بيان افتراء دار الإفتاء المصرية الحالية بخصوص الفوائد البنكية…! (2)

بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله؛

ورد سؤال للدكتور مجدي عاشور، المستشار العلمي لمفتي الجمهورية، بخصوص زكاة الودائع البنكية، فأجاب الرجل ما خلاصته من نص كلامه:

” نحن نريد أن نرسخ هذه الثقافة، ثقافة إيداع المال، الوديعة، وهي الادخار مع الاستثمار…لا اكتناز في الإسلام، حتى يكون المال متداولاً ويأتي بمال أخر تستفيد أنت منه ومن يعمل في هذا المال يستفيد منه.

الأمر الثاني: حتى لا تأكل المال الزكاة، لأنك إن تركته مدخراً دون ان تستثمره الزكاة ستأكله… وسيدنا النبي قال “اتجروا في هذه الأموال لأن لا تأكلها الزكاة”… ثم قاطعه محاور البرنامج قائلاً: تشجيع الناس تشارك بأموالها في دوران المال، أو دورة رأس المال، فأكمل الشيخ عاشور مؤكداً؛ نحن دين يحرص على دورة الإنتاج وليس الجبن والخوف من المال وأن يكون مالاً جباناً كما يقولون؛ لا؛ ولكن طبعاً في أطار صحيح وضوابط صحيحة…

لذلك الوديعة نأخذها في الفقه الإسلامي؛ الوديعة مشروعة؛ الوديعة من العقود المسماة؛ الوديعة أن أضع مالي في البنك وديعة يحفظه البنك لي، ولكن الأن هل يحفظه ويدخره فقط؟ قالك لا، سأستثمر هذه الأموال في البنك… هذا حكمه الشرعي جائز أن نضع المال وديعة في البنك؛ ولا تختلط علينا الأمور كما يغبش أصحاب الفكر المتطرف بأن وضع الأموال في البنوك حرام؛ لأنك تضع المال للاستثمار، فهو جائز وهو عقد جديد لا شيء فيه لأنه تتحقق فيه جميع قواعد العقود ويسودها مبدأ الرضا…

ثم قال في حكم الزكاة أنها تخرج على المال المودع بالبنك مع فوائده”

قلتُ: وهذا الكلام على وجازته فيه تدليس وجهل وتناقضات صريحة؛ وكذلك رمي لجمهور علماء الأمة بأنهم أصحاب فكر متطرف؛ فأقل ما يقال عن هذا الحوار أنه سفسطة؛ لا تساوي كفاً من تراب في ميزان العلم والتحقيق؛ بل في ميزان الواقع! كما سأبينه لكم:

أولاً: الخلط بين مفهوم الكنز ومفهوم الإدخار!

‏الكنز في اصطلاح الشرع هو كل مال وجبت فيه الزكاة فلم تؤد ، فأما المال الذي أخرجت زكاته فليس بكنز؛ سواء كان مخبأ أو غير مخبأ؛ مستثمراً أو غير مستثمر؛ ظابط وصف الكنز هو ترك الزكاة الواجبة في المال.

فتحريم الاكتناز في لغة الشرع هو تحريم ترك زكاة المال الواجبة؛ وليس تحريماً للإدخار؛ ولا حرج بحفظ الأموال بالبيوت إن لم يجد صاحبها استثماراً شرعياً؛ ما دام يخرج منها زكاة ماله.

ثانياً: الجهل بالفرق بين التجارة والائتمان! وتحريف الكلم عن مواضعه!

استدل الرجل على الترغيب في إيداع الأموال بالبنوك بحديث نسبه لرسول الله صلى الله عليه وسلم “اتجروا في هذه الأموال لأن لا تأكلها الزكاة” ؛ وبالبحث لم أجد هذا اللفظ من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لم أجد بهذا اللفظ إلا بلاغاً منقطعاً عند الإمام مالك بالموطأ؛ حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ ، قَالَ : ” اتَّجِرُوا فِي أَمْوَالِ الْيَتَامَى ؛ لَا تَأْكُلُهَا الزَّكَاةُ “

وعلى فرض وجود حديث بهذا اللفظ؛ فإنه عند النظر وتمييز ما يدل عليه؛ يكون هذا الحديث حجة على دار الأفتاء لا حجة لها! كما قال شيخ الإسلام بن تيمية رحمه الله في كتاب القدر من مجموع الفتاوى:“…وقد ذكرت في غير هذا الموضع أنه ما احتج أحد بدليل سمعي أو عقلي على باطل إلا وذلك الدليل إذا أعطي حقه وميز ما يدل عليه مما لا يدل تبين أن يدل على فساد قول المبطل المحتج به؛ وأنه دليل لأهل الحق وأن الأدلة الصحيحة لا يكون مدلولها إلا حقاً؛ والحق لا يتناقض بل يصدق بعضه بعضاً والله أعلم”

