافقة والموالاة لتلك الأفكار ظاهرا، وإن كان لا يوافقهم بقلبه لعدم جواز الموالاة إلا لأهل الإيمان والجماعة، والنبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ألبسة الكفار لكونها من خصوصياتهم، فمن باب أولى إذا كانت تحمل شعارا فاسدا، أو فكرا كاسدا.
وبناء على ماسبق فإن كانت علامة “jupiter” أو غيرها من العلامات مثل”nike” ترمز إلى آلهة النصر عند الإغريق فهي تعبر عن شعار وعقيدة، لا عن علامة تجارية، فتكون ممنوعة شرعا، ومثلها الألبسة والأحذية المشتملة على علامة شجرة الغرقد.
هذا، والقاعدة العامة هي ماذكرته ابتداء، ويبقى تحقيق المناط في كون العلامة شعارا أم لا؟
من الفتوى رقم: ٤٢٦ – في حكم بيع واقتناء الملابس المحتوية على أشكال الصليب
فإنَّ كلَّ ما فيه تقاطعٌ غيرُ متواصِلٍ بحيثُ يتشكَّلُ على زوايا قائمةٍ، ويكون أسفلُهُ أطولَ مِن أعلاهُ فهو صليبٌ مَنهيٌّ عن اقتنائه؛ ذلك لأنَّ الصليبَ شعارُ النصارى وهو موضعُ تقديسِ الأكثرين، فَإِنْ أمكنَ نقضُهُ، أو كان التقاطعُ خفيًّا لا يُرَى أو كان التقاطعُ مُتَواصلاً فيجوز ارتداءُ الثوبِ ولُبْسُهُ، أمَّا إذا بقي ظاهرًا بارزًا غيرَ متواصِلٍ وبالشَّكْلِ المعهودِ عند النصارى فيمتنع لُبسُه تَجَنُّبًا لعقيدةِ التثليثِ الفاسدةِ.
في مسالة الاحتكار و شموله الطعام و غيره
من الفتوى رقم: ٦٦٦ – في معنى الاحتكار والصورة الخارجة عنه
فإذا اشترى سلعةً للتجارة ولا يبيعها في الحال بل يدّخرها لِيَغْلُوَ ثمنُها، فإِنَّ حَبْسَهَا عن البيع هو الحُكْرَةُ المحرّمة بنصِّ قولِه صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم: «لاَ يَحْتَكِرُ إِلاَّ خَاطِئٌ»، والمراد بالخاطئ هو العاصي الآثمُ، والظاهرُ من الحديث شمولُه لعموم الأقواتِ وسائرِ السلعِ، وإن وردت بعضُ الروايات بالتصريح بلفظ «الطعام» إلاّ أنها غيرُ صالحةٍ لتخصيصِ العمومِ في الروايات الأخرى؛ لأنّ نفيَ الحكمِ عن غير الطعام إنما هو من مفهوم اللقب، وهو ضعيفٌ عند كلِّ محصِّلٍ من القائلين بالمفهوم، لذلك كانت مِن قبيل التَّنصيص على فردٍ مِن أفراد العُموم لا مِن تخصيصِه؛ لأنه إذا كانت العِلَّةُ هي الإضرارُ بالمسلمين لم يَحْرُمِ الاحتكارُ إلاَّ على وجهٍ يضرُّ بهم، ويستوي في ذلك القوتُ وغيرُه لتضرُّرهم بالجميع كما يستوي وجودُ السلعةِ قبل شرائه لها وبعده، أمَّا لو اشتراه في وقت الرخص أو الغلاء لحاجته إلى أكله أو بيعه في وقته فلا تحريمَ فيه.
من الفتوى رقم: ١١٢٢
لا يجوز لمسلمٍ أن يبيع ما اشتراه إلاَّ بعد أن يقبضه ويحوزه إلى رحله لما ثبت عن النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم أنه: «نَهَى أَنْ تُبَاعَ السِّلَعُ حَيْثُ تُبْتَاعُ، حَتَّى يَحُوزَهَا التُّجَّارُ إِلَى رِحَالِهِمْ».
فإن تمَّ له القبضُ والحيازة فله أن يبيع كيف شاء بالشروط الشرعية ولو جاوز السعرَ الذي اشتراه بزيادةٍ معتادةٍ، سواءٌ نقدًا في الحال أو مؤجَّلاً فيما يقبل التأجيل.
ولا يجوز للتاجر أو لغيره -من جهةٍ أخرى- استغلالُ ما يحتاج الناس إليه بالاحتكار والتخزين تقصُّدًا للربح الفاحش أو طمعًا في الكسب السريع على حساب إرهاق المشتري بسعرٍ مرتفعٍ يُثقل كاهله، خاصَّةً إن كان من ذوي القدرة الشرائية المحدودة؛ لتحريم الاحتكار في قوله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «لاَ يَحْتَكِرُ إِلاَّ خَاطِئٌ». وعلَّة تحريمه الحرج والضرر الواقع على الناس بالاحتيال والحبس والتخزين، والحديث يدلُّ على تحريم الاحتكار ويتناول كلَّ سلعةٍ أو بضاعةٍ مطلقًا، سواءٌ كانت من قوتٍ أو من غيره عملاً بقاعدة أنَّ «المُطْلَقَ يَجْرِي عَلَى إِطْلاَقِهِ».
لذلك ينبغي للتاجر الأمين أن يترك عوامل الجشع والطمع التي تدفعه إلى الاحتكار واستغلال أموال الناس بفرض أسعارٍ مرتفعةٍ تخرج عن المعتاد، إغلاءً لما يحتاجه الناس في معاشهم ومعادهم.
وجديرٌ بالتنبيه أنَّ للتاجر أن يشتريَ ما شاء من السِّلَع والبضائع، وله أن يحبسها أو يخزِّنها إذا كانت الناسُ في غنًى عنها، بالنظر إلى انتفاء الضرر عنهم وهو علَّة المنع، وله أن يبذل لهم من الموادِّ والبضائع عند قيام الحاجة بما تتعارف عليه العادةُ في المكاسب، دفعًا للحرج والضرر عن المسلمين.
بطاقة الائتمان القرضية
من الفتوى رقم: ٦٨٦
بطاقة الائتمان القرضية، أو ما تُسمَّى ببطاقة التسديد بالأقساط؛ لأنها أشدُّ البطاقات المصرفيةِ فَرْضًا للفوائد على حامِلِها الذي يلتزم بدفوعاتٍ أربعةٍ وهي: رَسْمُ الاشتراك «العضوية»، ورسوم التجديد، وفوائد الإقراض، وفوائد التأخير، فهي في حقيقتها عقدٌ ربويٌّ مُسْتَتِرٌ بالبطاقة التي اتَّفقَتْ فيه أطرافُها على التحايل على انتهاك مَحارِمِ الله بأكلِ الرِّبَا والتعاون على الإثم والعدوان.
في بيع الجنسية
من الفتوى رقم: ٨٥٦
الجنسيةُ ليست مَحَلاًّ للبيع والشِّراء لدخولها ضِمْنَ النِّظام العامِّ، وإذا كان الشخصُ لا يستطيع أَنْ يتنازل عن أهلِيَّته أو يزيدَ فيها أو يُنقصَ منها باتِّفاقٍ خاصٍّ مهما كانت صُورةُ الاتفاقِ فلا يستطيع أيضًا اكتسابَ الجنسيةِ باتفاقٍ خاصٍّ، ويكون المالُ المأخوذُ بناءً على الاتِّفاق الخاصِّ سُحْتًا ورشوةً، لوقوعه مُخالِفًا لهذا المعنى، وفضلاً عن المال المحرَّم المعطى قد يحصل التغييرُ في أوراقِ الميلاد، والتبديلُ في أماكنِ الازدياد ونحوها، لتحقيق هذا الغَرَض بالتزوير؛ الأمرُ الذي تَعْظُمُ فيه المفسدةُ بسلوك هذه الطرق غيرِ المشروعةِ.
ولا يخفى أنَّ المفسدة بهذا المنظورِ تُماثِلُ بل تفوقُ المفسدةَ الحاصلةَ بالاختلاط، والمعلومُ ـ جريًا على القواعدِ العامَّةِ ـ أنَّ «المَفْسَدَةَ لاَ تُزَالُ بِمِثْلِهَا» إذِ الضررُ يُزال بلا ضررٍ، ومِن بابٍ أَوْلَى إذا كانت تفوقُها، لقوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم: «لاَ ضَرَرَ وَلاَ ضِرَارَ».
هذا، والغايةُ إذا كانت مشروعةً ومطلوبةً فينبغي أَنْ تكونَ الوسيلةُ أيضًا؛ لأنَّ «الغَايَةَ لاَ تُبَرِّرُ الوَسِيلَةَ».
في بيان بعض أحكام المضاربة
من الفتوى رقم: ٨٦١
يمكن ذكر الأحكام المتعلقة بالمضاربة -باختصار- من الحيثيات التالية:
– فمن حيث التسميةُ فإنَّ المضاربة مأخوذةٌ من الضَّرْبِ في الأرض بمعنى السفر، وهي المعاملة على السفر للتجارة طلبًا لرزق الله تعالى، قال الله تعالى: ﴿وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللهِ﴾ [المزّمِّل: ٢٠]، والمضاربة تسمَّى القِراض في لغة أهل المدينة.
– ومن حيث تعريفُها اصطلاحًا هي: «دَفْعُ مَالٍ مَعْلُومٍ لِلعَامِلِ قَصْدَ الاتِّجَارِ بِهَا بِبَعْضِ رِبْحِهِ». ومعنى التعريف: أن يعطي صاحبُ المال من النقود للعامل قصدَ الاتجار بها، وما يحصل بينهما من الرِّبح فبحَسَب ما يتشارطان عليه، وتعيينُ مِقدار نصيبِ العامل شرطُ صِحَّةِ المضاربة كالمناصفة أو ثُلُثِ الرِّبح وما إلى ذلك، فتقديرُ حِصَّة العامل إنما تكون بالشرط، بينما ربُّ المال فإنه يستحقُّه بماله لا بالشرط. قال ابن المنذر: «أجمعوا على أنَّ العامل أن يشترط على ربِّ المال ثُلُث الرِّبح، أو نصفه أو ما يجتمعان عليه، بعد أن يكون معلومًا، جزءًا من الأجزاء»(١).
ومن حيث حكمُها فالمضاربةُ جائزة بالإجماع، ومُستند الإجماعِ إقرارُه صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم في زمنه من غير نكيرٍ، والمضاربةُ داخلةٌ تحت قوله تعالى: ﴿وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ﴾ [البقرة: ٢٧٥]، وهي مشمولةٌ بقوله تعالى: ﴿تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ﴾ [النساء: ٢٩]، وكذا بأدلةِ جوازِ البيع والإجارةِ والوكالةِ؛ لأنّ المضارِبَ أمينٌ وأجيرٌ ووكيلٌ وشريكٌ -كما قال ابنُ القيم(٢)-.
ومن حيث أحكامُها -فضلاً عمَّا تقدَّم من أحكامٍ- فإنَّ المضاربةَ تصحُّ مؤقتةً بزمنٍ محدَّدٍ، كما تجوز معلَّقةً على شرطٍ؛ لأنَّ المضاربة تَصَرُّفٌ مأذونٌ فيه، ويجوز تعليقه على شرطٍ مستقبَل، فإنَّ المضارِبَ أمينٌ فإذَا قبضَ المالَ فالواجبُ أن يحافظَ عليه، ويتَّقيَ اللهَ فيما وُكِّلَ فيه، فلا يجوز أن يُنْفِقَ من مال المضاربة على منافعِهِ الخاصَّة -أو نفقات العلاج ونحوه- ولا أن يستعمله لمصلحة المضاربة في أسفاره وتنقلاته إلاَّ بسابق اشتراطٍ على صاحب المال؛ لأنَّ العامل أجيرٌ فيما يُباشرُه بنفسه من العمل، وشريكٌ إذا ظهر فيه الرِّبح فهو يعمل بجزء من ربحه، والزيادة على الربح لا يستحقُّها إلاَّ بشرط، أو جريًا على العادة التي تجري مجرى الشرط عملاً بقاعدة «المَعْرُوفُ عُرْفًا كَالمَشْرُوطِ شَرْطًا».
