توريق الديون العقارية في مصر…!

بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله؛

طالعت مقالاً نُشر في 3 يناير 2022؛ بعنوان “التضخم أم نقص السيولة.. لماذا تلجأ شركات عقارية لـ”التوريق”؟” يناقش ظاهرة التوريق في سوق العقار المصري؛ وفيما يلي نص المقال ثم تعليقي عليه:

“لجأت شركات عاملة في مجال التشييد والبناء لإصدار سندات توريق بقيمة إجمالية تتجاوز مليار جنيه.

صدرت موافقة هيئة الرقابة المالية لشركة الجيزة العامة للمقاولات وشركاتها الشقيقة بإصدار سندات توريق بقيمة 332.7 مليون جنيه.

فيما وافقت الهيئة لشركة القاهرة العامة للمقاولات وشركاتها الشقيقة بإصدار سندات توريق بـ 336.7 مليون جنيه،  لشركة الصعيد العامة للمقاولات وشركاتها الشقيقة على إصدار سندات توريق بـ 332.7 مليون جنيه.

فهل تسعى الشركات من وراء صفقات التوريق لتوفير السيولة المالية، أم تحاول مواجهة التضخم؟

“من الأفضل للشركات تسييل جزء من أوراق المديونية المستحقة لها نظرا لأن أسعار الخامات ترتفع بوتيرة أعلى من أسعار الفائدة”، هكذا الرئيس التنفيذي لشركة ريدكون للتعمير طارق الجمال.

أضاف الجمال: “مد فترات السداد لدى الشركات العقارية والتي وصلت أحيانا إلى 10 سنوات تضعها تحت ضغوط تآكل السيولة وبالتالي تلجأ إلى مصادر تمويلية مختلفة”.

تعد عمليات التوريق ضمن مصادر التمويل، وتعرف ببساطة بأنها عبارة عن تحويل ديون آجلة مستحقة للشركات إلى أوراق يمكن لمستثمرين آخرين شرائها، ما يوفر سيولة فورية للشركة المصدرة تمول بها خططها الاستثمارية.

لماذا التوريق؟

عمليات التوريق هي أموال مستحقة للشركات بصورة آجلة، وبالتالي عند توريقها لا تمثل دين على الشركة، خاصة في ظل انخفاض معدلات الفائدة، ولذلك تلجأ إليها أغلب الشركات العقارية، بحسب محلل الشركات العقارية لدى شركة العربي الأفريقي الدولي للأوراق المالية محمود جاد.

توفير سيولة أم تحوط من التضخم؟

“كلا الأمرين معا.. قد تكون الشركة في حاجة إلى سيولة مالية تساعدها على تسريع وتيرة الأعمال في مشروعات حالية، وبالتالي يساعدها ذلك على تفادي آثار التضخم في المدى القريب”، أضاف جاد.

تابع:”خلال الفترة الماضية ربما زادت الأعباء على الشركات، وبالتالي تحتاج إلى تغطية هذه الأعباء بتكلفة أقل أو أنها تستعد لقفزات محتملة في أسعار مواد البناء”.

22 مليار جنيه قيمة إصدارات التوريق في 2021

بحسب تصريحات سابقة لرئيس هيئة الرقابة المالية الدكتور محمد عمران بلغ إجمالي إصدارات سندات التوريق خلال 2021 نحو 26 إصدار بقيمة بلغت نحو 22 مليار جنيه.

في نوفمبر الماضي وافق مجلس إدارة الهيئة العامة للرقابة المالية على مشروع إجراء تعديل على بعض أحكام المواد المنظمة للسندات وسندات التوريق والصكوك باللائحة التنفيذية لقانون سوق رأس المال رقم 95 لسنة 1992.

يهدف التعديل لإدراج أربعة أدوات تمويل جديدة بسوق رأس المال تتضمن السندات الاجتماعية، وسندات الاستدامة، والسندات المرتبطة بالنواحي البيئية والاجتماعية والحوكمة، والسندات المتعلقة بالمساواة بين الجنسين وتمكين المرأة.” انتهى نص المقال.