وتصديق ذلك من لفظ الحديث “اتجروا” ؛ والاتجار هو البيع والشراء وتقليب المال… فهل البنوك تتجار؟

البنوك الربوية كما بينت مراراً لا تتجار في السلع بالبيع والشراء والتجارة بتقليب المال؛ البنوك تتاجر في عين النقد؛ النقود هي سلعة البنوك التي تتاجر فيها؛ البنوك تقترض المال بالربا تسميه ودائع استثمارية ثم تُقرضه بالربا في قروض وتسهيلات؛ ومكسب البنك في أبسط صورة هو من الفرق بينهما؛ ولا يحق للبنوك بالقانون المصري – الذي تستدل به الدار على أن البنوك تتاجر! – لا يجوز لها أن تتاجر!

طبقاً لقانون البنوك المصري المعمول به، قانون 88 لسنة 2003:

“يحظر على البنك ما يأتى:…

5 – التعامل فى المنقول أو العقار بالشراء أو البيع أو المقايضة عدا:

( أ ) العقار المخصص لإدارة أعمال البنك أو الترفيه عن العاملين به.

(ب) المنقول أو العقار الذى تؤول ملكيته إلى البنك وفاء لدين له قبل الغير على أن يقوم البنك بالتصرف فيه خلال سنة من تاريخ أيلولة الملكية بالنسبة للمنقول وخمس سنوات بالنسبة للعقار…”

فالبنك المركزي يقول البنوك لا تتاجر؛ والمستشار العلمي لمفتي الجمهورية ودار الإفتاء يقولون أن البنوك تتاجر؛ وبنى مجدي عاشور على ذلك الوهم – هو ومحاوره المتعالم – قصراً من الأباطيل حول دورة رأس المال ودورة الإنتاج… وهذه المصطلحات هي خاصة بالتجارة وتداول الأصول وتقليبها من أجل تحقيق الربح… وليس لأعمال البنوك الربوية علاقة بذلك!

بل هي دورة ربوية تبدأ بالقرض بفائدة وتنتهي بالقرض بفائدة؛ والبنوك لا يعنيها الانتاج؛ فالبنوك تتحيز للأجدر ائتمانياً لا للأجدر انتاجياً؛ فلذلك تنهال التسهيلات والقروض على رجال الأعمال الكبار بفوائد مخفضة وشروط سهلة وإن لم يكونوا منتجين؛ وتمتنع البنوك من إقراض صغار المستثمرين إلا بفوائد مضاعفة وشروط مجحفة وإن كانوا منتجين! المهم عند البنك هوالملاءة المالية للمقترض من أجل ضمان الفوائد.

ثم أخذت الرجل الحمية وكأنه حفيد طلعت حرب (أبو البنوك في مصر) ؛ فقال “نحن دين يحرص على دورة الإنتاج وليس الجبن والخوف من المال وأن يكون مالاً جباناً “…؛ وهذه الكلمة في حد ذاتها – في هذا السياق – تناقض قبيح لا يختلف عليه أنس ولا جان؛ كما يلي:

ثالثاُ: قوله “نحن دين يحرص على دورة الإنتاج وليس الجبن والخوف وأن يكون مالاً جباناً”…!

الرجل يدعو لإيداع المال بالبنوك؛ هرباً من الجبن والخوف على المال!! مع أن ودائع البنوك هي المال الجبان الذي يعطي فوائد من دون مخاطرة؛ وهو أجبن مال في سوق الأموال!!!ودائع البنوك مضمونة ١٠٠% ؛ ليس فيها مخاطرة بالمال؛ بل يعبر عنه في الأوساط المالية ب Risk Free Deposit أو المال الخالي من المخاطرة، والمستثمر الذي يضع كل ماله بودائع البنوك؛ هذا يقال عنه Risk ِِAverse Investor أو مستثمر متجنب للمخاطر!فكلام الرجل يناقض الواقع! مناقضة صريحة!

رابعاً: خلط الرجل خلطاً قبيحاً؛ بين الوديعة الفقهية والوديعة المصرفية!! وأوهم السامع أن هذا من هذا؛ ثم وقع في مناقضة دار الإفتاء التي ينتمي إليها!!فالرجل يستدل بالوديعة الفقهية (وهي من العقود المسماة في الفقه) على جواز الوديعة المصرفية! ولم يدري الفرق بينهما!

الوديعة الفقهية – وهو العقد المسمى بالوديعة في الفقه – هو عقد أمانة؛ المقصود منه حفظ المال دون التصرف فيه أو الانتفاع به؛ وهو من عقود الإرفاق بلا أجر ولا عوض؛ وإذا تلفت الوديعة في يد ماسكها؛ من دون تقصير أو تعدي؛ فإنه لا يضمنها؛ أي لا يرد مثلها للمُودع.