والعامل لا يَستحِقُّ من الرِّبح شيئًا إلاَّ بعد كمال رأس المال، وإذا فَسَدت المضاربةُ وبَطَلَتْ فلا يكون للعامل إلاَّ أجرة مثله لاستحقاقه الرِّبح بالشرط، إذ المعلوم أنه إذا فسد المتبوع وهو المضاربة فسد التابع وهو الشرط،؛ لأنَّ «التَّابِعَ تَابِعٌ»، و«إِذَا سَقَطَ الأَصْلُ سَقَطَ الفَرْعُ»، أمَّا ربُّ المال فيكون الرِّبح له إذا ما فسدت المضاربة لأنَّ الربح نماء ماله.
– والمضارِبُ يملك بيع مال المضاربة نقدًا؛ لأنَّ المضارَبة قد انعقدت بقصد التجارة وطلب الرِّبح، والبيع نقدًا من أهمِّ وسائل التجارة، غير أنه من الأمانة أن لا يعمل بمال شخصٍ آخرَ على وجهٍ يضرُّ بصاحب المال الأول إلاَّ إذا أَذِن له، إذ قد يستغرق مالُ العاقد الثاني جُلَّ وقتِ العامل فيُشغِلُه عن المضاربة والاتجار بمال الأوَّل، وخاصَّة إذا كان المالُ كثيرًا، الأمر الذي يؤدِّي إلى الضرر، والضررُ منهي عنه بقوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم: «لاَ ضَرَرَ وَلاَ ضِرَارٍ»(٣)، فإن أذن له صاحبُ المال الأول بالعمل بالمال للعاقد الثاني ولم يلحقه ضرر فلا مانع في هذه المضاربة وازدواج عمل العامل.
أمَّا إذا حصل الضرر على صاحب المال الأوَّل فالواجب على العامل ردُّ حِصَّته من الرِّبح في مضاربته مع الثاني إلى شركته مع صاحب المال الأول، فالمضارِبُ الثاني يأخذ نصيبَه من الرِّبح، أمَّا نصيب العامل من الرِّبح فيضُمُّه مع المضاربة الأُولى لاستحقاق المضاربة الأولى المنفعة التي بذلها العامل في المضاربة الثانية، ويكون الربح بينهما بحسَب ما اشترطاه.
هذا، ولما كان الربح المجعول بينهما وقاية لرأس المال فلا يجوز قسمته في المضاربة قبل انتهاء العقد بينهما إلاَّ إذا حصل بينهما تراضٍ، إذ المعلوم أنَّ الربح قد يغطي ما يقع من خسارة في بعض الصفقات التجارية ويؤمنها بالربح، فإذا ما قسَّم المردود ووزع الربح المالي قبل انتهاء عقد المضاربة لم يبق -حالتئذ- رصيد يجبر به الخسارة.
وأخيرًا، ومن منطلق الأمانة -أيضًا- فإنه إن حدث نزاع فإنَّ العامل يُقبَل قوله في دعواه على مقدار الرِّبح والخسارة، وما حصل من تلف وعطب، كما يُقبل قولُه فيما يُبيِّنُه من مشتريات عَقَدَها لنفسه لا للمضاربة، وأخرى أبرمها للمضاربة لا لنفسه؛ لأنه أمينٌ على ما تحت يده من مال المضاربة، فيَضْمَنُ ما تلف منه إذا كان بتعدٍّ بتصرف لا يملكه من عموم التصرُّفات، أو تفريطٍ في حفظه، ولا يضمن إذا لم يَتَعَدَّ ولم يفرِّط إجماعًا(٤).
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: ٤ ربيع الأوَّل ١٤٢٩ﻫ
الموافق ﻟ: ١١/ ٠٣/ ٢٠٠٨م
(١) «الإجماع» لابن المنذر: (١١١).
(٢) «زاد المعاد» لابن القيم: (١/ ١٥٤).
(٣) أخرجه ابن ماجه في «الأحكام» باب من بنى في حقه ما يضرّ بجاره: (٢٤٣١)، وأحمد في «مسنده»: (٢٩٢١)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. قال النووي في الحديث رقم (٣٢) من «الأربعين النووية»: «وله طرق يَقْوى بعضُها ببَعض»، وقال ابن رجب في «جامع العلوم والحكم» (٣٧٨) «وهو كما قال». والحديث صححه الألباني في «الإرواء» (٣/ ٤٠٨) رقم: (٨٩٦)، وفي «غاية المرام» رقم: (٦٨).
(٤) انظر «الاستذكار» لابن عبد البر: (٧/ ٥)، «بداية المجتهد» لابن رشد: (٢/ ٢٣٦)، «المغني» لابن قدامة: (٥/ ٧٦).
بيان مكان جواز البيع تبعاً لاتصاله وانفصاله عن المسجد
من الفتوى رقم: ٦٩١ – في حكم البيع في ساحة المسجد
فإنَّ فِناءَ المسجدِ وساحتَهُ ورَحَبَتَهُ وحوالَيْهِ وما أُضِيفَ إليه وما اتَّصل به خارِجَه أو داخِلَه يُعَدُّ مِنْ حريمِ المسجد على الأصحِّ، وحريمُ المسجدِ حُكْمُه حُكْمُ المسجدِ مِنْ حيث عدَمُ مشروعيةِ البيع فيه وإنشادِ الضالَّة والاستنجاءِ، وتغسيلِ الموتى ونحو ذلك، سواءٌ أُحِيطَتْ مِساحتُه المُضافةُ إليه إضافةَ قرارٍ ببنيانٍ أو سِيَاجٍ أو كانَتْ غيرَ مُحاطةٍ ما دامَتْ مِساحتُها معلومةَ الحدود، كما أنه يُشْرَع فيها تحيَّةُ المسجد والاقتداءُ بمَنْ في المسجد إذا اكتظَّ بالمُصَلِّين، وغيرُ ذلك مِنَ الأحكام المتعلِّقةِ بالمسجد، وَفْقًا لقاعدةِ: «الحَرِيمُ لَهُ حُكْمُ مَا هُوَ حَرِيمٌ لَهُ»، التي أصلُها قولُه صلَّى الله عليه وسلَّم: «أَلَا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، أَلَا وَإِنَّ حِمَى اللهِ مَحَارِمُهُ».
أمَّا إذا كانَتْ توابعُ المسجدِ مِنْ ساحته وفِنائِه مُضافةً إلى المسجدِ وهي مُنْفَصِلةٌ عنه بطريقٍ أو مَمَرٍّ بحيث لا يُقْتَدر على الدخول إلى التوابع إلَّا بعد الخروجِ مِنَ المتبوع؛ فلا تُمْنَعُ ـ والحالُ هذه ـ ممَّا يُمْنَع في التوابعِ المُتَّصِلةِ اتِّصالَ قرارٍ لكونها مُنْفَصِلةً عنه انفصالًا حقيقيًّا وفعليًّا؛ فتَبَعِيَّتُها للمسجد تبعيةٌ اسْمِيةٌ وشكليةٌ لا فعليةٌ؛ لذلك يختلف حكمُها.
في شراء الأموال المحجوزة مصادرةً
من الفتوى رقم: ٩٦٠
البضائعُ والسِّلعُ ومختلَفُ الأموالِ غير المرخَّص فيها التي أخذتها الدولة من أصحابها مصادرةً، سواءٌ كان تبريرُ مصادرتها مصبوغًا بالشرعية من تحقيق المصلحة العامَّة للأُمَّة، والمحافظةِ على استقرارها اقتصاديًّا واجتماعيًّا، أو تجرَّدت مصادرتُها من أيِّ صبغةٍ شرعية؛ فإنَّ الحيطة الدِّينية تقتضي اتِّقاءَ المشاركة في التجارة على ممتلكات الغير، سواءٌ بالمزاد العَلَني أو السِّرِّيِّ، خشيةَ الوقوع في أكلِ أموال الناس بالباطل المحرَّم بنصِّ قوله تعالى: ﴿وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ﴾ [البقرة: ١٨٨]، وقوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم: «كُلُّ المُسْلِمِ عَلَى المُسْلِمِ حَرَامٌ: دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ».
وتفصيل تعليل ترك التجارة فيها لا يخرج عن ثلاث حالاتٍ:
الحالة الأولى: أن تكون مصادرة الدولة لأملاك الناس بغير سببٍ شرعيٍّ، فإنَّ شراء البضائع المهرَّبة -والحال هذه- يُعَدُّ مِن شراء المغصوب من الغاصب، سواءٌ كانا شخصين طبيعيين أو شخصين معنويين أو أحدهما طبيعيًّا والآخَر معنويا اعتباريًّا.
الحالة الثانية: أن تكون مصادرةُ الدولة لأملاكهم عقوبةً استحقاقيةً يشفع لها مذهب المجوِّزين للعقوبة التعزيرية المالية، فإنَّ المواضع المخصوصة للتعزير بالمال ليس فيها ما يجيز للحاكم أن يسلب الناسَ أموالهم بما في يده من سلطة التعزير.
وأقوى الأقوال في التعزير الماليِّ منعُ هذه العقوبة لِما فيها من التعدِّي على حقِّ المسلم الماليِّ ممَّا لا يرضاه الله تعالى إلاَّ في حدودِ ما جاءت به النصوصُ من الجواز، وهي تكاد أن تكون محصورةً في مواضعَ ثلاثةٍ: الإتلاف والتغيير والتغريم، والمطلوبُ في هذه المسألة مُنْتَفٍ.
هذا، وعلى تقديرِ أنَّ المسألة خلافية فإنَّ ترك الشراء وعموم التجارة فيما فيه شبهةُ الحرام أحوطُ للدِّين وأبرأُ للذِّمَّة، لقوله صلَّى اللهُ عليه وآله وسلَّم: «فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الحَرَامِ»(٢).
الحالة الثالثة: إذا كان صاحب المتاع المحجوزِ مصادرةً يأذن لغيره بشراء بضاعته بطيب نفسٍ منه، أو يتنازل له فيها فجائزٌ لقوله صلَّى اللهُ عليه وآله وسلَّم: «لاَ يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلاَّ بِطِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ».
الفتوى رقم: ٦٩٨
فإن كان ما تحجُزُه المحكمةُ من مُعدّاتِ المؤسّساتِ المُفْلِسَةِ المُثْقَلَةِ بالدُّيون قَصْدَ تسديدِ ديونِ الدائنينِ على الغارمين فالظاهرُ جوازُ شراءِ ما تُعدُّه للبيع بالمزاد العلنيِّ استبقاءً للحقوق وردًّا للمظالِمِ.
أمّا ما تحجُزُه الجماركُ من أموال الناسِ وسِلَعهم الذين لا يقتدرون على دفع الضرائب الجُمْرُكية المفروضة جبرًا، أو تلك السلع التي أباحها الشرعُ ومنعتها السلطاتُ بدعوى مصلحةِ البلاد والعبادِ فالظاهرُ أنه لا يجوز شراؤُها إلاّ إذا رضي أصحابُها أو دُفع لهم قيمة سلعتهم.
في مناقشة أدلة المجزين و المانعين لأخذ الأجرة على تعليم القرأن و العلوم الشرعية
الفتوى رقم: ١١٠
فاعْلَمْ أنَّ ما عليه جمهورُ أهل العلم: جوازُ أخذِ الأجرة على تعليم القرآن ؛ استدلالًا بما ثَبَتَ في الصحيح مِنْ حديثِ ابنِ عبَّاسٍ رضي الله عنهما أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال: «إِنَّ أَحَقَّ مَا أَخَذْتُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا كِتَابُ اللهِ» ،وبما ثَبَتَ في الصحيحين ـ أيضًا ـ مِنْ حديثِ المرأةِ التي زوَّجها النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم برجلٍ على أَنْ يعلِّمَها ما معه مِنَ القرآن، وبقوله صلَّى الله عليه وسلَّم لعمر بنِ الخطَّاب رضي الله عنه: «مَا آتَاكَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ هَذَا الْمَالِ مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ وَلَا إِشْرَافٍ فَخُذْهُ فَتَمَوَّلْهُ أَوْ تَصَدَّقْ بِهِ، وَمَا لَا فَلَا تُتْبِعْهُ نَفْسَكَ»، قال ابنُ حزمٍ ـ رحمه الله ـ: «والإجارةُ جائزةٌ على تعليم القرآن، وعلى تعليمِ العلم مُشاهَرةً وجملةً، وكُلُّ ذلك جائزٌ، وعلى الرُّقَى، وعلى نسخِ المَصاحف، ونسخِ كُتُبِ العلم؛ لأنه لم يأتِ في النهي عن ذلك نصٌّ، بل قد جاءَتِ الإباحةُ».