قلتُ مستعيناً بالله:

فما هو التوريق؟

“التوريق أو “تصكيك الديون” عبارة عن تعريب لمصطلح اقتصادي جديد يسمى (SecuritiZation)، ومعناه: جعل الدين المؤجل في ذمة الغير – في الفترة ما بين ثبوته في الذمة وحلول أجله – صكوكًا قابلة للتداول في سوق ثانوية. وبذلك يمكن أن تجرى عليه عمليات التبادل والتداول المختلفة، وينقلب إلى نقود ناضة بعد أن كان مجرد التزام في ذمة المدين.” مجلة مجمع الفقه الإسلامي 11/198.

“والخلاصة أن التوريق : أداة مالية جديدة لتمويل الديون إلى أوراق مالية من خلال قيام مؤسسة مالية بحشد مجموعة من الديون المتجانسة، والمضمونة كأصول، ووضعها في صورة دين واحد معزز ائتمانياً، وموزع على شكل أوراق مالية متساوية القيمة، قابلة للتداول تقليلا للمخاطر، وضمانة للتدفق المستمر للسيولة النقدية للبنك) وبعبارة موجزة: تحويل الديون المضمونة من المقرض الأساسي إلى مقرضين آخرین

ويمكن أن نوجز هذا التعريف فنقول: التوريق : هو القيام بتحويل مجموعة من الديون المتجانسة من حيث الآجال والفوائد إلى أوراق مالية (أي إلى سندات دین) تُعرض للاكتتاب فيها.” مجلة مجمع الفقه الإسلامي؛ الدورة 19؛ بحث القرداغي.

الحكم الشرعي للتوريق:

جاء في قرار مجمع الفقه الإسلامي الدولي قرار رقم: 101(4/11) بشأن بيع الدين وسندات القرض وبدائلها الشرعية في مجال القطاع العام والخاص؛ ما نصه:

” أنه لا يجوز بيع الدين المؤجل من غير المدين بنقد معجل من جنسه أو من غير جنسه لإفضائه إلى الربا، كما لا يجوز بيعه بنقد مؤجل من جنسه أو غير جنسه لأنه من بيع الكالىء بالكالىء المنهي عنه شرعاً. ولا فرق في ذلك بين كون الدين ناشئاً عن قرض أو بيع آجل.”

“أما بالنسبة لتوريق الدين النقدي: فإذا كان الدين الثابت في الذمة المؤجل السداد نقودًا، فقد اتفقت كلمة الفقهاء على عدم جواز توريقه، وامتناع تداوله في سوق ثانوية، سواء بيع بنقد معجل من جنسه – حيث إنه يكون من قبيل حسم الكمبيالات، وينطوي على ربا الفضل والنساء باتفاق الفقهاء – أو بيع بنقد معجل من غير جنسه، لاشتماله على ربا النساء، وذلك لسريان أحكام الصرف عليه شرعًا. ولا فرق في ذلك الحكم بين ما إذا كان سبب وجوب الدين النقدي في الذمة قرضًا أو بيعًا أو إجارة أو غير ذلك.” مجلة مجمع الفقه الإسلامي 11/199.

وفي المعايير الشرعية لهيئة المحاسبة و المراجعة للمؤسسات المالية الإسلامية: (5/1/2) من المعيار رقم (17):

“يجوز تصكيك (توريق) الموجودات من الأعيان والمنافع والخدمات، وذلك بتقسيمها إلى حصص متساوية وإصدار صكوك بقيمتها. أما الديون فى الذمم فلا يجوز تصكيكها (توريقها) لغرض تداولها”

وفي المعيار رقم (59): معيار بيع الدين:

“توريق الديون (Securitization receivables):

توريق الديون: هو آلية لتحويل الديون إلى أوراق مالية تتداول في أسواق المال.