أما الوديعة المصرفية؛ فالبنك ينتفع بالمال ويتصرف فيه؛ كذلك فمال الوديعة مضمون على البنك في كل حال؛ فالبنك ضامن لرأس مال الوديعة المصرفية.

السؤال هنا؛ ماذا يسمى المال الذي تودعه عند أحد؛ مع الأذن له بالتصرف فيه والانتفاع؛ على أن يكون مضموناً بإرجاعه في كل حال؟

الإجابة: هو القرض.

لذلك فإن كافة المعاصرين من الفقهاء والقانونين والمحاسبين كيفوا الودائع المصرفية على أنها قروضاً؛ كذلك قال شيخ القانون المصري عبد الرزاق السنهوري؛إلا أن دار الإفتاء الحالية تعاند الحق! حتى قال علي جمعة في أحد فتاوية أنه يجب وجوبًا محتَّمًا عدم تسمية هذه الودائع قروضاً! وكأنه بالهروب من الأسم يهرب من أحكامه! وهيهات…

عودة لمجدي عاشور؛ فقد أوقعه هذا الخلط في مناقضة دار الإفتاء التي تدعي أن الودائع البنكية عقد جديد! فكيف يكون عقد جديد وهو يستدل عليه بعقد الوديعة المسمى بالفقه؛ وهو عقد قديم تكلم عليه الفقهاء! ثم قرر من بعد ذلك جواز الودائع لأنها عقد جديد!! ما أعجب هذا التخبط!

خامساً: ثم ختم افترائه قائلاً “ولا يغبش أصحاب الفكر المتطرف أن وضع المال بالبنوك حرام، لأنك تضع المال للاسثمار…” لقد رمى الرجل جمهور المعاصرين من أهل العلم بأنهم أصحاب فكر متطرف؛ هكذا جملة؛ وفيهم شيوخه وشيوخ شيوخه الذين قالوا بتحريم فوائد البنوك؛ وفيهم المجامع الفقهية في مشارق الأرض ومغاربها؛ من هيئة المراجعة والمحاسبة للمؤسسات المالية الإسلامية بالبحرين؛ إلى مجلس الخدمات المالية الإسلامية بماليزيا؛ الكل أصحاب فكر متطرف…

جاء في قرار مجمع الفقه الإسلامي الدولي، قرار رقم 133؛ بعد ما سردوا أسماء المجامع وهيئات الفتوى التي قالت بحرمة فوائد البنوك؛ قالوا بعد سردها أنها “…تشكل في مجموعها إجماعاً معاصراً لا تجوز مخالفته على تحريم فوائد البنوك”…وهم لا يقصدون الإجماع الذي هو دليل من أدلة الأحكام؛ إنما يقصدون أن جمهور المعاصرين ممن يعتد بقولهم أجمعوا على تحريم فوائد البنوك.كل هؤلاء أصحاب فكر متطرف! وكلهم لم ينتبهوا أن وضع المال بالبنوك للاستثمار وليس هو من الربا! وتنبهت لذلك دار الإفتاء المصرية الحالية! فحذرتنا مشكورة من فكرهم المتطرف!

في الختام؛ عودة للسؤال عن حكم زكاة المال على الودائع البنكية؛ فإن الله طيب لا يقبل إلا طيباً؛ فجمهور أهل العلم على عدم وجوب الزكاة في المال المحرم؛ ومنه الفوائد الربوية؛ فزكاة الودائع بالبنوك الربوية تكون على أصل الوديعة إن بلغت النصاب وحال عليها حولاً هجرياً؛ وما زاد من فوائد على أصل الوديعة فلا زكاة عليه؛ وهو كسب خبيث لا زكاة فيه؛ والواجب التخلص منه كله في مصالح المسلمين العامة؛ مع التوبة منه وكثرة الاستغفار والندم.

مسألة الفوائد البنكية في مصر فتنة عظيمة؛ فتنة تولى كبرها جماعة من المنتسبين للعلم؛ وليس في ما يستدلون به إلا {كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّىٰ إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا} ولكل موقف بين يدي الله.

والله من وراء القصد وهو حسبنا ونعم الوكيل.

هاني حلمي

وانظر لمزيد فائدة المقالات التالية:

بيان افتراء دار الإفتاء المصرية الحالية بخصوص الفوائد البنكية…! (1)

بيان أباطيل فتاوى دار الإفتاء المصرية الحالية في المعاملات المالية (المقدمة)

فكرة واحدة على ”بيان افتراء دار الإفتاء المصرية الحالية بخصوص الفوائد البنكية…! (2)

  1. تعقيب: في الرد على شبهة تحليل فوائد البنوك لتعويض التضخم و انخفاض القيمة الشرائية للجنيه المصري…! | هاني حلمي

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s