أمَّا ما استدلَّ به الحنفيةُ ومَنْ وافَقَهم مِنْ حديثِ عُبادةَ بنِ الصامت رضي الله عنه قال: «عَلَّمْتُ نَاسًا مِنْ أَهْلِ الصُّفَّةِ الْكِتَابَ وَالْقُرْآنَ، فَأَهْدَى إِلَيَّ رَجُلٌ مِنْهُمْ قَوْسًا، فَقُلْتُ: لَيْسَتْ بِمَالٍ، وَأَرْمِي عَنْهَا فِي سَبِيلِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، لَآتِيَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَأَسْأَلَنَّهُ، فَأَتَيْتُهُ فَقُلْتُ: «يَا رَسُولَ اللهِ، رَجُلٌ أَهْدَى إِلَيَّ قَوْسًا مِمَّنْ كُنْتُ أُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْقُرْآنَ، وَلَيْسَتْ بِمَالٍ، وَأَرْمِي عَنْهَا فِي سَبِيلِ اللهِ؟» قَالَ: «إِنْ كُنْتَ تُحِبُّ أَنْ تُطَوَّقَ طَوْقًا مِنْ نَارٍ فَاقْبَلْهَا»»، والحديثُ له طُرُقٌ وشواهدُ؛ فقَدْ رُوِيَ معناه عن أُبَيِّ بنِ كعبٍ وعن عبد الرحمن بن شِبْلٍ وعن عمران بنِ حُصَيْنٍ رضي الله عنهم مؤوِّلِين حديثَ ابنِ عبَّاسٍ رضي الله عنهما بأنَّ المراد بالأجر فيه: الثوابُ، وذَهَبَ آخَرُون إلى القول بأنَّه منسوخٌ بالأحاديث الواردة في الوعيد على أَخْذِ الأجرة على تعليم القرآن، ومنها: حديثُ عثمان بنِ أبي العاص قال: «إِنَّ مِنْ آخِرِ مَا عَهِدَ إِلَيَّ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنِ: اتَّخِذْ مُؤَذِّنًا لَا يَأْخُذُ عَلَى أَذَانِهِ أَجْرًا».
فإنَّ الجمهور يردُّون ما اعترض به الحنفيةُ بأنَّ حديثَ عُبادةَ رضي الله عنه في سندِه مَنْ هو مختلَفٌ فيه وهو المغيرةُ بنُ زيادٍ، وكُلُّ الشواهد الأخرى لم يصحَّ منها شيءٌ، وليس فيها ما تقوم به الحجَّةُ؛ لذلك رجَّحوا حديثَ ابنِ عبَّاسٍ رضي الله عنهما في البخاريِّ لعدمِ وجودِ مَنْ هو مختلَفٌ في عدالته؛ ترجيحًا بالاتِّفاق على عدالة الراوي، وهو مِنْ وجوه الترجيح مِنْ جهةِ السند باعتبار حال الراوي.
وعلى تقديرِ أنَّ مجموع ما تُفيدُه هذه الأحاديثُ يُورِثُ ظنًّا بعدم الجواز وتنتهض للاستدلال على المطلوب فجوابُه أنَّ تلك الأحاديثَ ليس فيها تصريحٌ بالمنع على الإطلاق، بل هي وقائعُ أحوالٍ محتمِلةٌ للتأويل؛ لتُوافِقَ الأحاديثَ الصحيحة على ما بيَّنه ابنُ حجرٍ والشوكانيُّ رحمهما الله.
وأمَّا حملُ الأجر في حديثِ ابنِ عبَّاسٍ رضي الله عنهما على الثواب فبعيدٌ؛ لأنَّ سياقَ القصَّةِ التي في الحديث يأبى هذا التأويلَ، والقولُ بأنَّه منسوخٌ متعقَّبٌ بأنَّ النسخ لا يَثْبُتُ بالاحتمال.
هذا، وقد سَلَك بعضُ العلماء مَسْلَكَ الجمع بين هذه الأحاديثِ التي ظاهِرُها التعارضُ، وأظهرُ وجوهِ الجمع هو حملُ حديثِ ابنِ عبَّاسٍ رضي الله عنهما على العموم، بما في ذلك: تعليمُ القرآن وعلومِ الشريعة، وأخذُ الأجرةِ على التلاوة لمَنْ طَلَبَ مِنَ القارئ ذلك، وأخذُ الأجر على الرقية ونحو ذلك، ويُخَصُّ مِنْ هذا العمومِ تعليمُ المكلَّف، ويبقى ما عدَاهُ داخلًا تحت العموم وبه قال الشوكانيُّ ـ رحمه الله ـ.
وعندي أنَّه يجوز أخذُ الأجرةِ كمَصْدرِ رزقٍ في مُقابِلِ التفرُّغ لأداء الطاعات والقُرُبات على الوجه الأكمل، وليس ذلك بعوضٍ عن الطاعات وإنَّما للإعانة عليها؛ ذلك لأنَّ اشتغال هؤلاء بتحصيلِ ما به قِوامُ حياتهم وحياةِ مَنْ يعولونهم تضييعٌ للقرآن الكريم والشرعِ الحنيف بانقراض حَمَلَتِه، وهذا لا يُخْرِجه عن كونه قُرْبةً وطاعةً ولا يقدح في الإخلاص، وإلَّا ما استُحِقَّتِ الغنائمُ وسَلَبُ القتيل، ثمَّ إنَّ في تعليم القرآن والعلوم الشرعية ما يُساعِدُ على نشرِ الإسلام وتعاليمِه؛ لذلك أفتى متأخِّرو الحنفية بجوازِ أخذِ الأجرة على تعليم القرآن والفقهِ والحديث؛ استثناءً مِنْ أصلهم وعدولًا عن مذهبهم استحسانًا، مُوافِقين في ذلك مذهبَ الجمهور.
هذا كُلُّه فيما إذا كان المعلِّمُ غيرَ مشمولٍ برزقٍ مِنَ الجهة الوصيَّة أو غيرِها، أمَّا إذا كان المعلِّمُ تُجْرَى عليه مرتَّباتٌ ماليةٌ مِنْ قِبَلِ وزارته فلا يصحُّ أَنْ يأخذ مالًا زائدًا مِنْ جهةِ أولياء التلاميذ؛ لأنَّ العمل المعلومَ مدفوعُ الأجر، وما زاد فبأيِّ حقٍّ يأخذه؟ وقد قال النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم: «مَنِ اسْتَعْمَلْنَاهُ عَلَى عَمَلٍ فَرَزَقْنَاهُ رِزْقًا، فَمَا أَخَذَ بَعْدَ ذَلِكَ فَهُوَ غُلُولٌ»، اللهم إلَّا إذا عَمِلَ عملًا آخَرَ خارجًا عن إطارِ عَمَلِه كفضلٍ زائدٍ مِنْ غيرِ إخلالٍ ولا إحداثِ اضطرابٍ في انتظام عملِه الأصليِّ، ولا استعمالٍ لمَرافِقِ المسجد لمصلحته؛ فله ـ والحالُ هذه ـ أَنْ يُعينَ نَفْسَه وأهلَه مِنْ متطلَّباتِ المعيشة والحاجيات الأساسية بأَنْ يأخذ البذلَ المعلوم الزائد في مُقابِلِ العمل المعلوم الزائد.
في حكم التصوير:
من الفتوى رقم: ١٤٩ – في حكم صناعة أحذيةٍ فيها صُوَرُ الحيوانات
اعْلَمْ أنه يُوجَدُ فَرْقٌ ـ في الحكم ـ بين التصوير واقتناءِ الصورة.
أمَّا مُباشَرةُ التصوير بصياغته باليد عن طريق النحت أو النقش أو الرسم فالأصلُ فيه التحريمُ؛ لِمَا فيه مِنْ مضاهاةٍ لخَلْقِ الله تعالى على ما ثَبَتَ مِنَ النصوص الحديثية التي تُحرِّمُ ذلك وتُعلِّلُ التحريمَ بهذا المعنى.
ويستثنى مِنْ ذلك الصُّوَرُ الخالية مِنَ الروحِ والصورةُ التي ليسَتْ مُتَّصِلةَ الهيئةِ كصورة اليد أو الرِّجْلِ أو العين أو الأصبع ونحوِها؛ لكونها غيرَ كاملة الخَلْق.
أمَّا اقتناءُ الصورةِ واستعمالُهَا فلها أحكامٌ مُخْتلِفةٌ حَسَبَ القرائن والأحوال المُصاحِبة لذلك الاستعمال:
- فإِنْ كان الاستعمالُ باتِّخاذِ صورةٍ مُجسَّمةٍ لها ظلٌّ مِنْ ذوات الأرواح فإنَّ الإجماع مُسْتقِرٌّ على تحريمها، سواءٌ كانَتْ معلَّقةً أو منصوبةً أو محفوظةً.
- أمَّا غيرُ المجسَّمةِ التي خَلَتْ مِنْ ظِلٍّ فإمَّا أَنْ تكون معلَّقةً أو غيرَ معلَّقةٍ:
ـ فإِنْ كانَتْ معلَّقةً على الحائط مطبوعةَ الصورةِ عليه أو منقوشةً على الستائر أو غيرِها: فإِنْ كانَتْ معظَّمةً فحكمُها التحريمُ، وإِنْ لم يُقْصَدْ بها التعظيمُ فحكمُها الكراهةُ الشديدة.
ـ أمَّا غيرُ المعلَّقة وكانَتْ مُمْتَهَنةً بأَنْ تُداسَ أو تُوطَأَ أو تُلْبَسَ أو يُجْلَسَ عليها كالمَخَادِّ والوسائد ونحوِ ذلك مِنْ أنواع الاستعمالات التي تخرج عن هيئة التعظيم والتعليق فلا مانِعَ مِنِ اقتنائها واستعمالها؛ لحديثِ أبي طلحة رضي الله عنه مرفوعًا: «إِلَّا رَقْمًا فِي ثَوْبٍ» وغيرِه مِنَ الأحاديث، كما يُسْتثنى مِنَ التحريمِ لُعَبُ الأطفال وما على شاكِلَتِها ممَّا يَتلهَّى به الصغارُ؛ لحديثِ عائشة رضي الله عنها المعروف، ما لم تَقْترِنْ بتلك اللُّعَبِ مَظاهِرُ العُرْيِ والتبرُّجِ وفسادِ الأخلاق، أو تَكُنْ ممَّا لا يُلْعَبُ بها وإنَّما تُعلَّقُ على الجدران أو تُوضَعُ على الرفوف؛ فتُمْنَعُ لِمَا فيها مِنْ معنى التعظيم.
وبناءً على ذلك: فإِنْ كانَتْ مؤسَّسةُ الأحذية هي التي تُباشِرُ تصاويرَ ذواتِ الأرواحِ بصناعتها نقشًا أو رسمًا فيَحْرُمُ ذلك لِمَا تَقدَّمَ بيانُه.
أمَّا إذا جاء مصنوعًا ومصوَّرًا والمؤسَّسةُ عملُها أنَّها تَضَعُه على الأحذية فإنَّ الظاهِرَ أنَّ الملبوس مُمْتهَنٌ يخرج عن هيئة التعليق والتعظيم، وتصاويرُه عُرْضةٌ للامتهان والزوالِ في كُلِّ وقتٍ؛ فحكمُه الجوازُ. وهذا كُلُّه إذا لم تكن هذه التصاويرُ تُعبِّرُ عن شعارٍ دينيٍّ أو فكريٍّ إيديولوجيٍّ أو عِرْقيٍّ أو حزبيٍّ ونحوِ ذلك؛ فإنَّه يُمْنَعُ ذلك لعدمِ جوازِ الموالاةِ إلَّا لأهل الإيمان والجماعة.
في حُكم الضمان الإجتماعي، التأمينات الأجتماعية
من الفتوى رقم: ٣١٣
فاعْلَمْ أنَّ الصورة الجائزة شرعًا للضمان الاجتماعيِّ أو التأمين التعاونيِّ الذي هو مِنْ عقود التبرُّع: أَنْ يكون له صندوقٌ مِنْ تبرُّعات المحسنين يرمي مِنْ ورائه إلى مساعدة المحتاج والمكروبِ والمنكوب بتفتيت الأخطار والاشتراك في تحمُّل المسؤولية عند الحوادث والكوارث، ولا يعود فيه على المُشترِكين أيُّ عائدٍ استثماريٍّ مِنْ أرباحٍ أو رؤوسِ أموالٍ أو فوائدَ أخرى؛ لأنَّ القصد مِنَ الاشتراك تحصيلُ الثواب الأخرويِّ بإزالة الضرر عن الغير؛ عملًا بقوله تعالى: ﴿وَتَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلۡبِرِّ وَٱلتَّقۡوَىٰۖ وَلَا تَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلۡإِثۡمِ وَٱلۡعُدۡوَٰنِ﴾ [المائدة: ٢]، وقولِه صلَّى الله عليه وسلَّم: «وَاللهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ».