لا يجوز تداول الأوراق المالية المبنية على توريق الدّيون النقدية إلا إذا كان تداولها مقابل سلعة، أو منفعة أو خدمة تعيََّّن محل استيفائهما…”

” بيع الدََّّين لطرف ثالث غير المدين: مستند عدم جواز بيع الدَّّين النقدي بالنقد ولا بدين نقدي: لما فيه من ربا فضل و نساء إن خالفه في المقدار، وربا َ نساء إن ساواه في المقدار.”

قلتُ(هاني): فهذه المعاملة هي معاملة ربوية لا تجوز شرعاً؛ أما المصالح التي ذُكرت في الخبر؛ مثل توفير السيولة والتحوط من التضخم ومعدلات الفائدة؛ فهي مصالح ملغاة أمام مفسدة الربا؛ قال تعالى (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ ۖ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا ۗ وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ ۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ) البقرة (219) – فأبطل الله منافع الخمر أمام مفسدتها ؛ وكذلك كل العقود المحرمة التي يتوهم فيها منفعة أومصلحة؛ فإنها مصلحة ملغاة أمام المفسدة الأعظم؛ والله عليم حكيم خبير؛ يعلم ما يصلح الإنسان وما يضره؛ وقد ثبت للأعمى والبصي على حد سواء ضرر التوريق.

فالتوريق من أسباب أشهر أزمة اقتصادية عالمية منذ الثلاثينيات، والتي بدأت في أوائل عام ٢٠٠٧، وهي أزمة ديون الرهن العقاري في أمريكا والتي امتدت للعالم كله، حيث بيعت هذه الديون على أنها أوراق مالية عالية التصنيف الائتماني، ولما انهار سوق العقار وتخلف أصحاب الديون عن السداد، وظهر أن تلك الاوراق لا تساوي قيمتها، دخلت الأسواق في أزمة سيولة، نتج عنها انهيار بنك ليمان برزرز، وتضررت أسواق المال في العالم كله نتيجة لإنكشاف بعضها على بعض… فكان العنصر الأبرز في هذه الأزمة هو التوريق وفشل هيئات التصنيف عن وصف مخاطره.

موقف الإفتاء الرسمي المصري (دار الإفتاء المصرية)

في موقع دار الإفتاء المصرية؛ لم أجد إلا فتوى يتيمة؛ للمفتي:علي جمعة؛ بتاريخ 15 أبريل 2009؛ بدون رقم: كما يلي:
 
“السؤال: ما حكم التورق الذي يحدث في البنوك؟ وهو يعتبر صورة من صور تحصيل الديون؛ فالبنك يُقرِض شخصًا ما دَينًا معينًا ثم يبيع هذا الدَّينَ لشخص آخر، أو بمعنًى أدق، يحوِّل البنكُ الديونَ التي عنده إلى أسهم ويعرضها للاكتتاب؛ والبنك يفعل ذلك لكي يكون هناك سيولة متوافرة لديه.
 
الجواب:ليس هذا ما يسمى بالتورق، ولكن الصورة المسئول عنها هي طرح أسهم للاكتتابِ من أجل سَدِّ فجوة الديون، وهو جائزٌ. والله سبحانه وتعالى أعلم.”
 
قلتُ: في هذه الفتوى أخطأ السائل وقال “التورق” وهو يقصد “التوريق” بدلالة الوصف في السؤال؛ وهو خطأ شائع لغير المتخصص؛ ولا حرج على السائل؛ والتورق هو طلب الورق أي “النقد”، و صورته أن يشتري الرجل سلعة بالتقسيط ثم يبيعها لطرف ثالث غير البائع الأول ليحصل على النقود، فإن باعها للبائع الأول فهو بيع العينة المحرم.
 
ولكن خطأ المُفتي أفحش بكثير من خطأ السائل؛ وفي فتواه إخلال واضح بالبيان؛ وهذا متُوقع من علي جمعه الذي أحل فوائد البنوك بحجج متهافتة وشُبهات ساذجة؛ وخالف بذلك جمهور المعاصرين.
 