أمَّا صورة الضمان الاجتماعيِّ الحاليِّ فهو عبارةٌ عن صندوقٍ يقوم المشرفون عليه باقتطاعِ جزءٍ مِنْ أموالِ مرتَّبات العُمَّال والموظَّفين بصورةٍ دوريةٍ جبرًا مِنْ غيرِ اختيارٍ مِنْ أصحابها ولا رِضًا منهم، ثمَّ تربو أموالُهُم المُقتطَعةُ المُودَعةُ في البنوك أو المصارف المالية، ولا يخفى أنَّ الأصل في الأموال التحريمُ، ولا يَحِلُّ التصرُّفُ فيها إلَّا برِضًا مِنْ أصحابها؛ قال تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَأۡكُلُوٓاْ أَمۡوَٰلَكُم بَيۡنَكُم بِٱلۡبَٰطِلِ إِلَّآ أَن تَكُونَ تِجَٰرَةً عَن تَرَاضٖ مِّنكُمۡ﴾ [النساء: ٢٩]، وقال صلَّى الله عليه وسلَّم: «لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ [مُسْلِمٍ] إِلَّا بِطِيبِ نَفْسٍ مِنْهِ»، وقال: «كُلُّ المُسْلِمِ عَلَى المُسْلِمِ حَرَامٌ: دَمُهُ، وَمَالُهُ، وَعِرْضُهُ»، علمًا أنه يعود صندوقُ الضمان على المشتركين بمبالغَ ماليةٍ وفوائدَ، وإذا كان لا يجوز أخذُ أموالِ الناس قسرًا مِنْ غيرِ رِضًا منهم، أو وضعُها في المؤسَّسات البنكية لِمَا فيه مِنَ الظلم؛ فإنَّه ـ بالمقابل ـ يجوز للذي اقتُطِعَتْ منه الأقساطُ المالية الدوريةُ ـ ظلمًا ـ أَنْ يسترجع ما أُخِذ منه ـ جبرًا ـ عن طريقِ تعويضاتٍ عن العلاج وغيرِها.
حُكم عملِ المحامي
من الفتوى رقم: ٣٢٢
حُكم عملِ المحامي وما ينتفع به مِنْ أجرٍ تتوقَّف صحَّةُ وكالته بالخصومة على نوعيةِ مرافعاته القضائية، وهذا بغضِّ النظر عن جنسه وشخصيته، فإِنْ كان مصدرُ مرافعاتِه الشريعةَ الإسلامية جاز العملُ في المحاماة مِنْ حيث المبدأ الشرعيُّ، ويتوقَّف أجرُ سعيه على نوع الحماية والوكالة التي يقدِّمها للموكِّل، إمَّا إحقاقًا للحقِّ وإبطالًا للباطل فتكونُ أجرتُه صحيحةً، وإمَّا إحقاقًا للباطل وإبطالًا للحقِّ فتكون أجرتُه غيرَ صحيحةٍ.
أمَّا إذا كان مصدرها التشريعاتِ الوضعيةَ فتدخل هذه المرافعاتُ في التحاكم إلى غيرِ شرع الله، وذلك حرامٌ في شريعة الإسلام، ويُعَدُّ فعلُه شركًا في الحاكمية عند أهل التوحيد؛ لقوله تعالى: ﴿وَلَا يُشۡرِكُ فِي حُكۡمِهِۦٓ أَحَدٗا ٢٦﴾ [الكهف]، ولقوله تعالى: ﴿إِنِ ٱلۡحُكۡمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعۡبُدُوٓاْ إِلَّآ إِيَّاهُۚ ذَٰلِكَ ٱلدِّينُ ٱلۡقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يَعۡلَمُونَ ٤٠﴾ [يوسف]، ولقوله تعالى: ﴿وَلَا تَدۡعُ مَعَ ٱللَّهِ إِلَٰهًا ءَاخَرَۘ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَۚ كُلُّ شَيۡءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجۡهَهُۥۚ لَهُ ٱلۡحُكۡمُ وَإِلَيۡهِ تُرۡجَعُونَ ٨٨﴾ [القصص]، وغيرها مِنَ الآيات القرآنية، وفي الحديث قولُه صلَّى الله عليه وسلَّم: «إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَكَمُ، وَإِلَيْهِ الْحُكْمُ».
وعليه فالتعاون يخضع للتفريق السابق فعلًا أو تركًا؛ عملًا بقوله تعالى: ﴿وَتَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلۡبِرِّ وَٱلتَّقۡوَىٰۖ وَلَا تَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلۡإِثۡمِ وَٱلۡعُدۡوَٰنِۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۖ إِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلۡعِقَابِ ٢﴾ [المائدة].
في ضوابط السمسرة
من الفتوى رقم: ١١٣٥ – في حكم التسويق الشبكي الهرمي (باختصار)
الأوَّل: أنَّ السمسرة عقدٌ يُكلَّف بمُوجَبه السمسارُ بالبحث عن شخصٍ آخَرَ لربطِ العلاقة بين الطرفين قَصْدَ إبرامِ العقد بينهما مُقابِلَ أجرةٍ.
الثاني: يتميَّز عقدُ السمسرة بغياب العلاقة التبعية، أي: لا تربط السمسارَ أيُّ علاقةٍ تبعيةٍ بعميله.
الثالث: العقد الذي يُبْرِمه السمسارُ مع عميله ينتهي متى أبرم الطرفان العقدَ ويَستحِقُّ السمسارُ أجرةً.
الرابع: عقدُ السمسرةِ عقدُ وساطةٍ وتقريبٍ بين العميل والمُتعاقَد معه، يقوم السمسارُ بحملِ إرادة الطرفين على التعاقد، ويكون هدفُه الأساسيُّ تسهيلَ عملية التعاقد على البضاعة أو المُنْتَج محلِّ التعاقد بصورةٍ حقيقيةٍ، أي: أنَّ البضاعة أو المُنْتَجَ مقصودٌ في ذاته مجرَّدٌ عن أيِّ تلبيسٍ.
من الفتوى رقم: ١١٤٨ – في حكم تحديد أجرة السمسرة عن طريق النسبة المئوية أو الأجزاء
لا خلافَ بين أهل العلم في جواز السمسرة إذا تحدَّدَتْ بمبلغٍ معيَّنٍ نوعًا وقَدْرًا، لأنَّ العلم بالأجرة مُتَحَقِّقٌ بثمنٍ مُقَدَّرٍ مُتَّفَقٍ عليه بلا غَرَرٍ.
ولكنَّ الخلاف بين الفقهاء في تحديد الأجرة كالرُّبع ونصفِ الرُّبع أو السُّدسِ مِن ثَمَنِ البضاعة، أو جزءٍ معيَّنٍ مِن كُلِّ مائةٍ وهي النسبة المئوية ﻛ (٢.٥%) مِن ثمن البيع:
- فعلى مذهب الجمهور أنَّ الأجرة بالنسبة لا تجوز، ولو وقَعَتِ استحقَّ السمسارُ أجرةَ المثل، لِما في هذه المُعامَلةِ مِن الغرر في العِوَض بحيث يُجْهَل ثمنُ المبيع؛ فقَدْ تزيد أجرتُه زيادةً فاحشةً لا تَتناسَبُ مع حجم وساطته وعَمَلِه، لأنَّ السمسار أو الدلَّال وسيطٌ وليس بشريكٍ، وقد يُنْتَقَصُ ثَمَنُ المبيع ـ مِن جهةٍ أخرى ـ نقصانًا متدنِّيًا لا يَتلاءَمُ مع وساطته، ومِن ثَمَّ تَرِدُ الجهالةُ المُفْضِيةُ إلى الغَرَرِ المنهيِّ عنه في حديث أبي هريرة رضي الله عنه: «نَهَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعِ الْحَصَاةِ، وَعَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ»(١).
قال مالكٌ ـ رحمه الله ـ: «فأمَّا الرجل يُعْطَى السلعةَ فيقال له: «بِعْها ولك كذا وكذا في كُلِّ دينارٍ» لشيءٍ يُسَمِّيه فإنَّ ذلك لا يصلح؛ لأنه كُلَّما نَقَصَ دينارٌ مِن ثَمَنِ السلعة نَقَصَ مِن حقِّه الذي سَمَّى له؛ فهذا غررٌ لا يدري كم جَعَل له»(٢).
قال ابنُ عبد البرِّ ـ رحمه الله ـ: «هذا كما قال مالكٌ عند جمهور العلماء؛ لأنه إذا قال له: لك مِن كُلِّ دينارٍ درهمٌ أو نحوُ هذا ولا يدري كم مبلغُ الدنانير مِن ثَمَنِ تلك السلعة فتلك أجرةٌ مجهولةٌ وجُعْلٌ مجهولٌ، ومَن جَعَلَ الإجارةَ بيعًا مِن البيوع واعتلَّ بأنها بيعُ مَنافِعَ لم يُجِزْ فيها البدلَ المجهول كما لا يُجيزُه الجميعُ في بيوع الأعيان، وهذا هو قولُ جمهور الفقهاء، منهم: مالكٌ والشافعيُّ وأبو حنيفة»(٣).
- وخالَفَ في ذلك الحنابلةُ(٤)وبعضُ المالكية فأجازوا تحديدَ الأجرةِ عن طريق النسبة، قال التسولي ـ رحمه الله ـ: «وعلى ذلك تُخَرَّجُ أجرةُ الدلَّال برُبعِ عُشْرِ الثَّمَن مثلًا، ونصَّ على جوازها بذلك صاحِبُ «المعيار» في نوازل الشركة»(٥).
وعمدتُهم في ذلك أنَّ الأصل في المُعامَلات المالية وسائرِ أنواع التجارات والمَكاسِبِ الحِلُّ والإباحة، و«أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَلَ أَهْلَ خَيْبَرَ بِشَطْرِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا مِنْ ثَمَرٍ أَوْ زَرْعٍ»(٦)؛ فدلَّ ذلك أنَّ الأجرة بجزءٍ مِن الثَّمَنِ جائزٌ، والحديثُ يقوِّي أصلَ الإباحة ويُؤكِّدُه.
والمُعتبَرُ ـ عندي ـ مذهبُ جمهورِ أهلِ العلم لأنه وإِنْ كان الأصلُ في المُعامَلاتِ الماليةِ الحِلَّ والجوازَ إلَّا أنه اقترن به محذورٌ شرعيٌّ ينقله عن أصله وهو الجهالةُ والغررُ المنهيُّ عنه ـ كما تقدَّم ـ.
والمعلوم ـ مِن جهةٍ أخرى ـ أنَّ السمسرة، سواءٌ كانَتْ مقدَّرةً بالمدَّة أو بالعمل فهي دائرةٌ ـ على اختلاف الفقهاء ـ بين ثلاثة عقودٍ: الإِجارة والجُعالة والوَكالة، وبغضِّ النظر عن أحَقِّ ما تلتحق به مِن العقود السابقةِ فإنها تختلف ـ في تكييفِها الشرعيِّ ـ عن المُزارَعة أو المساقاة؛ فإنهما يدخلان في باب المُشارَكات التي مَبْناها العدلُ بين الشريكين؛ فإنَّ صاحِبَ الأرضِ مع المُزارِعِ أو صاحِبَ الشجرِ مع المُساقي يشتركان في المَغْنَم والمَغْرَم؛ فصورتُهما كصاحِبِ النقود التي دَفَعَها للمُضارِبِ في التجارة؛ فالغُنْمُ بينهما بالجزء أو بالنسبة المئوية والغُرْمُ عليهما، وهذا ـ بلا شكٍّ ـ يختلف عن السمسرة، سواءٌ اعتُبِرَتْ عَقْدَ إِجارةٍ أو جُعالةٍ أو وَكالةٍ؛ لذلك كان إلحاقُ باب السمسرةِ بباب المُزارَعةِ والمساقاةِ في الحكم ظاهِرَ الفرق، قال ابنُ تيمية ـ رحمه الله ـ في مَعْرِض بيانِ التكييف الشرعيِّ لعقد المُزارَعةِ والمُساقاة: «إنَّ المُزارَعة جائزةٌ، سواءٌ كان البذرُ مِن المالك أو مِن العامل أو منهما، وسواءٌ كانَتْ أرضًا بيضاءَ أو ذاتَ شجرٍ، وكذلك المُساقاةُ على جميع الأشجار، ومَن مَنَعَ ذلك ظنَّ أنه إجارةٌ بعِوَضٍ مجهولٍ وليس كذلك، بل هو مُشارَكةٌ كالمُضارَبة، والمُضارَبةُ على وَفْقِ القياس لا على خلافه؛ فإنها ليست مِن جنسِ الإجارة بل مِن جنسِ المُشارَكات»(٧)، وقال ابنُ القيِّم ـ رحمه الله ـ في سياقِ بيانِ الأحكام المُسْتَفَادةِ مِن غزوة خيبر: «ومنها: جوازُ المُساقاةِ والمُزارَعةِ بجزءٍ ممَّا يخرج مِن الأرض مِن ثمرٍ أو زرعٍ، كما عامَلَ رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم أهلَ خَيْبَرَ على ذلك، واستمرَّ ذلك إلى حينِ وفاته لم يُنْسَخِ ألبتَّةَ، واستمرَّ عَمَلُ خُلَفائه الراشدين عليه، وليس هذا مِن باب المُؤاجَرةِ في شيءٍ، بل مِن باب المُشارَكة، وهو نظيرُ المُضارَبة سواءً؛ فمَن أباحَ المُضارَبةَ وحرَّم ذلك فقَدْ فرَّق بين مُتماثِلَيْنِ»(٨).
والعلم عند الله تعالى، وآخِرُ دعوانا أنِ الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله على محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسلَّم تسليمًا.
الجزائر في: ٢٨ من ذي القعدة ١٤٣٣ﻫ
الموافق ﻟ: ١٤ أكتوبر ٢٠١٢م
(١) أخرجه مسلمٌ في «البيوع» (١٥١٣) مِن حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(٢) «الموطَّأ» لمالكٍ (٢/ ٦٨٥).
(٣) «الاستذكار» لابن عبد البرِّ (٦/ ٥٤٥)، وجاء في «الفتاوى الهندية» (٤/ ٤٥٠): «وفي الدلَّال والسمسارِ يجبُ أجرُ المثل، وما تَوَاضَعوا عليه أنَّ مِن كُلِّ عشرةِ دنانيرِ كذا فذلك حرامٌ عليهم». انظر: «حاشية ابنِ عابدين» (٦/ ٦٣)، و«مغني المحتاج» للشربيني (٢/ ٣٣٥).
(٤) انظر: «المغني» لابن قدامة (٥/ ٤٦٦).
(٥) «البهجة» للتسولي (٢/ ٢٩٩).
(٦) أخرجه البخاريُّ في «المزارَعة» بابُ المزارَعة بالشَّطر ونحوِه (٢٣٢٨)، ومسلمٌ في «المساقاة» (١٥٥١) مِن حديث ابنِ عمر رضي الله عنهما.
(٧) «مجموع الفتاوى» لابن تيمية (٣٠/ ١٢٤).
(٨) «زاد المَعاد» لابن القيِّم (٣/ ٣٤٥).
في حكم أخذ الأجرة على الحجامة
من الفتوى رقم: ٤٣٤:
فكسب الحجام حلال وهو محمول على الكراهة التنزيهية كما هو عند الجمهور استدلالاً بحديث ابن عباس رضي الله عنهما قَالَ: «احْتَجَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَعْطَى الَّذِي حَجَمَهُ، وَلَوْ كَانَ حَرَامًا لَمْ يُعْطِهِ»(١)، وفي رواية أبي داود: «وَلَوْ عَلِمَهُ خَبِيثًا لَمْ يُعْطِهِ»(٢)، كما استدلوا بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «مَا أَصَابَ الْحَجَّامُ فَاعْلِفُوهُ النَّاضِحَ»(٣) وفي حديث ابن عمر رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَا حَجَّامًا فَحَجَمَهُ وَسَأَلَهُ: كَمْ خَرَاجُكَ؟ فَقَالَ: ثَلاَثَة آصُعٍ، فَوَضَعَ عَنْهُ صَاعًا وَأَعْطَاهُ أَجْرَهُ(٤)، وفي حديث علي رضي الله عنه «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ احْتَجَمَ وَأَمَرَنِي فَأَعْطَيْتُ الْحَجَّامَ أَجْرَهُ»(٥)، وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: «احْتَجَمَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَجَمَهُ أَبُو طَيْبَةَ فَأَمَرَ لَهُ بِصَاعَيْنِ مِنْ طَعَامٍ وَكَلَّمَ أَهْلَهُ فَوَضَعُوا عَنْهُ مِنْ خَرَاجِهِ»(٦)، أمَّا حديث أبي مسعود رضي الله عنه قال: «نَهَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ كَسْبِ الحَجَّامِ»(٧)، وحديث رافع بن خديج أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «كَسْبُ الْحَجَّامِ خَبِيثٌ»(٨) فهو محمول على الكراهة التنزيهية لدناءة العمل وخسته لا على المحرم، إذ يسمى راذل المال ودنيء المال خبيثا كما في قوله تعالى: ﴿وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ﴾ [البقرة: ٢٦٧]، قال النووي: “هذه الأحاديث التي في النهي على التنزيه والارتفاع عن دنيء الأكساب والحثِّ على مكارم الأخلاق ومعالي الأمور، ولو كان حراما لم يفرِّق فيه بين الحر والعبد، فإنه لا يجوز للسيد أن يُطعم عبده ما لا يحِلُّ”(٩)، وعليه فإنَّ دفْعَ التعارض يكون بحمل النهي على الكراهة التنزيهية جمعًا بين الأدلة.
هذا، ولا يلحق بدلالة الاقتران على «ثَمَنُ الْكَلْبِ خَبِيثٌ وَمَهْرُ الْبَغِيِّ خَبِيثٌ وَكَسْبُ الْحَجَّامِ خَبِيثٌ»(١٠)فإنهما على التحريم لأنَّ الكلب نجس الذات وما حُرِّم لذاته حرم ثمنه لقوله صلى الله عليه وآله وسلم:«وَإِنَّ اللهَ تَعَالَى إِذَا حَرَّمَ شَيْئًا حَرَّمَ ثَمَنَهُ»(١١) ولأنَّ الزنا محرم وبذل العوض عليه وأخذه في التحريم مثله لأنَّه وسيلة إلى محرم والوسائل لها حكم المقاصد، ودلالة الاقتران ضعيفة عند الأصوليين لأنَّ الاقتران في النَّظم لا يستلزم منه الاقتران في الحكم إذ قد يُجمع الكلام بين القرائن في اللفظ ويفرق بينهما في المعاني بحسب الأغراض والمقاصد، وهذا إنَّما يُعلم ذلك بدلائل الأصول وباعتبار معانيها.
هذا، والحجامة معدودة من فنون الطبِّ، وفيها نفعُ وصلاحُ الأبدان، ويجوز فيها ما لا يجوز في الطبِّ كما يُشترط فيها ما لاَ يُشترط فيه في الجملة، قال ابن قدامة في «مختصر منهاج القاصدين» (١٧):” ولا يتعجب من قولنا: إنَّ الطبَّ والحساب من فروض الكفايات…(١٢) بل الحجامة فإنَّه لو خلا البلد عن حجام لأسرع الهلاك إليهم، فإنَّ الذي أنزل الداء أنزل الدواء وأرشد إلى استعماله”.
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما.
الجزائر في: ٢٩ ربيع الثاني ١٤٢٧ﻫ
المــوافق ﻟ: ٢٧ مـاي ٢٠٠٦م
(١) أخرجه البخاري في «البيوع» باب ذكر الحجام (٢١٠٣)، ومسلم في «السلام» (١٢٠٢)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
(٢) أخرجه أبو داود في «الإجارة» باب في كسب الحجَّام (٣٤٢٣)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
(٣) أخرجه أحمد (١٧٢٦٨)، من حديث رافع بن خديج رضي الله عنه. وصححه الألباني في «السلسلة الصحيحة» (٣/ ٣٩٠). وفسَّره بعضهم بالرقيق (العبيد) الذين يكونون في الإبل، فالغلمان نُضَّاح، والإبل نواضح [«النهاية» لابن الأثير:٥/ ٦٩].
(٤) أخرجه الترمذي في الشمائل المحمدية (١/ ٣٠١) رقم(٣٤٦)، من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، وصححه الألباني في «مختصر الشمائل المحمدية» (٣١٢).
(٥) أخرجه أحمد في «مسنده» (٦٩٢)، وابن ماجه في التجارات باب كسب الحجام (٢١٦٣)، من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه. وصححه الألباني في «مختصر الشمائل المحمدية» (٣١٠).
(٦) أخرجه البخاري في «الطب» باب الحِجَامَة مِنَ الدَّاء (٥٦٩٦)، ومسلم في المساقاة (١٥٧٧)، واللفظ له، من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
(٧) أخرجه ابن ماجه في التجارات باب كسْب الحجَّام (٢١٦٥)، من حديث أبي مسعود عقبة بن عمرو رضي الله عنه. وصححه العراقي في تخريج الإحياء (٢/ ١٤٣)، والألباني في «صحيح الجامع» (٦٩٧٦).
(٨) أخرجه مسلم في المساقاة والمزارعة (١٥٦٨)، من حديث رافع بن خديج رضي الله عنه.
(٩) شرح مسلم للنووي: ١٠/ ٢٣٣.
(١٠) سبق تخريجه.
(١١) أخرجه ابن حبان في «صحيحه» (٤٩٣٨)، وأحمد في «مسنده» (٤/ ٤١٦)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وصححه الألباني في «غاية المرام» (٣١٨).
(١٢) راجع الفتاوى الطبية.
في مُوجِبِ التخصيص والتفضيل بين الأولاد في العطيَّة
من الفتوى رقم: ١١٥٨
فيجب على الواهبِ العدلُ بين أولاده جميعًا في العطيَّة ذَكَرِهم وأُنْثَاهم لقوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «فَاتَّقُوا اللهَ وَاعْدِلُوا بَيْنَ أَوْلَادِكُمْ»، ولقولِه صلَّى الله عليه وسلَّم للبشير بنِ سعدٍ رضي الله عنه: «أَيَسُرُّكَ أَنْ يَكُونُوا إِلَيْكَ فِي الْبِرِّ سَوَاءً؟» قَالَ: «بَلَى» قَالَ: «فَلَا إِذًا»، وفي روايةٍ: «هَلْ لَكَ بَنُونَ سِوَاهُ؟» قَالَ: «نَعَمْ» قَالَ: «سَوِّ بَيْنَهُمْ».
وصِفَةُ العدلِ والتسويةِ بين الأولاد أَنْ يُعطى للذَّكَرِ ضِعْفُ قَدْرِ ما يُعْطى للأنثى على صورةِ قسمةِ المواريث على الراجح؛ إِذْ هذه الصفةُ كانَتْ معروفةً في العهود المفضَّلة، قال عطاءٌ: «لَا نَجِدُهُمْ كَانُوا يَقْسِمُونَ إِلَّا عَلَى كِتَابِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ» ، وهو خبرٌ عن جميعهم. (أخرجه الطبرانيُّ في «الكبير» (١٨/ ٣٤٨)، وعبد الرزَّاق في «المصنَّف» (١٦٤٩٩)، وإسنادُه صحيحٌ إلى عطاءٍ، انظر: «التحجيل في تخريجِ ما لم يُخَرَّج مِن الأحاديث والآثار في إرواء الغليل» (٢٦٤).)
هذا، ومُوجِبُ المنعِ مِن التخصيص والتفضيل بين الأولاد ما إذا اشتركوا فيما لهم فيه حاجةٌ مِن نفقةٍ وتزويجٍ وتَكَسُّبٍ ونحوِ ذلك؛ فإنَّ التخصيص والتفضيل ـ على سبيل الأَثَرَةِ ـ مُنافٍ للتقوى، وهو مِن الجَوْر والظلم، وهو ذريعةٌ إلى العداوة والبغضاء وقطيعةِ الرَّحِمِ نتيجةَ الإحساس بالتفاضل السلبيِّ والحرمان والتهميش.