وكان ينبغي أن يقول أنها أسهم في ديون ربوية؛ يبيعها البنك الربوي على مرابين مثله؛ وحتى إن لم تكن أسهم دين؛ فلا يجوز المساهمة بتمويل أسهم رأس مال البنوك الربوية؛ ولكن “ما بُني على باطل فهو باطل”؛ فالقول بجواز الفوائد الربوية يٌبنى عليه جواز كل ما يفعله البنك الربوي عنده!
 
والكارثة هي أن مثل هذا الرجل يتربع على عروش هيئات الرقابة الشرعية للمؤسسات المالية الإسلامية في مصر، مثل بنك فيصل الإسلامي، وكثير من شركات التأمين الإسلامي…
 
والشيء بالشيء يذكر، فمنذ مدة قصيرة، وقفتُ على شركة تأمين تكافلي (إسلامي) مصرية، عندها محفظة تأمين على الديون لبعض البنوك الربوية المصرية! ولما فتشت عن هيئة الرقابة الشرعية، وجدتُ علي جمعة!
 
فالرجل سرطان يسري في جسد المؤسسات المالية التي تزعم أنها إسلامية.
 
في مصر لم أجد في الأوساط الرسمية والإعلام من يتكلم في مسائل المعاملات المالية بعلم وعدل، بله يجمعون بين الغفلة بالواقع والخطأ في الحكم، وذلك في واحدة من أعظم قضايا الاقتصاد المعاصر وهي الفائدة والبنوك.
 
أثر التوريق على عقود شراء العقار بالأجل في مصر
 
اطلعت قريباً على عقد بيع شقة بالتقسيط بين مطور ومشتري بالعاصمة الإدارية الجديدة؛ وهو عقد فاسد مخالف لمقتضى عقد البيع؛ مع ما فيه من سبعة أنواع من غرامات التأخير الربوية؛ وشروط فيها أكل لأموال الناس بالباطل؛ وكان من ضمن الشروط هذا الشرط:
 
“البند الثامن عشر: – حوالة الحقوق” يحق للطرف الأول (البائع) في أي وقت متى شاء أن يحيل او يتنازل عن أي حق من الحقوق الناشئة عن هذا العقد وخصوصا الاوراق المالية الناشئة عنه لمن يشاء وله الحق في أن يخصمها لدى أي بنك أو شركة تمويل دون التوقف على رضاء الطرف الثاني ويعتبر توقيع الطرف الثاني على هذا العقد قبولا وإقرار منه بهذه الحوالة.”
 
فالمشتري في هذا العقد مدين للشركة؛ ولا ينبغي بيع دينه لغيره إلا بموافقته؛ على الراجح؛ فالشرع يراعي أنه قد لا يحب أن يكون مديناً لمشتري الدين الجديد! وقد اشترط الفقهاء ستة عشر شرطاً لجواز بيع الدين لغير من هو عليه؛ منها أن لا يكون بين المدين والمشتري عداوة!
 
وهذا البند الذي ينص صراحة على بيع الدين بالخصم؛ وهو ربا كما ذكرت؛ فالمطور جعل من المشتري موافقاً مذعناً على شرط محرم؛ بغير رضاه؛ ولم يعطه حق الاعتراض أو الرفض! فأقل ما يقال عن هذا الشرط أن المطور أشرك المشتري في الشهادة والرضا بمعاملة ربوية محرمة؛ وهذا لا يجوز؛ إذ أن العقود مبناها على الرضا.
 
هذا ما يسر الله تقييده؛ وإن الناظر في واقع المعاملات المالية في مصر وغيرها ليغتم من تساهل الناس في أمر الربا؛ والأعجب منه تساهل من ولاهم الله ولاية دينية بالإفتاء؛ فما رعوها حق رعايتها!

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s