أمَّا إذا وُجِدَ مُوجِبُ التخصيص والتفضيل بين الأولاد لمسوِّغٍ شرعيٍّ يدعو إلى ذلك كأَنْ يكون أحَدُ الأولاد مريضًا محتاجًا لمَصارِيفِ العلاج والآخَرون ليسوا كذلك، أو كان ذا عاهةٍ لا يعمل معها، أو ذا عائلةٍ لا يُغَطِّي حاجياتِها والباقون أغنياءُ ليسوا مِثْلَه، أو كان زَمِنًا أو أعمى أو طالِبَ علم متفرِّغًا له دونَ بقيَّةِ الأولاد المُنْشَغِلين بالتكسُّب والاسترزاق؛ فإِنْ فُضِّلَ لشيءٍ مِن هذه المَقاصِدِ أو خُصِّصَ فلا حَرَجَ في ذلك، والعدلُ ـ في هذا الجانب ـ أَنْ يُعطى كُلُّ واحدٍ بحسَبِ ما يحتاج إليه، وينبغي التفريقُ بين محتاجِ قليلٍ أو كثيرٍ، ويشهد له تفضيلُ أبي بكرٍ الصدِّيقِ رضي الله عنه ابنتَه عائشةَ رضي الله عنها بجُذَاذِ عشرين وَسْقًا نَحَلَها إيَّاها دونَ بقيَّةِ أولاده(انظر: «شرح معاني الآثار» للطحاوي (٤/ ٨٨)، و«السنن الكبرى» للبيهقي (٦/ ٢٨٠).)، وتفضيلُ عمر رضي الله عنه ابنَه عاصمًا بعطيَّةٍ مَنَحَها له، وتفضيلُ عبد الرحمن بنِ عوفٍ رضي الله عنه ولَدَ أمِّ كُلْثومٍ بنتِ عُقْبَةَ بنِ أبي مُعَيْطٍ، واشتهر ذلك عند الصحابةِ ولم يَرِدْ نكيرٌ؛ فكان ذلك إجماعًا على جوازه للمَعاني السالفةِ البيان.
كما يجوز التخصيصُ والتفضيل ـ مِن جهةٍ أخرى ـ إذا رضي أولادُه غيرُ الموهوبِ لهم بما خصَّه والِدُهم للبعض المُعْطى لهم لانتفاءِ المعنى الذي مِن أَجْله مُنِعَ التخصيصُ.
في تجارة أسهم الشركات التي تتعامل بالربا
من الفتوى رقم: ٩٥
فاعْلَمْ أنَّ بيعَ وشراءَ أَسْهُمِ شركاتٍ تُودِع أموالَها في المصارف والبنوك الربوية وتأخذ على الودائعِ زيادةً ربويةً، وتقترض بزياداتٍ ربويةٍ، أنَّ ذلك حرامٌ وباطلٌ؛ لقوله تعالى: ﴿وَأَحَلَّ ٱللَّهُ ٱلۡبَيۡعَ وَحَرَّمَ ٱلرِّبَوٰاْۚ فَمَن جَآءَهُۥ مَوۡعِظَةٞ مِّن رَّبِّهِۦ فَٱنتَهَىٰ فَلَهُۥ مَا سَلَفَ وَأَمۡرُهُۥٓ إِلَى ٱللَّهِۖ وَمَنۡ عَادَ فَأُوْلَٰٓئِكَ أَصۡحَٰبُ ٱلنَّارِۖ هُمۡ فِيهَا خَٰلِدُونَ ٢٧٥ يَمۡحَقُ ٱللَّهُ ٱلرِّبَوٰاْ وَيُرۡبِي ٱلصَّدَقَٰتِۗ وَٱللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ ٢٧٦﴾، وقوله تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ ٱلرِّبَوٰٓاْ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَ ٢٧٨ فَإِن لَّمۡ تَفۡعَلُواْ فَأۡذَنُواْ بِحَرۡبٖ مِّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦۖ وَإِن تُبۡتُمۡ فَلَكُمۡ رُءُوسُ أَمۡوَٰلِكُمۡ لَا تَظۡلِمُونَ وَلَا تُظۡلَمُونَ ٢٧٩﴾ [البقرة]، وقولِه تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَأۡكُلُواْ ٱلرِّبَوٰٓاْ أَضۡعَٰفٗا مُّضَٰعَفَةٗ﴾ [آل عمران: ١٣٠]، وعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: «لَعَنَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آكِلَ الرِّبَا وَمُؤْكِلَهُ وَكَاتِبَهُ وَشَاهِدَيْهِ، وَقَالَ: «هُمْ سَوَاءٌ»»
في حكم شراء مسكن عن طريق البنك (التعامل بالربا لضرورة السكن)
الفتوى رقم: ٩٨
السؤال:
أنا أبٌ لعشرة أطفالٍ (٤ ذكور و٦ إناث منهنَّ أربعٌ غيرُ متزوِّجات) تتراوح أعمارُهم ما بين (٢٥) سنةً و(٨) سنوات، ساكنٌ عند حماتي (أمِّ الأهل) منذ (٢٠) سنةً في بيتٍ ومطبخٍ، دفعتُ عِدَّةَ طلباتٍ للحصول على سكنٍ طيلةَ هذه المدَّة (٢٠ سنة)، لكِنْ دون جدوى، أمَّا ابني صاحب (٢٣) سنةً فهو خاطبٌ منذ (٧) أشهرٍ، لكِنْ بسببِ غلاء السكن بيعًا وكراءً تَعسَّر عليه القيامُ بالعرس، حتَّى اقترح عليه أحَدُ أصحابه أَنْ يتنازل لابني عن نصيبٍ مِنَ الأرض التي أعطَتْه إيَّاها الشركةُ التي يعمل فيها، والتي يتكفَّل الصندوق الوطنيُّ للتوفير والاحتياط (CNEP) بالمساهمة في تمويل مشروعِ بناءِ سكنٍ عليها بقرضٍ يسدِّده المستفيدُ مِنْ مرتَّبه الشهريِّ، لكِنْ بالفوائد الربوية؛ فما حكمُ الشرع في هذه المعاملةِ والحالُ ما ذَكَرْناه؟ وبارك الله فيكم.
الجواب:
الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلام على مَنْ أرسله الله رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبِه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:
فإنَّ الاقتراض مِنَ البنوك أو ما يُماثِلها مِنَ المصارف المالية الحاليَّة المؤسَّسة على التعامل الربويِّ حرامٌ قطعًا بنصِّ الآيات القرآنيَّة المنزلة على هذا النوع مِنْ رِبَا الديون الذي آذَنَ الله الذين يتعاملون به بحربٍ مِنَ الله ورسوله، والأحاديث النبوية الكثيرة التي تنهى ـ أيضًا ـ عنه، منها: قولُه تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ ٱلرِّبَوٰٓاْ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَ ٢٧٨ فَإِن لَّمۡ تَفۡعَلُواْ فَأۡذَنُواْ بِحَرۡبٖ مِّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦۖ وَإِن تُبۡتُمۡ فَلَكُمۡ رُءُوسُ أَمۡوَٰلِكُمۡ لَا تَظۡلِمُونَ وَلَا تُظۡلَمُونَ ٢٧٩﴾ [البقرة]، وقوله تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَأۡكُلُواْ ٱلرِّبَوٰٓاْ أَضۡعَٰفٗا مُّضَٰعَفَةٗ﴾ [آل عمران: ١٣٠]، وعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: «لَعَنَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آكِلَ الرِّبَا وَمُؤْكِلَهُ وَكَاتِبَهُ وَشَاهِدَيْهِ، وَقَالَ: «هُمْ سَوَاءٌ»».
غير أنَّ مِثْلَ هذا الحرامِ القطعيِّ يُجوِّزه العلماءُ استثناءً لضرورةٍ حادثةٍ أو حاجةٍ مُلِحَّةٍ اقتضَتِ اللُّجوءَ إليه بعد تعذُّرِ كافَّةِ السُّبُل المُباحة للخروج مِنَ الضيق المادِّيِّ والمأزق الاجتماعيِّ كالقوت الضروريِّ لنفسه ولأولاده لدفعِ المجاعة عنهم، والملبسِ والمسكن الواقيَيْن، والعلاج الضروريِّ الذي يُخْشى تفاقمُ المرض إِنْ لم يُعالَجْ في الحالِ ونحوِ ذلك ممَّا يبلغ فيها العبدُ حالةً إذا لم تُراعَ لَجُزِم أو خِيفَ خوفًا مؤكَّدًا أَنْ تضيع مصالحُه الضروريةُ مِنْ حفظ الكُلِّيَّاتِ الخمس، على أَنْ تكون هذه الضرورةُ مقدَّرةً بقَدْرها وقائمةً بالفعل لا مُتوهَّمةً أو متوقَّعةً، وتقديرُ الضرورةِ موكولٌ لدِين المضطرِّ، فإذا تحقَّقَتِ الضرورةُ انتفَتْ عنه الحرمةُ بمقدارِ ما يدفع الضرورة؛ بناءً على ما تُمليهِ القواعدُ المبنيَّةُ على النصوص الشّرعية منها: «الضَّرُورَاتُ تُبِيحُ الْمَحْظُورَاتِ»، وقاعدةُ: «إِذَا ضَاقَ الأَمْرُ اتَّسَعَ»؛ مصداقًا لقوله تعالى: ﴿وَقَدۡ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيۡكُمۡ إِلَّا مَا ٱضۡطُرِرۡتُمۡ إِلَيۡهِ﴾ [الأنعام: ١١٩]، وقوله تعالى: ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيۡكُمۡ فِي ٱلدِّينِ مِنۡ حَرَجٖ﴾ [الحج: ٧٨]، وقولِه تعالى: ﴿مَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيَجۡعَلَ عَلَيۡكُم مِّنۡ حَرَجٖ﴾ [المائدة: ٦].
هذا، ولا يفوتني أَنْ أُذكِّر بأنَّ الضروراتِ و الحاجيَّاتِ المنزَّلةَ منزلتَها يجب أَنْ تكونَ بقدرها؛ أخذًا بقاعدةِ: «الضَّرُورَاتُ تُقَدَّرُ بِقَدْرِهَا»، وقاعدةِ: «إِذَا اتَّسَعَ الأمرُ ضَاقَ»، وقاعدةِ: «إِذَا زَالَ الْخَطَرُ عَادَ الْحَظْرُ».
على أنَّه ـ أخيرًا ـ إذا أَقْدَم عليه يكون كارهًا له ساخطًا عليه؛ لقوله تعالى: ﴿فَمَنِ ٱضۡطُرَّ غَيۡرَ بَاغٖ وَلَا عَادٖ فَلَآ إِثۡمَ عَلَيۡهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٌ ١٧٣﴾ [البقرة].
من الفتوى رقم:٤٤١
فإنَّه إذا خاف على ابنه الهلاكَ أو التلف عن النفس وتحرَّج بذلك، ولم يجد وسيلةً يدفع بها حَرَجَه ومشقَّته، لا بإعانة ذويه وجيرانه وإخوانه، ولا بتكفُّل جهةٍ طبيةٍ بابنه، أو جهةٍ حكومية، ولا استطاع أن يصل إلى قرضٍ حسنٍ ولم تَبْقَ سوى الوسيلةِ المحرَّمة ليدفع بها الضررَ قَدْرَ الإمكان واضطُرَّ إليها؛ جاز له دفعُ ضرورته بإزالة الضررِ اللاحق بابنه أو التخفيف عنه، لأنَّ المحافَظةَ على النفس مِن أعظمِ الواجبات الشرعية التي تستوجب إباحةَ المحظورات عند وقوع الإنسان في حالة الضرورة، قال تعالى: ﴿وَلاَ تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا﴾ [النساء: ٢٩]، وقال تعالى: ﴿وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾ [البقرة: ١٩٥]. وعليه فلا حرامَ مع الضرورة، ولكِنْ ليس له أَنْ يتوسَّعَ في الممنوع، بل يقتصر على قَدْرِ ما تندفع به ضرورتُه لقوله تعالى: ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [البقرة: ١٧٣]، وهذه الآيةُ غيرُ مقصورةٍ على المحرَّمات مِن الأطعمة، بل هي شاملةٌ لكُلِّ ما يتحقَّقُ الاضطرارُ إليه لأجل الحياة ودفعًا للهلاك إذا لم يُعارِضْه ما يُساوِيهِ مفسدةً أو أقوى منه.
هذا، وفي كُلِّ الأحوال، فالمرءُ موكولٌ لدينه في تقديرِ حقيقةِ الضرورة والحرجِ الشديد، وفي عدَمِ وجود الطُّرُق المُباحةِ في دَفْعِها.
نسأل الله تعالى أَنْ يَشفيَ مريضَكم، ويردَّه إليكم سالمًا مُعافًى، كما نسأل اللهَ تعالى لنا ولكم العافيةَ في الدنيا والآخرة، والصدقَ في القول والعمل، والثباتَ على الحقِّ والدين.
من الفتوى رقم: ٢٣٥
أمَّا التذرُّعُ بالاقتراض مِن أجل الضرورة فإنَّ الضرورة هي: أَنْ يبلغ فيها المرءُ درجةً يُوشِكُ على الهلاك أو يَقْرُبُ منه، بمَعْنَى أَنْ يكون اقترافُه للمعصية أَهْوَنَ مِن تَرْكِها، ومِثْلُ هذه المسائلِ مِن حيث العلمُ بها موكولةٌ إلى دِينِ المرءِ في تقديرها وتقديرِ حجمها، فإِنْ كانَتْ حقيقةُ ما يذكره السائلُ أنه وَقَعَ في ضرورةٍ مُلِحَّةٍ يُوشِكُ معها على الهلاك في دِينِه أو في مالِه أو في عِرْضِه جاز ذلك ولكِنْ بقَدْرِها؛ ولهذا وَضَعَ العلماءُ قاعدةً مُقْتضاها: «إِذَا ضَاقَ الأَمْرُ اتَّسَعَ، وَإِذَا اتَّسَعَ ضَاقَ»، وقاعدةً أخرى: «الضَّرُورَاتُ تُبِيحُ المَحْظُورَاتِ وَلَكِنْ تُقَدَّرُ بِقَدْرِهَا».
ثمَّ اعْلَمْ أنَّ التوبة يجب أَنْ تكون نصوحةً، وذلك بالتخلِّي عن هذه المعصيةِ وعن سائرِ المعاصي الأخرى، على أَنْ يعزم أَنْ لا يعود إليها، وأَنْ يَسْتَتْبِعها بالعمل الصالح؛ لقوله سبحانه وتعالى: ﴿إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ [الفرقان: ٧٠]، ومَن كان صادقًا في توبته عنها يهدي اللهُ له أسبابَ الفوزِ والنجاح في الدنيا والآخرة، قال تعالى: ﴿وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعًا أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [النور: ٣١].
في حكم قرضٍ مشروطٍ بالتأمين
الفتوى رقم: ٢٥٣
السؤال:
ما حكمُ اقتراضِ مالٍ مِنَ الشركة بدون زيادةٍ ربويةٍ، ولكنَّ العقد يتضمَّن بندًا ينصُّ على إبرامِ عقدِ التأمين على الحياة، وهذا يكون بمجرَّدِ إمضاء المستفيدِ العقدَ، تقوم الشركةُ بإبرام العقد المذكورِ آنِفًا وتقوم باسترجاعِ مبلغِ التأمين مِنْ أجرةِ المستفيد بعد مُوافَقتِه سنويًّا مدَّةَ القرض وهي (١٠ سنوات)؟ أفيدونا حفظكم الله.
الجواب:
الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلام على مَنْ أرسله الله رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبِه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:
فالشرط الوارد على القرض الحسنِ المتمثِّلُ في إبرامِ عقد التأمين على الحياة: هو شرطٌ باطلٌ؛ لتضمُّنه للغرر المنهيِّ عنه شرعًا، وكُلُّ شرطٍ نهى الشرعُ عنه فهو باطلٌ؛ لقوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «المُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ، إِلَّا شَرْطًا حَرَّمَ حَلَالًا أَوْ أَحَلَّ حَرَامًا»، ولقوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «كُلُّ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ وَإِنْ كَانَ مِائَةَ شَرْطٍ».
ولا يخفى أنَّ المؤمِّن يستفيد مِنْ مال المؤمَّن له بعقد التأمين، والشركة المُقْرِضة تستفيد مِنْ شركة التأمين مِنْ جهةِ أنها تسدِّد بقيَّةَ الأقساط غير المدفوعة في حالة الموت، وقد أَعْمَلَ أهلُ العلم قاعدةً فقهيةً وهي: «كُلُّ قَرْضٍ جَرَّ مَنْفَعَةً فَهُوَ رِبًا»، وأصلُها حديثٌ نبويٌّ، غيرَ أنه لا يصحُّ عنه صلَّى الله عليه وسلَّم(٣)، والمراد مِنَ القاعدة: أنَّ المنفعة المُشْتَرَطةَ في القرض ابتداءً تُعَدُّ رِبًا محرَّمًا شرعًا.
وعليه، فإنَّ اشتراط التأمينِ مع القرض يُفْسِده مِنْ جهتين:
الأولى: أنَّ عقد التأمين لا يصحُّ؛ لتضمُّنه للغرر المنهيِّ عنه ، واشتراطُه مع القرض يُبْطِله.
والثانية: يتضمن عقدُ القرض منفعةً؛ فتجري فيها أحكامُ الرِّبَا كما تَقَرَّرَ في القاعدة السالفةِ البيان.
في حكم الخدمات المصرفية مقابل الاقتراض
الفتوى رقم: ١٠٥٦
السـؤال:
هل يجوز لمقترِضٍ من بنك أن يعتبرَ ما يدفعه من نسبة ضئيلة مقابلَ القرض مجرّدَ رسومٍ وتكاليفَ تستلزم هذه المعاملةُ وجودَها ؟
الجـواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فمضمونُ السؤال يندرج في صورة «أَنْظِرْنِي أَزِدْكَ»، وهي إحدى صورتَيْ ربا الديون التي اتّفق العلماء على تحريمها وهي معدودةٌ من الكبائر، قال النووي -رحمه الله-: «أجمع المسلمون على تحريم الرّبا، وعلى أنّه من الكبائر، وقيل: إنّه كان محرَّمًا في جميع الشرائع، وممن حكاه الماوردي»، ومستندُ الإجماع آياتٌ كثيرةٌ نهى اللهُ تعالى فيها المؤمنَ عن أكل الرّبا وأَمَرَهُ بالتقوى، وهدّد الذين لا يستجيبون لنهيه بالمحاربة والوعيد، منها: قولُه تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ. فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ﴾ [البقرة: ٢٧٨-٢٧٩]، وقولُه تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ. وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ. وَأَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ [آل عمران: ١٣٠-١٣٢]، وقولُه تعالى: ﴿فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ [البقرة: ٢٧٥]، وقد أمر النبي صلّى الله عليه وآله وسلم باجتناب الرّبا وعدَّه أحد الموبِقاتِ السبع التي تُهْلِكُ صاحبَها في الدنيا والآخرة، كما «لَعَنَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ آكِلَ الرِّبَا وَمُوكِلَهُ وَكَاتِبَهُ وَشَاهِدَيْهِ، وَقَالَ: هُمْ سَوَاءٌ».
هذا، ولا فرقَ في التحريم في شريعة الإسلام في حجْمِ الزيادة المشروطة في عقد القرض مِنْ حيث كثرتُها وقلّتُها، ولا فرقَ بين الزيادة في القدر أو في الصفة، ويستوي الناس في التحريم سواء اتّحدت ديانتُهم وديارُهم أو اختلفت، فهو -إذنْ- تحريمٌ كلّيٌّ شاملٌ لكلِّ أنواعه، قال ابن قدامة -رحمه الله-: «وكلّ قرْضٍ شَرَطَ فيه أن يزيدَه فهو حرامٌ بغير خلافٍ، قال ابن المنذر: «أجمعُوا على أنَّ المُسْلِفَ إذا شَرَطَ على المُسْتَسْلِفِ زيادةً أو هديّةً فأَسْلَفَ على ذلك: أنَّ أَخْذَ الزّيادةِ على ذلك ربًا»، وقد رُوِيَ عن أُبَيِّ بن كعبٍ وابنِ عباسٍ وابنِ مسعودٍ أنّهم نَهَوْا عن قرضٍ جرّ منفعةً، ولأنّه عقدُ إرفاقٍ وقربةٍ؛ فإذا شَرَطَ فيه الزيادةَ أخرجه عن موضوعه، ولا فرقَ بين الزيادة في القدر أو في الصّفة»، وقال النووي -رحمه الله-: «يستوي في تحريم الرّبا الرّجلُ والمرأةُ والعبدُ والمكاتبُ بالإجماع، ولا فرقَ في تحريمه بين دار الإسلام ودار الحرب، فما كان حرامًا في دار الإسلام كان حرامًا في دار الحرب، سواء جرى بين مسلمَيْنِ أو مسلمٍ وحربِيٍّ، سواء دخلها المسلم بأمانٍ أم بغيره، هذا مذهبنا، وبه قال مالكٌ وأحمدُ وأبو يوسفَ والجمهورُ».
والمعلومُ أنَّ الدِّعَايَةَ اليهوديّةَ التي أضّلت بها النصارى الذين كانوا يحرّمون الرّبا من شبهتين تلقّفهما بعضُ بني جلدتنا ووقعوا فيهما وهما:
الأولى: التفريقُ بين الرّبا والفائدةِ، فالرّبا المحرَّمُ -عندهم- هو ما كانت الزيادةُ فاحشةً على الرأسمال المقترَض.
وأمّا الفائدةُ الجائزةُ فهي الزّيادةُ المعتدِلَةُ التي جَرَتْ تسميتُها في عرف البنوك بمعدَّلِ الفائدةِ أو النسبة المئوية أو سعر الفائدة.
وبهذا التفريقِ أجازوا الفائدةَ الربوية وأناطوا التحريمَ بالكثرة دون القلّةِ المعتدِلَةِ واعتبروها فائدةً جائزةً.
الثانية: التفريقُ بين القروضِ الإنتاجيّةِ والاستهلاكيّةِ، فإذا وردَتِ الزّيادةُ على القروض الاستهلاكيّةِ المأخوذةِ مِنْ قِبَلِ المستقرِِضِ لحاجتِه المعيشيّةِ أو لمآربِه الشّخصيّةِ فهي من الرّبا المحرَّم.
وأمّا الزّيادةُ المشترَطَةُ على القروضِ الإنتاجيّةِ فليستْ -عندهم- من الرّبا المحرَّم، وإنما هي فائدةُ عدلٍ مباحةٌ، معلِّلِينَ ذلك بأن المستَقْرِضَ المُنْتِجَ يستخدم أموالَ المُقْرِضِ في مشاريعِه العمرانيّةِ والتجاريّةِ والإنمائيّةِ، فمِنَ الإنصافِ والعدلِ استفادةُ المُقْرِضِ ممّا عمل به المستقْرِضُ، وليس من الرّبا المحرَّم.
ولا يخفى ضعفُ ما تقدّم معلَّلاً بالتفريق في الشبهتين وفسادُ اعتباره؛ لمقابلته عمومَ النصوصِ الشرعيّةِ والإجماعَ المنعقِدَ على تحريمه من غير تفريقٍ كما سبق بيانُه، ولأنّ الشرعَ اعتبره ظلمًا مِنْ أكلِ أموالِ الناسِ بالباطل مهما اختلفت صفتُه ومقدارُه، ويدلّ عليه عمومُ قوله تعالى: ﴿وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ﴾ [البقرة: ٢٧٩]، وقولُه تعالى -في شأن اليهود- : ﴿فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ كَثِيرًا. وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾ [النساء: ١٦٠-١٦١]، ولقولِه صلّى الله عليه وآله وسلم فيما يرويه عن ربه: «يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلاَ تَظَالَمُوا»، واشتراطُ الزّيادةِ مهما قلّتْ يُنافي موضوعَ عقْدِ القرض الذي هو الإرفاقُ والقربة.
هذا، وتسميةُ الفائدةِ الربوية النّاجمة عن الاقتراض باسم رسومٍ مفروضةٍ أو تكاليفَ بنكيّةٍ أو خدماتٍ مصرفيّةٍ مقابلَ الاقتراض فلا تغيّر من أصل المعاملة الربوية في شيء، لأن العبرةَ بالحقيقة والمسمّى لا بالألفاظِ والتسميةِ، فكلّ إقراضٍ نظيرَ فائدةٍ يُعَدُّ معاملةً ربويَّةً محرَّمةً، لا يزول إثمُ تحريمِه إلاّ إذا اقترنت بها ضرورةٌ ملِحّةٌ مستجْمِعَةُ الضوابطِ، فإنّ الإثمَ يرتفع مِنْ جانِبِ المضطَرِّ فقط، وهو متروكٌ لدينه في تقديرها.
وإذا كان حكمُ المعامَلة مع البنوك بالقروض الربوية لا يجوز شرعًا، فإنّ مِنْ أعمالِ البنوكِ الأخرى كالسفتجاتِ الداخليّةِ وخطاباتِ الاعتمادِ وصرفِ مبالغِ الشيكاتِ ونحوِ ذلك من الخدماتِ المقدّمةِ فالظاهرُ جوازُها -وخاصّةً للمحتاج-، بشرط تحديدِ قيمةِ الخدمةِ بسعرٍ معتدِلٍ لا بالنسبة المئويّة، لئلا تزيدَ عن القيمة المطابِقَةِ لحقيقة ما يقدّمه المصرف من خدماتٍ أوّلاً، وأن لا يرضى -ثانيا- بمعاملاتِ البنوك الرّبويّة عن طريق أنواع الإقراض نظيرَ فائدةٍ مشترَطةٍ صراحةً أو مقنّعةٍ بالبيع أو الاستثمارِ، تفاديًا للاشتراك في الإثم والمعصية لقوله صلّى الله عليه وآله وسلم: «إِذَا عُمِلَتِ الخَطِيئَةُ فِي الأَرْضِ كَانَ مَنْ شَهِدَهَا فَكَرِهَهَا – وقال مرَّةً: أَنْكَرَهَا – كَانَ كَمَنْ غَابَ عَنْهَا، وَمَنْ غَابَ عَنْهَا فَرَضِيَهَا كَانَ كَمَنْ شَهِدَهَا».
فالأصلُ تركُ التعامل مع البنوك الربوية مُطلقًا، ولو تجرَّدت المعاملة من الرِّبا المحرَّم، لِما في التعامل المباح مع هذه البنوك من الإقرار على الربا والرضى به مجسَّدًا بالتعاون على رباهم وتقويتهم عليه ودعم معاملاتهم الربوية، مع لفت النظر إلى أنَّ معظم المعاملات المباحة مع البنوك الربوية تتضمَّن مخالفاتٍ شرعيةً ظاهرةَ البطلان كاشتراط التأمين التجاريِّ في الصفقات المباحة، والتأمين على كلِّ الأخطار، وأخذِ نسبةٍ على الضمان، واشتراط الاقتراض إذا باشر المتعاقد العملَ في المشروع مثلاً، وفرض غرامةٍ على التأخير ونحو ذلك.
ولا يخفى أنَّ العقود المباحة إذا ما اقترنت بها شروطٌ وقيودٌ فاسدةٌ فإنها إمَّا أن تصيِّر العقودَ باطلةً أو يبطل الشرطُ دون العقد، وكلا الحالتين لا تتمُّ في ظلِّ نظام البنوك والمصارف الربوية لعدم انتظامها بالحكم الشرعيِّ، لذلك كان التعامل منهيًّا عنه ومشمولاً بقوله تعالى: ﴿وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالعُدْوَانِ﴾ [المائدة: ٢]، وهذا في الأحوال العادية، أمَّا عند قيام الحاجة والضرورة فإنَّ المسلم إذا احتاج أو اضطُرَّ إلى التعامل بالمعاملات المباحة مع البنوك الربوية التي لا يجد سبيلاً إلى غيرها فإنه يجوز له إذا دَعَتِ الضرورة بشرطها كتحويل الأموال عن طريق البنوك بأجرةٍ لقوله تعالى: ﴿وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ﴾ [الأنعام: ١١٩].
في حكم السُّفْتَجة
الفتوى رقم ١١٩٨:
السؤال:
هل يجوز للرَّجل أَنْ يطلب قرضًا ماليًّا محدَّدًا يأخذه في الحجاز ـ مثلًا ـ على أَنْ يكتب للدائن وثيقةً بدَيْنٍ يأخذه في الجزائر؟ وجزاكم الله خيرًا.
الجواب:
الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلام على مَنْ أرسله الله رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبِه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:
فمثلُ هذه المعاملةِ ـ بأَنْ يأخذ الرَّجلُ قرضًا في بلد المُقرِض للحاجة ويكتبَ لصاحب المال وثيقةً أو ورقةً ليستوفيَ بها أموالَه عند عائلة المُقترِض أو وكيله في الجزائر ـ مثلًا ـ لتفادي خطر الطريق ـ تُسمَّى عند الفقهاء بالسُّفتجة ـ بفتح السين وضمِّها(١) ـ. وهي محلُّ خلافٍ بين العلماء، حيث يرى الجمهورُ عدمَ جوازها(٢)، وذَهَب فريقٌ آخَرُ إلى أنها جائزةٌ، وهي إحدى الروايتين عن أحمد رجَّحها ابنُ تيمية ـ رحمه الله ـ(٣).
ويرجع سببُ الخلاف في المسألة إلى: هل السفتجة مِنْ قبيل القرض الذي جرَّ منفعةً، أم أنَّ كِلَا الطرفين ينتفع، فالمُقترِض ينتفع بتحصيلِ تلك الأموالِ في ذلك البلد للحاجة، وأمَّا المُقرِض فيأخذ أموالَه في بلد المقترض ويأمن بها الطريقَ، ولعلَّ فيها منافعَ أخرى له؟
ـ فمَنْ رأى أنَّ فيه منفعةً زائدةً مشروطةً في بداية العقد وهي ربحُ أمنِ الطريق قال بعدم الجواز؛ بناءً على حديثِ: «كُلَّ قَرْضٍ جَرَّ مَنْفَعَةً فَهُوَ رِبًا»(٤)، وهذا قول الجمهور.
ـ ومَنْ رأى أنَّ المنفعة فيها ليست قاصرةً على المقترض، وإنما فيها منفعةٌ لكِلَا الطرفين المُتعاقِدَيْن ـ على ما سبق بيانُه ـ، وأنَّ الشرع لا ينهى عن منافع الناس ومصالحهم، وإنما ينهى عمَّا كان فيه مَضارُّهم وأذيَّتُهم؛ قال بجوازِ هذه المعاملة.
والظاهر أنَّ مِثْلَ هذه المعاملةِ جائزةٌ وليست بممنوعةٍ، وهذا لأسبابٍ:
الأوَّل: أنَّ الحديث الذي استدلَّ به الجمهورُ حديثٌ ضعيفٌ لا يقوى على الحجِّيَّة وإِنْ كان معناه ـ في الجملة ـ صحيحًا(٥).
الثاني: ما رُوِي عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ «أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ الزُّبَيْرِ كَانَ يَأْخُذُ مِنْ قَوْمٍ بِمَكَّةَ دَرَاهِمَ ثُمَّ يَكْتُبُ بِهَا إِلَى مُصْعَبِ بْنِ الزُّبَيْرِ بِالْعِرَاقِ فَيَأْخُذُونَهَا مِنْهُ؛ فَسُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ ذَلِكَ فَلَمْ يَرَ بِهِ بَأْسًا؛ فَقِيلَ لَهُ: «إِنْ أَخَذُوا أَفْضَلَ مِنْ دَرَاهِمِهِمْ»، قَالَ: «لَا بَأْسَ إِذَا أَخَذُوا بِوَزْنِ دَرَاهِمِهِمْ»»(٦)، ورُوِي ذلك عن عليٍّ رضي الله عنه أيضًا(٧)، ولو أنَّ الشيخ الألبانيَّ ـ رحمه الله ـ قد ضعَّف الأثرين في «إرواء الغليل»(٨)، إلَّا أنَّ الأصل في المنافع وأنواعِ المكاسب والتجارات الجوازُ ـ كما سَلَف بيانُه ـ، خاصَّةً إِنْ تضمَّنَتْ هذه الأخيرةُ دَفْعَ مفاسدَ وضمانَ أمنِ الطريق، مع أنَّ الانتفاع كان لمصلحة المُقرِض والمُقترِض كِلَيْهما، وقد أجاز هذه المعاملةَ مِنَ التابعين: ابنُ سيرين وإبراهيمُ النَّخَعيُّ وغيرُهما(٩)، كما أجازها المالكيةُ ضرورةً(١٠).
هذا، ويجدر التنبيهُ إلى أمرٍ مُهِمٍّ يتمثَّل في أنَّ الرَّجل إذا أخَذ عملةً في بلدٍ ما فإنَّه لا يجوز له أَنْ يُعطِيَ المُقرِضَ ورقةً يقرِّر فيها أنه يأخذ مالَه بعملةٍ أخرى غيرِ التي دَفَعها، وإلَّا كانَتْ عمليةَ صرفٍ في شكلِ قرضٍ، ويُشترَطُ لصحَّةِ هذه الأخيرةِ المجلسُ الواحد مع جواز التفاضل؛ لحديثِ عُبادةَ بنِ الصامت >: «الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ، وَالفِضَّةُ بِالفِضَّةِ، وَالبُرُّ بِالبُرِّ، وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ، وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ، وَالمِلْحُ بِالمِلْحِ، مِثْلًا بِمِثْلٍ، سَوَاءً بِسَوَاءٍ، يَدًا بِيَدٍ؛ فَإِذَا اخْتَلَفَتْ هَذِهِ الأَصْنَافُ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ إِذَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ»(١١)، وأيضًا حديثُ أبي سعيدٍ الخُدْريِّ رضي الله عنه: «لَا تَبِيعُوا الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ إِلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ، وَلَا تُشِفُّوا بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ؛ وَلَا تَبِيعُوا الوَرِقَ بِالوَرِقِ إِلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ، وَلَا تُشِفُّوا بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ؛ وَلَا تَبِيعُوا مِنْهَا غَائِبًا بِنَاجِزٍ»(١٢).
وعليه، فإنه إذَا باع ـ بهذه الصورة ـ غائبًا بناجزٍ تحقَّق رِبَا النسيئة، وإذا كان رِبَا النسيئة محرَّمًا فلا يجوز اتِّخاذُ القرض بالسفتجة وسيلةً للتحايل على الشرع لتحليلِ ما حرَّم اللهُ مِنَ الرِّبَا.
والعلم عند الله تعالى، وآخِرُ دعوانا أنِ الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبِه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسلَّم تسليمًا.
الجزائر في: ١٩ صفر ١٤٣٩ﻫ
الموافق ﻟ: ٠٨ نوفمبر ٢٠١٧م
(١) انظر: «القاموس المحيط» للفيروز آبادي (٢٤٧).
(٢) انظر: «المغني» لابن قدامة (٤/ ٣٥٤).
(٣) انظر: «مجموع الفتاوى» لابن تيمية (٢٩/ ٤٥٥ ـ ٤٥٦، ٥٣٠ ـ ٥٣١).
(٤) أخرجه البغويُّ في «حديث العلاء بنِ مسلم» (ق١٠/ ٢) عن عليِّ بنِ أبي طالبٍ رضي الله عنه، وقد رُوِي مرفوعًا ورُوِي موقوفًا عن ابنِ مسعودٍ وأُبَيِّ بنِ كعبٍ وابنِ عبَّاسٍ وغيرِهم رضي الله عنهم، وقد أجراهُ الفقهاء مجرى القواعد الفقهية.
(٥) ضعَّفه الشيخ الألبانيُّ في «إرواء الغليل» (٥/ ٢٣٥) رقم: (١٣٩٨) و«ضعيف الجامع» (٤٢٤٤).
(٦) أخرجه البيهقيُّ في «السنن الكبرى» (١٠٩٤٧) بابُ ما جاء في السفاتج.
(٧) المصدر السابق نفسه.
(٨) انظر: «إرواء الغليل» للألباني (٥/ ٢٣٨).
(٩) انظر: «المغني» لابن قدامة (٤/ ٣٥٤).
(١٠) قال خليلٌ المالكيُّ: «أو عينٍ عَظُمَ حملُها كسفتجةٍ إلَّا أَنْ يعمَّ الخوفُ»، انظر: «الشرح الكبير» للدردير (٣/ ٢٢٥ ـ ٢٢٦) ومعه: «حاشية الدسوقي».
(١١) أخرجه مسلمٌ في «المساقاة» (١٥٨٧).
(١٢) مُتَّفَقٌ عليه: أخرجه البخاريُّ في «البيوع» بابُ بيع الفضَّة بالفضَّة (٢١٧٧)، ومسلمٌ في «المساقاة» (١٥٨٤)